شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصياد والسمكة (1)
ما من شك في أن الإِنسان عندما يكثر الاختلاط والامتزاج بشيء معين، فإنه يكتسب مع الاستمرار مشابه باطنة أو ظاهرة في ذلك الشيء، وتبدو عليه سمات واضحة بالشكل أو خفية بالمعنى من كل ما يتوفر عليه أو يمتزج به أو يصفيه وقته أو يبذل فيه جهده؛ فالحداد -مثلاً- ترى في ثيابه ووجهه صدأ الحديد، فإن كان يتأنق في هندامه بعض الشيء فستجد آثاراً حديدية في عقليته أو في روحه أو في سلوكه أو في عباراته على الأقل. والحمَّار لطول إلفه للحمير وخدمته لها واختلاطه بها لن تعدم شية حمارية "عالية" في بعض ما يبدو منه من حركة أو سكنة أو قول قاصداً أو غير قاصد. لا أحتاج أن أقول إن المقياس لا يطرد على الدوام؛ ولكنك لو رأيت "مسعوداً صائد الحوت" لعلمت أن عناصر المخلوقات مهما تباعد بها التناقض، فإنها تتصل أوثق الاتصال وتتشابه أتم التشابه إن لم يكن في البين الظاهر ففي الخفي المكنون.
إن مسعوداً -سبحان الخالق- بعد أن غبرت عليه أربعون سنة في اصطياد الحوت، أصبح سمكة ناطقة تسير على قدمين آدميتين، ولها مثل وجه الآدمي أيضاً مع بعض الانحراف المحسوس إلى عرض الوجه بدلاً من طوله؛ حتى لكأنك أمسكت رأسه بيد وذقنه بيد ثم ضغطت ضغطة جيدة، وأمسى أعلى رأسه مسطحاً مستوياً، ولو رأيت -عن عرض- أعلاه وغاب عنك أسفله، لبادرت ولو لم تكن صياد حوت إلى الشبكة واحتويته فيها.
وله مع ذلك فلسفة خاصة، ويحتفظ بنظام رتيب كلما أراد أن يدلي رجليه في البحر ويقذف بشبكته، فهو لا يصطاد كل يوم -في أواخر عمره- فقد أصبح ذا يسار متوسط، وإن يكن صيد الحوت قد ديف بلحمه وسيط بدمه، بيد أنه اتباعاً لفلسفته الخاصة لا يخوض البحر صائداً إلاّ في أيام معدودة معلومة من كل شهر، ولست أدري هل تقوم فلسفته "الحوتية" على المد والجزر، أم على ليالي القمر، أم على هيجان البحر؟ غير أنه يعرف من مهنته ما لا نعرف؛ وهو لذلك قل أن يسأل أحداً كلما خطر له أن يحمل شبكته ويذهب للاصطياد، ويحدث عن نفسه بفخر عظيم فيقول:
إني عندما أحزم أمري على الاصطياد لا أذهب إلاّ عند متوع الضحى، ولا أبرح مكاني المعروف بين الصائدين العديدين، وما يقبل العصر إلاّ وقد أوقرت حمارين أو ثلاثة بين أحمر قرمزي وأزرق لازوردي وأصفر فاقع وأسود غربيب.. إلاّ مرة واحدة خلال هذه الأربعين عاماً، فقد كان صيدي -طول اليوم- جثة كلب ميت، فأعدت إلى البحر هديته النفيسة، وشكرته أوفر الشكر، وانصرفت، يقول هذا ويضحك ويختم حديثه دائماً بقوله:
مهما يكن من أمر فالحمد لله على كل حال.
أما هذا اليوم فقد رأيت معه شبكة جديدة بعد أن تلفت شبكته الأولى، وقد بكر مع العصافير، فعلمت أن دعامة يساره قد تزلزلت، وترك مكانه المعروف وذهب بعيداً، وألقى شبكته وأخذ بطرفها، وكان البحر صافياً رقراقاً كأنه ماء في كوب ثابت.
وكان هناك سمكتان كبيرتان تتحدثان؛ تارة تطفوان، وتارة ترسبان، وشغلت إحداهما عن حديث أختها، فقد ذهبت تطارد بعض الحيتان الصغيرة، وتزدرد منها قوتها المعلوم، فأوغلت في البحر إلى مدى بعيد، أما رفيقتها فقد استمرت تتم حديثها مع نفسها وأخذت تجنح إلى الشاطئ شيئاً فشيئاً وهي تسخر من أحلام أمتها أمة الحوت، واصطدمت بدودة من ديدان البحر قد وقفت في الماء على شكل أفقي، فانقطع عليها حبل حديثها وسخرها، ولما عاد إليها جأشها قالت:
من أنت يا سيدتي؟
فقالت الدودة في غير مبالاة: أنا دودة، فاحتقرتها السمكة، وقالت: يا لك من متاع زهيد. قالت الدودة: بل أنت زهيدة. إنك ترينني صغيرة، وإني لأنظر إليك نفس النظرة لو ألقينا عنك هذا الدرع الذي على ظهرك وأخرجنا هذه الزعانف التي لا لزوم لها، ورمينا هذا الحشو الذي يملأ جسمك في كل مكان، واستغنينا عن هذه الفضلات الريشية التي تزين ذيلك.
فنفخت السمكة في الماء بقوة حتى صنعت فيه مثل النفق، وارتفعت عمودياً، ثم هوت في غير اكتراث إلى الشاطئ القريب، وهي تقول: حقاً إنه لآخر زمان، دودة حقيرة تشتمني، وتتطاول علي، وتريد أن تجردني من خير محاسني وتنضو عني أثمن شياتي التي لولاها لغدوت دودة حقيرة مثلها.. انظروا ما أكثر الدود هنا بين كبار وصغار!
واهتاجت حفيظتها، وهجمت على "الطعم" فالتقمته وفتكت به، ولكنها لم تتم حديثها الشائق فقد احتوتها شبكة مسعود.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :249  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 131 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.