شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأحلام لا تعود (1)
كان الشيخ "باعمر" رجلاً طيباً صالحاً، وكاد يكون أخف من ظله مرحاً وفكاهة ودماثة أخلاق، وكانت سيرته في حياته موصولة الحلقات على نمط رتيب لا تغيير فيه ولا تجديد؛ فداره تقع على مقربة من دكانه، وهذا الدكان -أو هذه الدكان إن استصوبت التأنيث- يكتظ بالعطارة على اختلاف أنواعها، وعلب الزجاج والصفيح تملأ مواقعها من رفوف الدكان، وعلى بلاط الدكان مربعات خشبية تزدحم هي الأخرى بصنوف من الحبوب.
وكان الرجل كيساً لبقاً في بيعه وشرائه ومعاملته، ويسارُ حاله يعزيه أحياناً بأن يحسن إلى ذوي الحاجة، وسمعته تشبه -على الإجمال- تلك "الكرة" الذهبية الكبيرة التي جمعها من كده ونصبه وألقاها في تلك "السحارة" في ناحية ما من نواحي دكانه، ثم أحكم إغلاقها..!
كان في منتصف العاشرة إلى الخمسين على صحة وجلد ونشاط، وكان يفتح الدكان في بكرة الصباح، حتى إذا متع الضحى أخذ مكتله، وابتاع ما شاء أن يبتاع من طعام وأوصله إلى زوجته "سلومة" وعاد إلى مقر عمله، فتزول الشمس، فيغلق دكانه، ويصلي الظهر في المسجد ويضع مصنفه (2) على عاتقه، ويذهب إلى الدار، وإذا الخالة "سلومة" قد جهزت له الغداء وقابلته بفائق من حسنها وبالغ من ترحابها، وآنسته بالكثير من بشرها، فيتغديان سوياً، ويرشفان على مهل أكواباً من القهوة والشاي، ثم يضع رأسه فيقيل، ويصلي العصر بالمسجد ويفتح الدكان، وهكذا فلا يعود إلى داره إلاّ بعد أداء صلاة العشاء، ثم يتعشيان، ويتقهويان ويأويان إلى مخدعهما.
أما سلومة فكانت جميلة جمالاً محتشماً وقوراً، وكادت أن تتسلق سطح الثلاثين من عمرها، لولا درجتان أو ثلاث ما تزال تتخطاها في أناة وهون.
كانا على أتم الوفاق، وكان حبهما من نوع ذلك الحب الخفي المكنون الذي ترسخ جذوره في أعماق الثرى ولا يبدو للناظرين منه شيء ذو بال.. وكان أشد ما يؤلمها، ويهيج حزنها هذا العقم الذي لا يعرف مأتاه، ولا من أيهما جاء.. وكم استطبا وتداويا فلم يشف دواء ولم ينجع علاج، وقد [مر] (3) على زواجهما ما ينيف على أربعة عشر عاماً، حتى كاد أن يخلدا إلى السكينة، وأن يفيئا من قلقهما إلى الطمأنينة.
وأصبح "باعمر" ذات صباح وإذا هو متهلل الوجه، مستبشر الأسارير، قال:
أين أنت يا سلومة؟ يا له من حلم جميل بهيج! لقد رأيت أنني أتمشى في روضة مونقة، ذات أشجار فارعات كأنهن غيد أماليد، وطمحت عيني من بعد إلى شجرة خوخ، فملت إليها وهززتها لعلّها تساقط علي من فاكهتها الجنية، ولكنها! ماذا أقول؟ لقد سقط منها طفل حلو سمح الوجه بض الراحة يشبهني أيما شبه، وحملته في فرح لا يوصف.. وكدت أخشى أن تلحقني الشجرة، فتستعيد ثمرتها، ولكني نجوت.. وخرجت من باب الروضة.. آه هل أنا صاح الآن؟ أين الطفل يا سلومة؟
ضحكت سلومة في إشراق وقالت: خيراً خيراً، كن مسروراً إن الله لا يفعل إلاّ الجميل.. وانصرمت سنون ثلاث، وانقطع أملها، وضرب اليأس عليهما بأسداده، وسلما أمرهما إلى الله. وفي ذات يوم قال باعمر لزوجته: إني ذاهب أودع صديقي "باحسن" فقد اعتزم أن يعود إلى حضرموت ليصفي هناك أعماله..
قال باحسن:
يا صديقي إن ابني هذا قد ماتت أمه منذ عام كما تعلم، وإنه سيثقلني لو أخذته معي، ولكني سأتركه عندك، إنه ابنك فعلمه وربه وأدبه، فمن يدري فقد أموت؟ وانحدرت دمعة على خد باعمر، ولكنه ريع كل ارتياع حينما التفت إلى الطفل فانثالت دموعه مدراراً، وأخذ بيد الطفل فحمله على منكبه، وطفق يديم النظر إلى وجهه.
ما أعجب صنع الله، إنه يشبه ذلك الطفل الذي هبط إليه من شجرة الخوخ، وإنه فوق ذلك ليشبهه أتم الشبه وأوفاه.
وراح يسعى به إلى داره في حنان وحب، ولكنه عندما تذكر حلمه القديم قال وهو يتنهد في أسى: حقاً! إن الأحلام لا تعود؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :213  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 132 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.