شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(7)
كان يمشي وفي خطواته ثقل كمن آذاه عبء فادح، وأقلقته أفكار مبهمة.. وانطلق في مشيته ضيق الخطو مقبوض النفس إلى ربوة مرتفعة يكسوها عشب مخضل، وتمتد على جوانبها فروع خضراء، ثم جلس يواجه فتاته على حافة الربوة حيث تجلس، وأرسل عينيه تجولان في الأفق، وقد ذابت الشمس وراء الأفق، فتكسّرت أضواء الشفق على منحدرات التلال البعيدة، وانعكست أشعته على الغدران المنتشرة بين حنايا الوادي.
وسبحت خواطره، وانطلقت أفكاره فيما آل إليه أمره في مثل هذا المكان المقفر.. ترى أي الصدف ساقته إلى طريق هذه الفاتنة؟ وما شأن أهله بعده وهم يجهلون سُدته، ولا يعرفون طريقه؟ وإذا كان فيهم مَن ألف تغيّبه وهيامه بالتشرد في الآفاق فإن فيهم حديث العهد بهذا الشذوذ.. زوجه الجديدة وأطفاله الصغار، وهم يعدّون عليه ثوانيه، ويرقبون أوبته بعد كل ساعة وأخرى.
ثم ما هذا الشعور المبهم؟ أغبطة هو وسرور بالحال الذي انتهى إليه، والصدفة التي انساق إليها؟ أم استياء وقلق استوليا على نفسه من جرّاء هذا الطارىء الجديد؟
إنه يشعر أنه ليس مطلق الإرادة لينصرف إلى نفسه، ويعود أدراجه إلى بيته، فما مبعث هذا؟
أهو غريزة الفضول المتأصلة فيه ولا أكثر؟.. أم هو عاطفة هادئة وحنو نزيه؟
أهو نزوة حادة من نزوات النفس المريضة، لا يملك نفسه معها، ولا يضبط عنانه فيها؟
أهو غرض شيطاني جامح أضلَّه وأعماه؟
وثارت نفسه لخاطره الأخير، وتمرّدت عليه، فما هو بالحقير للشيطان يجمح به أو يضلُّه أو يعميه.
وعاوده القلق مرة أخرى.. إنه يشعر أنها دخلت في نفسه أكثر ممّا يجب، واحتلَّت من تفكيره أكثر ممّا يسوّغه الفضول في العادة.. وأن العطف والحنو ليس فيهما من يقظة الشعور ورقدة الحس ما يشعر بهما الآن.
إنها إذن نزوة النفس المريضة، ونكسة القلب المبلِّ من علل قديمة.
وبعد.. فما مكاني منها، ونصيبي من دخيلة نفسها؟. إنها ولا ريب مدلَّهة بقوتها وثبات جأشها، ولها من أفلاطونيتها وفلسفتها وكبريائها حصن لا تنفذ منه سهامي، ولا تتسلق إليه أحلامي.. وعجب من نفسه كيف تطرقت هذه الهواجس إلى قلبه الخليّ، وكيف نزل بصديقته إلى مثل هذه الظنون المريبة؟
شعر فجأة بثقل الهواء على رئتيه، واطِّراد أنفاسه اطّراداً غير منتظم، فهبط مِن حافة التل، وأخذ يثب من مكان إلى آخر، يصعد صخرة وينزل وهدة حتى انتهى إلى شاطىء جدول اتخذ مقعده منه، يستنشق النسيم الرفّاف حتى سكن وجيبه وانتظمت أنفاسه.
وعاد طريقه الأول إلى حافة التل، واستوى مكانه يسرح بصره في أشجار الرمان الممتدَّة في أحشاء الوادي، تعرض بينها الكروم، وتلتفُّ خلالها شجيرات السفرجل، تموج تحت أقدامها قيعان لامعة من البرسيم، وعلى حفافي الوادي، وبين أكناف التلال، قامت بضعة منازل، تجلِّلها أدواج ضاربة في أجواز الفضاء، وتلتفُّ في عرصاتها أشجار التين فينانة فيحاء.
كان مأخوذاً بروعة الطبيعة وجمالها الفاتن، وظل على حالته وقتاً لا يدري أنه طال، حتى شارف الفجر.. كان فكره هائماً سابحاً من كثيب في الوادي إلى مرج، ومن غصن شجرة إلى ضفة جدول.. وشعوره مبهماً لا يحد ولا يقدَّر. وكأن قصيدةً حائرة في فم الطبيعة لا موضوع لها ولا عنوان.
وحانت منه التفاتة إلى المكان الذي ترك فيه مضيفته (نابغة الجبل) تستغرق منذ البارحة، فوقع نظره عليها وقد جمعت كفيها النحيلتين تسند بهما رأسها، فانحلَّت عرى ملاءتها عن جيد دقيق، ونضا لثامها عن عينين فاترتين، تحف بهما أهداب وطف، ويقوم بينهما أنف أشم كأنه حارس طويل النجاد مكلف بالعناية بهما.. يعلوه جبين متسع كأنه صفحة من كتاب الحياة، وفم ذابل رقيق متغضن عليه طابع فيلسوف أرهقته الأيام.
وكأنما أحست بروحه الهائمة تصافح وجهها، ففتحت جفنيها وافترَّ ثغرها عن ابتسامة اختلطت معانيها عليه، ثم تحاملت على جسمها الرخص، واستوت قائمة آخذة طريقها إليه، فأسرع يلقاها وقد ذابت معاني الكلمات في فمه، ولم يجد حرفاً يحييها به تحية الصباح، فلم يربكها حياؤه، بل شجَّعها على أن تمد يدها إلى مصافحته، وتبادره في غير ما خجل: (( كيف أصبح أخي؟)).. ثم تومئ إليه أن يتبعها إلى مجلس البارحة من التل، فما مَلَك إلاّ أن أطاعها في أدب وحشمة، وأن سايرها في خطى متثاقلة مختلجة، كما يساير الطفل أخته الكبرى الوقور.
واستقر بهما الجلوس، ولم تبدر منه بادرة، ولم يفتح له معنى، ورأت هذا في عينيه، وأحسته طاغياً على وجهه فقالت:
- هل تعرف أنني أصبحت اليوم مسرورة راضية النفس، لإِحساس تملّكني وشعور هزّ كياني؟
لقد بدأت أشعر أنني أختك، وكم يزيد سروري أن تعرف، إلى جانب ذلك، أن هذا الإِخاء سوف لا يصدق ولا تقوى آصرته وأوشاجه إلاّ على أساس من الصراحة والصدق.
يقولون: إن أدواءنا في الحياة أكثر من أن يحصيها العد، وإن رزايانا لا تقف عند حد، ويقوم إلى جانب ذلك ألف حكيم ومصلح بتشريع هذه الأدواء والأوضار، ليفرضوا لها من أصناف العلاج ما يملأ أضخم المجلدات، ويرهق تعاطيها أقوى الأمعاء، ومع هذا فنحن كما نحن، لم نتقدم خطوة إلى الشفاء. أمّا أنا فأتحدّى كل إصلاح لا يقوم على أساس من الصدق.. ليتهم تركوا كل أوبائنا ولم يعالجوا فينا غير ناحية واحدة هي الصدق.. إذن لاستقامت منا أمة لا تُظِلُّ الشمس مثلها، ولجاء هذا العقار على كل أمراضنا جملة وتفصيلاً.. لنصدق بعضنا، إن أردنا أن نتمتع بأخوتنا ولو إلى حد، ولنكن أكثر وضوحاً من الشمس عندما تطالعنا من هذه القمم!
كانت تقول وليس في صوتها النبرة الرقيقة، والألفاظ المتكسرة على شفتي فتاة كاعب.. كانت العبارات تتدفق في قوة، كما تتدفق من لسانٍ مفوَّهٍ ألِف الخَطابة والبيان، وكان جِدُّ الأب، وصرامة الأم تتجلّيان معاً في ملامحها فتبددا أحلام الواهم في ذبولها وجمالها.
وانصرفت من المجلس تركض خارج التل.. ولم يعد سالم ليجد الفرصة للتعبير عن رد فعله للشعور الجديد الذي فاجأته به ((فكرة)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :331  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج