شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وعي المستقبل
الأستاذ قدري حافظ طوقان
على عتبة عهد جديد تقف اليوم الشعوب العربية جمعاء تحاول أن تبني لها حياة جديدة، ومستقبلاً جديداً.
على عتبة عهد جديد، بعد أن تحررت أكثر هذه الشعوب من التبعية السياسية للغرب، تقف هذه الشعوب مصوبة نظرها إلى الأمام، يحدوها الأمل الكبير في النهوض من جديد وفي إعادة ما اندثر من مجدها، وانهار من حضارتها!
وفي مثل هذا الموقف من مواقف الشعوب.. في مثل هذا الموقف الفاصل عندما يتاح لها أن تتحرر من التبعية، وأن تحاول أن تنفض عنها غبار الماضي.. في مثل هذا الموقف من مواقف كل شعب يبدو أنه ليس من بد من أن يكون للماضي المتخلف آثاره الفكرية والنفسية في حياته العامة..
وليس من شك في أنها سنة الله في الوجود أن يكون لكل أمة مواطن قوة ومواطن ضعف، وأن يكون لها مساوئ إلى جانب ما لها من حسنات.
والعرب بدورهم لا يختلفون عن غيرهم في هذا المجال!
نعم: إن للعرب حسناتهم التي بيضت وجه التاريخ، ولهم من أمجادهم ولهم من حضارتهم، ولهم من مناقبهم وأخلاقهم ما اعترف بعظمته على مر العصور خصومهم الألداء.. قبل الأصدقاء..!
لكن.. هل هذا يعني أنه ليست للعرب مواطن نقص تستدعي النظر، وتستوجب التفكير؟
هل يعني أنهم بريئون من كل العيوب؟
نعتقد أنه لا يمكن أن يقول هذا قائل لأنه مناف للحق، ولأنه مناف لطبائع الأمم ونفسيات الشعوب!
لقد مرت على العرب والمسلمين أدوار من التخلف وأدوار من الحكم الأجنبي المتعسف كان بعضها كافياً للقضاء نهائياً على حيوية الإسلام! لكن على العكس.. لقد استطاع العرب برغم كل ما مر بهم من عسف ومظالم وعهود تخلف أن يبقوا على كيانهم ويحتفظوا بحيويتهم، وهنا لا بد لنا من أن نذكر أن للإسلام الفضل الأول دون أي جدال في الإبقاء على الكيان العربي الإسلامي محتفظاً بروحه الأصيلة رغم النوائب ورغم الأحداث!
لكن مع الاعتراف بذلك، فقد كان لا بد لعهود التخلف والحكم الأجنبي المرير من أن تترك بعض آثارها في النفسية العربية!
وهنا يأتي دور الكتّاب الهادفين.. أولئك الذين لا يرون أن الإخلاص هو فقط في مجرد الإشادة بالماضي والتنويه بالأمجاد، وإنما يتمثل الإخلاص أيضاً في شيء آخر.. يتمثل في "التزام" الكاتب أن يتوخى الحق في كل ما يقول، وأن يكون صريحاً في مواجهة أمته بالحقائق، حتى ولو كانت في بعض الأحيان مرة فلا يتردد عند الاقتضاء من أن يندد بما يراه فيها من مواطن ضعف ومن نقائص وعيوب!
* * *
ومؤلف هذا الكتاب الذي نعرض له اليوم -الأستاذ قدري حافظ طوقان الكاتب الباحث المعروف، والذي شغل زمناً منصب وزير الخارجية في الأردن الشقيق- ينحو هذا النحو ويتخذ هذا الأسلوب: أسلوب الهدفية والالتزام في كتابه هذا "وعي المستقبل".. إنه يتحدث في كتابه هذا، في صراحة وفي واقعية، ويندد بنقائص وعيوب كثيرة ما تزال متفشية في الكثير من الأوساط في البلاد العربية.
فلنستمع إليه في الفصل الأول من فصول الكتاب، حيث يتحدث فيه إلينا عما يراه مترسباً اليوم في النفسية العربية إجمالاً من صفة عدم الشعور بالمستقبل على حسب تعبيره.. فنراه يقول:
"يمتاز العرب بعدم الشعور بالمستقبل وعدم إحساسهم به.. فهم لا يفكرون إلاّ في الحاضر، وقد تركوا المستقبل غير حاسبين له أي حساب، فهم في الحاضر الذي يعيشون فيه لا يكلفون أنفسهم مشقة العناية به أو الاستعداد له، ولماذا الاستعداد أو الاحتياط؟ فلقد أتقنوا الارتجال وتمرسوا به.. وأصبح الشعور بالمستقبل بعيداً عنهم، وغريباً عليهم، فجاءت أعمالهم تدلل على ذلك، وكان الفشل الذي أصابهم في جميع نواحي الحياة نتيجة طبيعية لهذا كله.
ولست مغالياً إذا ذهبت إلى أن عدم إحساس العرب بالمستقبل من العوامل التي جلبت عليهم النكبات في بلادهم والإخفاق في الميادين السياسية والدولية!
ولا شك في أن الشعور بالمستقبل، أو الإحساس به عامل من عوامل نجاح الغرب.. فالغربيون يفكرون في المستقبل ويعملون على الاستعداد له، ويهيئون أنفسهم لأحداثه، ويبذلون الجهود في الاحتياط والتبصر بما يخبئه بين طياته من حوادث ومفاجآت..".
هي ذي ناحية من نواحي النقص يشخصها لنا هذا الكاتب المفكر الرصين.. إنها ناحية خطيرة لا شك، وهو يعرضها لنا لا يتردد في أن يبدي لنا ما يراه من العلاج الواجب لها فيقول:
"... لا يمكنهم -العرب- تربية الشعور بالمستقبل، وتنمية الإحساس به، والعمل للغد والاستعداد لحوادثه ومفاجآته إلاّ إذا أخذوا بالعلم وأسلوبه وعاشوا بالعلم واستخدموه في التربية.. الخ".
ثم يقول: "لقد نزلت كارثة فلسطين بالعرب أجمعين فكانت نتيجة حتمية للأوضاع والأساليب التي اتبعها العرب في الجهاد والحياة.. فهي بعيدة عن العلم لم تقم على أساس.. لقد كان الوضع في فلسطين ينذر بأوخم العواقب، وكانت الأخطار تهدد البلاد العربية عامة، وفلسطين خاصة، فماذا عمل العرب؟
لم يحسبوا حساباً للغد ولا لهذا كله.. وراحوا يكيدون لبعضهم، وينشرون على الناس مشاحناتهم وخلافاتهم، ووقعت الكارثة فلا استعداد ولا احتياط..!
وكانت الأهوال.. وقد انصبت على العرب فطعنت كرامتهم وأضاعت أجمل بلادهم، وشردت مليوناً من البشر يهيمون في أجواء من الفاقة والبؤس والشقاء.. فلو كان عند العرب إحساس بالمستقبل وساروا في كفاحهم على أسس من العمل والتنظيم لاستعدوا وأعدوا العدة ودفعوا عن أنفسهم وبلادهم المصائب والأهوال..".
ويربط المؤلف وهو يتابع حديثه في هذا الفصل بين الشعور بالمستقبل والشعور بالمسؤولية، فيقول: إن الشعور بالمستقبل لا يتم ولا يكون مثمراً إلاّ إذا صاحبه شعور بالمسؤولية، فهذا الشعور هو من مقتضيات ذلك الشعور، وهو من عوامل النجاح وأسباب التقدم، وقوة الشعور بالمسؤولية في الجماعات والأفراد دليل على رقي المجتمع وحيويته؛ فالشعور القوي يدل على النضج واتساع الأفق، والشعور الهزيل يعني التأخر وضيق الأفق ومحدودية الأهداف والغايات.
.. ويحضرني في هذا المقام -يقول المؤلف- حديث نبوي من جوامع الكلم، وروائع القول، قد صور فيه الرسول الكريم الشعور بالمسؤولية وأثر التهاون فيه في حياة المجموع أبلغ تصوير.. قال عليه السلام: .. مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها.. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: إذا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا.
يتحدث المؤلف أيضاً عن الشعور بالنقص في فصل آخر من فصول الكتاب يقول فيه:.. الذي أريد تأكيده هو أن تخلف العرب عن ركب المدنية وتقدم الغربيين عليهم في سائر الميادين قد أوجد عندهم شعوراً بالنقص.. فهم متأخرون وغيرهم في تقدم، وهم دون غيرهم في الاختراع والاكتشاف والفكر والإثمار، فأصابتهم شكوك في قابلياتهم، وتزعزع إيمانهم بمقدرتهم وتاريخهم، وراحوا على غير شعور منهم يلجأون إلى أساليب يعوضون بها هذا النقص المتركز في تأخرهم عن ركب الحضارة فكان اهتمامهم بالشكليات، وكانت عنايتهم بالقشور، ولم يلتفتوا إلى الأسلوب، ولا إلى الطرق القويمة والسلوك السليم في معالجة المشاكل وقهر الصعاب، ولا إلى المناهج التي تؤدي إلى النمو المتصل والتقدم المستمر، وقد دفعهم هذا كله إلى غرور طغى عليهم وأبعدهم عن الحقائق والمفاهيم الحديثة، فأساؤوا فهمها وتقديرها..
ولم يستطيعوا تكييف عقولهم وأنفسهم للمفاهيم الحديثة وروح العصر فاستهان بهم الغرب وغلبهم على أمرهم واستغلهم واستعمرهم في أنفسهم وبلادهم وأنزل عليهم ألواناً من الكوارث وأنواعاً من النكبات أدت إلى سيادة فكرة خطيرة عند الكثيرين، وهي أن العرب لا يصلحون للحياة، وأنهم ليسوا أهلاً لتحمل مسؤولياتها وأعبائها، وأنهم يعيشون على هامشها لاهين بالسفاسف، بينما سار الناس في سائر الديار في ركب الحضارة جادين منتجين فورثوا الأرض وما عليها من خيرات، وما فيها من كنوز، وكانوا الجديرين بالحياة الصالحين لمسؤولياتها.
ولست بحاجة إلى القول، أنه إذا استمر هذا الشعور بالنقص على هذه الحال فسينمو هذا الشعور، ويدفع إلى اضطراب في التفكير، وإلى انعكاف العرب وانكماشهم على أنفسهم وانعزالهم عن العالم، وفي هذا ما فيه من تعطيل لمواهبهم، وإيقاف لنموهم وتقدمهم، فإذا هم يعيشون على هامش الحياة، قد أقعدهم الخمول والجمود عن الحركة والمجاراة..
على المسؤولين والمفكرين أن يدفعوا هذا الشعور بالنقص عن بني قومهم العرب، وأن يدخلوا في البرامج والمناهج أساليب تعويضية تخفي هذا النقص وتزيل آثاره..
.. إن الصعاب والمشاكل تحيط بكل نهضة، وتعترض كل حركة ترمي إلى التقدم، فعلى الشباب ألاّ تثنيهم المتاعب والنكبات عن عزمهم في تحرير بلادهم والنهوض بها، وعليهم أن يدركوا أن قومهم ليسوا الوحيدين في مجابهة الصعاب والمآسي، فكل أمة نهضت جابهت ما يجابهه العرب الآن من العقبات ولكنها تغلبت عليها واجتازتها بالعزيمة والإرادة والإيمان.
وفي إمكان العرب إذا عزموا وأرادوا أن يجتازوا عقباتهم ويقتحموا الصعاب، ذلك لأنهم كغيرهم من الأمم من الكائنات الحية التي تكمن فيها القابلية للحياة والقوة لأداء رسالتها، وليست المشاكل والصعاب بشيء إذا ما آمن العرب بحقهم في الحياة والتقدم.. ولهذا وجب على العرب ألاّ يفزعوا من هول النكبات المنصبة عليهم، وألاّ يعتريهم هلع من المصاعب المحيطة بهم، وعليهم أن ينزعوا من أنفسهم الشعور بالنقص.. ويؤمنوا بقابلياتهم وصلاحيتهم للحياة والقيام برسالتها.
* * *
ويتناول في فصل آخر ما يسميه "مركب الوهم".. فيقول: العرب مبتلون بهذا المركب. لقد سيطرت عليهم مجموعة من الأفكار العاطفية والمادية بقوة الغرب والإنجليز وجبروتهم وسطوتهم ومقدرتهم على كل شيء، واندست في العقل الباطن فأثرت في اتجاهاتهم وميولهم وتفكيرهم فكان الوهم بالغرب ومعاملاته وأساليبه قد بلغ الذروة..
فإن ثار العرب، قالوا إن المحرك هو الغرب ومؤسساته.. وإن تحرك العرب، قالوا إنه بحافز من الإنجليز..
وقد سادت هذه الآراء عند العرب حتى أصبحت عقدة نفسية، ومركباً عند الكثيرين في سائر الأقطار العربية.
فكان هذا الإخفاق في حركات العرب في العشرين سنة الماضية وكانت المصائب التي توالت على بلادنا، وكانت نكبة فلسطين وما صاحبها من مظالم وإرهاق وتشريد وضياع أوطان..!
وبدأ الوعي يعمّ الفكر العربي، والحجب الكثيفة تنزاح عنه.. وأخذ الوهم يتبدد في أجواء الحقائق والإيمان..
واستولى الوهم حيناً من الدهر على الهند وقال الناس: إن الإنجليز فيها مقيمون.. وإن في إقامتهم السلام والخير والاستقرار.
وأفاق زعماء الهند من رقادهم الطويل..
وتصادمت الآراء في المؤتمر الهندي وكان احتكاك بينها.. وكانت حركات انبعثت منها شرارات وبروق بددت غيوم الوهم بالغرب وأهدافه.. وإذا في الهند دولة، وفي باكستان دولة تسيران مع العاملين في ميادين الحياة والتقدم، وتعملان على المساهمة في خدمة الإنسانية والسلام.
ويمضي المؤلف الفاضل ولا ينسى -وهو أحد الذين تلقوا العلم في الجامعات الأمريكية- أن يشير إلى أمريكا في فصل مستقل.. يقول فيه: "يكثر الحديث في هذه الأيام عن أمريكا، وحضارة أمريكا، والتقدم العجيب الذي أصابته في مختلف نواحي الحياة وميادينها.
وكيف لا يكثر الحديث عن أمريكا وقد احتلت مركز الصدارة في الشؤون العالمية من اقتصاد وسياسة وسلم وحرب وإنعاش..
وأمريكا تتجه في معاملاتها وأساليبها على أساس جديد يقوم على تقديم المعونات المالية والفنية، وذلك -كما يقول ساستها- لمساعدة الأقطار المتأخرة، ودعم السلام وتحريك القابليات، ولولا التعب لما تقدمت الحضارة هذا التقدم المادي العجيب، فالاكتشافات والاختراعات هي ثمار التعب والجهود المتواصلة، وحين تخلو حياة الفرد من التعب يعتريه تعب من الراحة.. وهذه الراحة تطفئ المواهب، وتميت العواطف، وتلوي الاتجاه كما تميل بالإنسان إلى الحزن والألم.. وقد تكون مصدراً لنوبات القلق والاضطراب النفسي، يفقد معها ذلك الإنسان السيطرة على نفسه.. فالذي لا يعرف التعب، لا يعرف الكفاح، ومن لا يعرف الكفاح لا يعرف طعم الحياة، ولا لذة الوجود..".
إلى أن يقول: "ومن يدرس النفسية العربية وما أحاط بالعرب ويحيط بهم في سائر الديار من عوامل التخلف والجمود، يجد أن الانغماس في الراحة وفقدان القدرة على التعب -وما ينتج عنهما من تعب فيه الهبوط والقلق- هي من الأسباب الرئيسية التي جمدت مواهبهم، وأوقفت قابلياتهم وأضعفت حيويتهم فلم يستطيعوا أن يقاوموا الاستعمار، ولا أن يجاروا روح العصر في التقدم والنمو..
لقد آن للعرب أن يدركوا أن تقدمهم في الحياة سوف يبدأ من الداخل، ويقوم أولاً وقبل كل شيء على الإنتاج المثمر المبني على الأسس العلمية الصحيحة والأساليب العصرية الحديثة، ولا يمكن أن تقوم هذه الأسس، ولا تلك الأساليب، إلاّ متى أدرك العرب أنهم في حاجة إلى التعب.. وملكوا القدرة عليه..".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :498  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج