شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أنا لست بفاضل (1)
كل إنسان يسره أن يكون فاضلاً في نفسه وعند الناس، ويسره -أكثر من ذلك- أن يكون فاضلاً عند الناس، وإن لم يكن كذلك في حقيقة أمره، وفي ذلك ما يشبه التعويض عن الاعتلال الذي يجده ملازماً له في نفسه.
والفاضل والمفضال صفتان مأخوذتان من الفضل، والفضل هنا لا يحتاج إلى تعريف، وهناك فضل آخر وددنا لو أن هاتين الصفتين مشتقتان منه، وهو ما يدل على بقية الشيء إذا اُستغني عنها، وقذف بها في وجه من أراد أن يتعزى بها!
وقد أَلِفَ كثير من الناس أن يقولوا عن كل إنسان إنه فاضل كلما كتبوا إليه أو تكلموا عنه أو خاطبوه، وقد قيلت لي ألف مرة فيما يُبعث إلي من الرسائل، وفي غيرها.. وأصبح لها بحكم تردادها على سمعي ولساني، وطول إيحائها في نفسي مثل الدوي الذي يرن في الأذن ويستمر رنينه كلما تداول سمعَ المرء أنمله العشرُ، كما يقول أبو الطيب (2) .
وخشيت أن أصبح فاضلاً حقاً، وإن كنت أتمنى ذلك، وعاد رأسي من طول التفكير في "فاضل" هذه مثل الأرجوحة وحده يديرني يميناً وشمالاً، وأصبح لها من جسمي في مثل الطاحونة، ولا مراء في أن كل إنسان إذا أعياه أن يكون فاضلاً حقاً، فإنه سيدّعي ذلك، ويلقيه في أخلاد الناس، وسيجد أخلاد كثير من الناس هلامية رخوة؛ تقبل كل شيء، ولا تطلب الدليل كلما قيل لها: إن الجمل صعد في المنارة.. كما يقولون.
ولكني -لعثار حظي- أجوع، ولا يمكنني أن أستعيض عن اللحم برائحته على بعد أميال فأعود شبعان لأيام.
ولماذا أتعب نفسي، والميزان في يدي، وفي وسعي أن أزن نفسي، وأعرف أي فاضل يمكن أن أكون؟
وسأجرد نفسي من تأثير البيئة والجو والمخالطة، وإن كان تأثيرها لا ينكر، وأنظر إلى نفسي من جانب خاص، قد ينساه الكثيرون كلما أداروا النظر إلى نفوسهم.
أنا لست فاضلاً..
أنا أكذب دائماً -لا أحياناً- وأيسر كذبي، أني أستحي من صديق فأصوب فعله وإن كان مخطئاً، وأنافق مع كبير، فأراه عدلاً، وإن كان ذا عوج.
ولا ريب أني مداهن، كلما أجمع مجلس حاشد على مدح إنسان فشايعتهم على هذا المدح، وإن كنت أعتقد في قرارة نفسي أنه يستحق الذم.
ولا جرم أني لص (لص صغير طبعاً)، فإني أحب أن يزداد مالي، ويمد أخطبوط ثروتي ذراعه في كل ناحية، وكأنه ليس من شأني أن أسأل من أين جاءت هذه الثروة وهل تحل أم تحرم؟ لا من ناحية الدين فقط، بل كذلك من ناحية المروءة والإنسانية والضمير.
ولا شك في أني أعمل المخازي في الليل، ولو لم يكن في ذلك إلاّ أني أتمثلها وأستعيد ماضيها أو أحلمه بما أستقبل منها، ولكني أمام الناس ألبس مسوح الزاهد العابد المتبتل؛ لا الفاضل فحسب!
وقد تكون سمعتي سيئة عند الكثيرين، ولكني أوهم القليلين الذين حولي أن سمعتي عند الناس جميعاً أحسن من البدر ليلة التمام، وأتسلى بالقلة من الناس عن الكثرة في سمعتي المثلومة.
وقد أحترم إنساناً، وأتعلم من أجله آخر وأحدث فنون "الانحناء" حتى أقدم إليه أرفع احترام ممكن، وأنا أفهم كل الفهم بعد إيمان صحيح أنه جدير بالصفع والازدراء.
وقد تخدعني الكلمة الطيبة من إنسان فأضفي عليه بالمثل أطيب منها، وأنا أعلم صدق العلم أن كلينا غير حقيق بهذه الكلمة الطيبة.
ويشهد لي أحدهم بأني بارع في الشعر، فأُضطر إلى أن أشهد له بأنه هو الآخر بارع جداً في القصة -مثلاً- وأن ذوقه من أسمى الأذواق، وبعد أن يذهب "أجبر الكسر" في نفسي، وتنتهي العملية الحسابية، بأنَّا غير بارعين في كل ما شهد به أحدنا للآخر!
ويحدثني بعضهم عن شخصيات ويحسن النفخ في البوق، ويترك مجلسه، فإذا أنا بفعل الإيحاء، قد سحرني النغم، وتهيأت للرقص، وأنظر إلى الأمر نظرة عقلية مجردة، وإذا أنا أحس بأن اللعاب يتحلب في فمي، ولكن أين من أبصق عليه؟
إلى كثير وكثير، فأين الفضل؟ كلا، إني لست فاضلاً، بل ما زلت من أبعد الناس عن أن أكون ذلك الفاضل!
ومع ذلك، فعلى القارئ الذي يعنيه أن يقرأ مثل هذا الهراء أن يبسط أنامله، ويعد على مثل [هذا] (3) المقياس أو على مقياس أدق وأضبط منه، ويفيدني أفاده الله.
كم فاضلاً نجد في هذه الدنيا؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :459  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج