ليس من اليسير الكتابة عن عمل إبداعي، وترقي إلى درجة الصعوبة عندما يكون المبدع علماً كبيراً كمعالي الأستاذ محمد حسن فقي، ذلك الطود البشري الأشم، والنبع الغزير العطاء، والمنهل العذب، والعبقري الذي ارتاد وديان عبقر فجمع من ضياء نجيماته حزماً، ومن عبير خزاماه عطراً سحرياً، ومن رحيق وروده شهداً فريداً، وصاغ كل ذلك في قصائده ذات الموسيقى المتميزة.. تكاد تلمس سهولة ويسر معانيه، وعندما تمد يد خيالك بين حبال عطائه المشدود بالكواكب تفاجأ أنك ما زلت بعيداً عن ساحته الرحبة، وفنائه المليء بالحوريات والكنوز الثمينة، فترضى من الغنيمة بالإياب، قانعاً بالضوء الذي تتلقاه من تلك الشمس المشرقة.
إن إحساسي الشخصي بشعر معالي أستاذنا الكبير، سواء في هذا الديوان أو الأجزاء السابقة، شعر لحمته الكلمة وسداه النغم، فهو نسيج لا ينفصم عن موسيقاه الداخلية التي تهز الوجدان وتحدث الطرب الخفي عند المتلقي الذي تأسره فنون البيان فيعيد القراءة حتى يترنم بالبيت والبيتين وأكثر من ذلك دون شعور مسبق يربط القول بالتطريب، وهذا قمة العطاء الأدبي والفني الذي تفتقر إليه كثير من الأعمال الشعرية في مختلف صورها وأشكالها.. كما أن الإبداع عند معالي أستاذنا الكبير .. ليس مبتوراً أو مُنْبتّاً عن جذوره ومصادره التي لا بد منها كعناصر أساسية للعملية الإبداعية وأهمها عنصر الحرية الشخصية التي يتمتع بها شاعرنا الكبير، فهو محلّق في أجوائه الخاصة، بعيداً عن كافة القيود التي قد تؤثر في مسيرته أو تلوي عنق الحقيقة من وجهة نظره ليقول ما لا يؤمن به.. وانطلاقاً من هذه الأرض الخصبة استطاع أن يمتلك ناصية اللغة وهي الوسيلة الأعظم التي تربطه بالمتلقي، والأداة الأكثر تأثيراً في نفسية القارىء .. بالإضافة إلي عنصر الخيال الخصب الذي يجنح به في فضاءات لا متناهية، ويحملنا معه على جناح رياح رخاء، تصيب النفوس العطشى وابلاً أو طلاً من معصراته الثجاجة.. فتحيا المهج، وترتوي القلوب، ويزول ما علق بها من صدأ زاده فساد القول حتى حُمد الصمم، ولا أخالني مبالغاً إذا رأيت في معالي أستاذنا وشاعرنا الكبير ظاهرة تبقى من خلاله الريادة للغتنا الجميلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولعل القارىء الكريم يلاحظ في سياحته عبر هذا الديوان أنه يكاد ينحصر في الشعر الغزلي الرفيع.. غير أنه ليس عملاً بلا جذور، أو تهويمات خيال محض، رغم أن الخيال بالنسبة للمبدع ليس آفة كما يتبادر إلى الذهن، لكني عنيت أنه خيال قائم على أرض الواقع.. ولذلك نحس رنة الحزن والأسى التي تكسو معظم قصائده وتلك لا تنفك عن مجمل حياة شاعرنا الكبير التي فصَّلها في كتابه "قصة حياة" الذي تشرفت بنشره ضمن إصدارات (كتاب الاثنينية - الكتاب رقم 6).. وإذا أسعد الحظ القارىء بالإطلاع على ذلك الكتاب، فإنه سيرى الصلة الحميمة التي تربطه بقصائد هذا الديوان، ذلك أن كلاهما من ذات المشكاة، يضيئان من نفس الزيت النقي، والروح الوثابة المتطلعة إلى المعالي.. ولعلَّ قصيدته التي تحمل عنوان "الملهمة" خير شاهد على هذا الربط العضوي بين كتابه "قصة حياة" ومسحة الأسى التي تكسو ملامح شعره الجزل في كثير من قصائد هذا الديوان.
وكما أسلفت فإن علماً في قامة شاعرنا الكبير ليس من اليسير الكتابة عنه، وإلا جاء القول قاصراً ومقصراً ومبتسراً.. وهيهات أن نلمس هالة من نوره الفياض، أو درة من كنوزه الباهرة، أو رشفة من زلاله الرقراق.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمتعه بالصحة والعافية، ويجعل ما قدم من أعمال كبيرة وجليلة في ميزان حسناته، وينفعنا بما تعلمناه منه، فهو بحق جامعة مفتوحة لكل طالب علم، ومتبتل في رحاب الحب والجمال، والفلسفة الإنسانية في أعمق معانيها، وأبهى حللها، وأنبل مقاصدها.