شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
القياس الفاسد (1)
بالرغم من أن الناس في عصر نادر المثال يهدر بأمواج من العرفان والأنوار والثقافات؛ وبالرغم من أن عقليات الأفراد -فضلاً عن عقليات الشعوب- قد ترقت وبهرت، وازدادت عظمة وسموقاً، بالرغم من كل ذلك، فإن الضمائر المعوجة السقيمة ما تزال تعيث وتتخبط في النفوس الإنسانية أبشع عيث وتخبط.
وأنا شخصياً لا أكاد أؤمن بهذا الضمير المتهافت المعلول، ولكني سأتكلّم عنه كما يؤمن به السواد، وكما يتصورونه، فأنت لك ضمير مستقيم نبيل؛ وضميرك يلهمك ويجعلك تعتقد أوكد الاعتقاد أن الحق معي، ومع ذلك فإنك ما تفتأ تلط حقي بالباطل، وتكذب ضميرك بلسانك، وتبهرج العقيدة الصادقة بما تحسنه من ساحر بيانك فأي ضمير هذا؟
إنني لا يجديني أن تؤمن في قرارة نفسك أني على حق، ثم تمنعني هذا الحق أو تغالطني فيه، وهذا قياس صحيح، ولكنه أصبح فاسداً في هذا الزمن العجيب، وعلة انقلابه من صحة إلى فساد، هي هذه الضمائر التي هبطت إلى المزاد بين ارتفاع في الأثمان أو انخفاض.
فإذا كنت رب ضمير شريف وأنت جائع أو مغمور؛ فما عليك إلاّ أن تئد ضميرك، فتعود غنياً سرياً وجيهاً، فإن ركلت هذه النعمة المتاحة برجليك، فأنت جهول أحمق!
وما تزال الأطماع، وحب الثروة والظهور وفتنة السلطان والرفعة تسيطر على النفوس، وما يبرح الإنسان في ظروفه وبحكم غريزته المتقلبة بين دفع وجذب وشد وإرخاء، فأي نفس مهما كانت سامية وعظيمة تستطيع أن تتغلب على هذه العوامل القوية القهارة؟
وأصبح الخداع متحكماً -أيضاً- تحكماً فظيعاً فإنك لتتحدث إليّ عن كرمك الفياض، وأنا أؤمن على كلامك وأزيده تفصيلاً وأعرف في الوقت نفسه أنك من أبخل خلق الله.
وهكذا تمضي هذه الأنماط إلى أغرب وأكذب ما تمضي إليه خلائق الناس وطبائعهم.
وليس الخداع شية من شيات النفس الثابتة، حتى نتقبل سيطرته كرهاً، وإنما هو ضرب من ضروب المين المستحدث من الوهم الخالص، وإلاّ فأي أضحوكة أشد من أن أدعي أني من أبصر المبصرين، وأنا أعمى لا كالعميان؟
ففي هذا الزمن الذي أصبح الخداع يجوز فيه، ويجري كالريح وله سعر الذهب، بتنا نرى فيه صنوفاً من الناس، أحدهم يدعي أنه ينتصر للديمقراطية، وهو لا ينتصر إلاّ لحكومته، والثاني يجزم بأنه يحدب على الفقراء والعمال، وهو إنما يحدب على مذهبه السياسي؛ وآخر يقول: إنه يحمي الدين، وهو إنما يحمي نفسه وكرسيه، ويصرخ رابع، فيقول: إنه يريد السلام؛ وهو إنما يريده لقوم دون آخرين، وهكذا أصبح الخداع هو بهلوان الزمن الذي يمشي على الحبال ويجتاز الآفاق ويضحك كالأبالسة!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :456  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج