شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مراحل ((البلاد))
مرحلة عبدالمجيد شبكشي:
في البدء.. تخوف الكثير من المحررين والكتاب من أسرة تحرير "البلاد"، وذلك بمجرد اختيار الأستاذ/عبدالمجيد شبكشي رئيساً للتحرير... وكان ذلك التخوف ينبع من تاريخ الرجل الذي كان أحد أبرز رجالات الشرطة ومديراً لها في جدة، فلا بد أن يتعامل معنا عسكرياً صارماً، والكلمة والعمل الصحافي يحتاجان إلى مرونة ودماثة!
لكن الخلفية الأخرى التي عرفناها في شخصية هذا "الرئيس" القادم: تكشفت عن محب للأدب وعاشق للكتاب، فكان نهماً في قراءاته، وأكثر ما كان يستميله إليه هو: أسلوب "الزيات"، حتى انعكس ذلك الميل على أسلوبه في الكتابة، فسماه قراؤه: زياتي العبارة.
وأذكر أنني طرحت عليه سؤالاً بعد عام من (زمالتنا) في الصحيفة/هو رئيس تحرير، وأنا سكرتير تحرير، فقلت له:
- يصفونك بـ "زياتي" العبارة، فهل قلدت الزيات حباً في الرافعي، أم أحببت الرافعي لعشقك للزيات؟!
- قال: لا فرق بين التلميذ والأستاذ.. فكلاهما -الرافعي والزيات- في مقام الأستاذ، وسأبقى تلميذاً لهما، ومفتوناً بأسلوبهما.
وشيئاً فشيئاً أخذت كرات الجليد تذوب بيننا كمحررين وبين الأستاذ "عبدالمجيد"/الرئيس الصارم في رقابته على ما نكتب.. وقد سماه البعض: عاشق التشطيب في مقالات الكتاب، ووصفته بأنه "فنان" التحطيب في مقالاتنا.. والتحطيب في لهجتنا هو (المقاشعة) والأستاذ/عبدالمجيد: ابن بلد، وتجربته في إدارة شرطة جدة والسلك العسكري: أكسبته خبرة الرادار الذي يكشف أعماق نفسية الإنسان.
ولعل "عبدالمجيد شبكشي" هو أقدم رئيس تحرير بطول السنوات التي أمضاها في هذا الموقع (ربع قرن)، وكان في مقابل هذا الثبات على البقاء في منصبه يفاخر أمامنا قائلاً:
- أنا رئيس التحرير الذي بقي سجله لدى وزارة الإعلام (نظيفاً) بلا ملاحظات ولا عقوبات!
- فقال له صديقه الأستاذ/عزيز ضياء: وهل تفخر بهذا السجل؟! إنه كلما امتلأ ملف رئيس التحرير لدى الوزارة بالملاحظات، كلما أكد بتاريخه: أنه رئيس تحرير ناجح وصاحب مواقف.
ولكن الأستاذ/عبدالمجيد حرص أن (يتميز) بذلك السجل!
وفوجئت في أمسية صيفية بنداء من رئيس التحرير، حيث يجلس في مكتبه بالمطابع، ويشاركه الجلوس والعمل: الأستاذ/عبدالغني قستي، نائب رئيس التحرير، والأستاذ/علي العمير، مدير التحرير.. وكان مكتبي في الغرفة المجاورة يشاركني فيه: الكاتب الشعبي الفنان الرسام/يحيى باجنيد، والخطاط "باحاج".. ولما مثلت أمامه، ناولني مقالي اليومي (ظلال) وقال لي بصرامته:
- هذا مقال شديد الرمز وآسف، لا أستطيع نشره، في إمكانك استبداله بآخر!
- قلت: ليس لدي آخر الآن، ولا وقت لكتابة بديل.. فهل ألغي العمود؟!
- قال: لا أظنك تتحداني... أتصرف.
ولم يظهر عمودي اليومي في صباح اليوم التالي، وفوجئت به يستدعيني بواسطة الفراش إلى مكتبه.. وأجلسني أمامه وهو يقول:
- تأكد أنني أحترم رأيك فأنت كولدي، لكنك عندما تعاندني فلا تكتب مقالاً بديلاً، فذلك يعني أنك تعبر عن موقف.
- قلت: صدقت... لأن مقال الأمس هو الخامس الذي ترفض نشره خلال شهر.
- قال لي: يا ولدي الناس ما يخلوك في حالك.. هناك من يفسر كلماتك بهواه، وأنا لا أريد لك الضرر، وأسلوب الرمز اليوم يحتمل عدة معان و.... أقاويل!
- قلت: ما رأيك لو تعطي عمودي اليومي إجازة، يهدأ فيها كلانا؟!
- قال: وماذا نقول لقرائك؟!
- قلت: إجازة... من حق الكاتب أن يتمتع بإجازة.
- قال: لا حول ولا قوة إلا بالله... إفعل ما يحلو لك.
وتوقف عمودي اليومي (ظلال) أكثر من شهر.. وفي أثناء التوقف حاول أن يرضيني، فكلفني بتنفيذ فكرة ناقشها قبل أيام مع أسرة التحرير، وقال لي: ستكون أنت المشرف.
وكان قد اقترح إصدار "ملحق البلاد" أسبوعياً بحجم "التابلويد" يعنى بالأدب، والفنون والثقافة... فاستعنت بجهود زميلي الأستاذ/يحيى باجنيد، خاصة في تطعيم الملحق برسوم يبدعها "يحيى"/تابلوهات لقصائد، أو لقصص، وشكلت مع "يحيى" أسرة تحرير الملحق، وصدر العدد الأول محدثاً التفاتة إلى فكرته ومضمونه، واستقطبنا له أقلام كبار الكتاب والشباب وذلك في حدود الامكانات الفنية للمطابع بجهد محررين فقط.
ونجحت الأعداد التي أصدرناها برغم (كمية) ما كان يرفض رئيس التحرير نشره!
حتى فوجئت يوماً بقرار أصدره الأستاذ/عبدالمجيد شبكشي بإنهاء إشرافي على الملحق، وتكليف الكاتب البارز آنذاك والرسام التشكيلي الأستاذ/مشعل السديري بالإشراف على الملحق.
وحرص الأستاذ/مشعل أن يطور الملحق بأفكاره الفنية الجميلة، لكنه -فيما يلوح- لم يكن صبوراً، أو لم يكن مضطراً مثلنا.. فاعتذر عن الاستمرار، و...... انطوت فكرة الملحق!!
* * *
وما زال صديقي وزميلي طوال تلك الفترة الفنان/يحيى باجنيد يقهقه كلما تذكرنا معاً ذلك الموقف الذي وصفه "يحيى" بأنه من أجمل الكاريكاتيرات التي لم ترسم!!
فقد كنا نعمل خلف مكاتب خشبية أكل الدهر عليها وشرب وتجشأ، وطلبت من رئيس التحرير أن يتوسط لنا لدى الإدارة (لتعوضنا) بمكاتب مريحة للعمل ليست (محفرة) السطح، ولا مكسرة الأدراج، ونقلت هذه الرغبة إلى معالي مدير عام المؤسسة الأستاذ/عبدالله الدباغ.. ففوجئنا به ذات مساء يزورنا، ودخل إلى مكتبي يتساءل: أين هي الماصة المشكو منها؟!
- قلت: هذه هي إنها "ماصتي"، أدراجها مكسرة، حتى أنني لا أستطيع حفظ أوراق مهمة داخلها!
نظر إلى الأدراج، وإلى السطح المحفر.. وقال بصوت خفيض:
- بكره نرسل نجار ليضع على واحد من الأدراج لساناً بقفل.. مشي حالك!!
ومشينا حالنا... وكأننا وذلك المكتب توأمان: أحدهما أشقر.. والآخر أسود!!
وحتى بعد انتقالي من (البلاد) كنت في زيارتي لزملائي: أشاهد تلك الماصة: صامدة راسخة في وجه الزمن بكل التحدي!!
* * *
وفي زمالتنا للشاعر الكبير الأستاذ/عبدالغني قستي، وكان نائباً لرئيس التحرير.. توطدت الصداقة بين صخبنا وصمته، أو بين نثرنا وشعره، وكان الأستاذ/عبدالمجيد شبكشي (بعصبيته) لا يحتمل ما يسميه: برود القستي، ولم يكن بارداً ولكنه كان يمثل الصبر الجميل، وعاصر القستي رئاسة تحرير: حسن قزاز، وفؤاد شاكر، ومحمد حسين زيدان، وعبدالمجيد شبكشي حتى أخلد إلى الراحة وآثر التقاعد في بيته منطوياً على صمته.. حتى الكتابة لم يواصلها... وقد تناساه الوسط الصحافي مغذاً في صمته، ولم تكرمه صحيفة (البلاد) التي أفنى عمره كله في خدمتها!!
ولا بد أن تؤثر كل هذه "المراحل" في مسيرتي الصحافية والكتابية، لكني بقيت أفاخر: أن اكتمالي أو تكاملي الإنساني هو بشلال الحب... هذا المتدفق من صدري إلى: الناس، وللجمال، وللمحبة، وللضحكة.. حتى لو سخر مني بعض الناس الذين يعيشون "الواقعية" المغرقة في المادية، والمصالح، والأنا!!
في هذا العصر (الإنترنتي) الحاسوبي/الذي تدار معارك حروبه بالكومبيوتر: صاروا يعقدون امتحاناً للغيمات، ويحاولون اعتقال حبة المطر، ويجلدون قصائد الشعر في زنازين التفاهة؟!
كل الوجوه تحمل منافذ إلى اللامدى.. فلا أحد يتوقف، ولا أحد يعود، ولا أحد يسكن... ليست لهؤلاء البشر/غير المستبشرين: أجنحة، ولكنهم ما بين السماء والأرض: تائهون!!
الأشياء الأصيلة: هي التي تحفر صدورنا وتسكن فيها... غير أن صدورنا محفورة و..... تصفر فيها الريح.
الأشياء الهشة والمغرضة: تجرح عفوية مشاعرنا وتخلف في عقولنا هذه اللزوجة من القرف.... قرف، قرف، قرف، فأين منا عصور وعهود كان فيها رجال -على سبيل المثال- مثل: الحارس بن عباد، الذي كان في حرب، فأراد أن يظفر بعدي بن أبي ربيعة ليثأر منه، وبينما هو في معمعة الحرب: أسر رجلاً، فطلب منه أن يدله على ربيعة، فقال له الأسير: وتطلق سراحي إن دللتك عليه؟!.. قال: نعم، فقال له الأسير: أنا عدي بن أبي ربيعة.. فأطلقه وفاء لعهده!
- قلت متسائلاً: هل هذه أخلاق أم أسطورة؟!
لقد "كنا" هكذا... فليتنا نتذكر الرجال الذين بنوا الحياة بالأخلاق!
ولم يكن عملي بالصحافة بذلك (التعاقب) على التحديات، والمعاناة، وشعوري الدائم أني رهين هذين المحبسين: الصحافة، والحلم... فلا أنا حققت حلمي إلا بمقدار ما ناضلت من أجله، ولا أنا خرجت من الصحافة إلا بتلك النكتة التي رواها أحد الكتاب: "قالوا: إن كاتباً من العالم الثالث طالت أفكاره، فحلقوها له".
وأذكر أن شاعرنا الكبير و "قاضينا"/ضياء الدين رجب (ضبطني) في حالة سرحان أمام مكتبي لعلها حالة تفوق "سرحانه" الدائم.. فقال لي:
- حاكيت مرة أبا تراب الظاهري، فحدثته عن: التصحيح، والتحقيق، والتحكيك... فأين الآن من هذه الأثافي الثلاث؟!
- قلت ضاحكاً: لعله "التحكيك"، ولكني والله يا أستاذي لا أعلم الآن، وعلى رأيك: فالحياة أحياناً تبدو مثل (الزقلم)!!
- ضحك شيخنا وقال: حتى أنت تعرف الزقلم ووصلك؟!
- قلت: نحن في زمن صار الناس يضيعون لغتهم وتراثهم/كما قلت أنت!!
* * *
صحافة اليوم:
كنا نركض على صفحات الجريدة التي نعمل بها ونحن على يقين: أن الصحيفة هي جسر توصيل معلومة وخبر وصورة، وليست درباً إلى الثقافة.. لكن صحافتنا اعتنت بالدرب على حساب الجسر... فكثرت فيها المقالات والرأي بما يفوق نسبة الأخبار والصور.
ولعل أكثر ما أحزنني في هذا المشوار: أن (الكلمة) تعرضت في مراحل عديدة وجولات إلى محاولات إسقاط لرسالتها الأنبل، وإلى تجريف لجذورها وقلع أغصانها، ورمي ثمرها بالطوب!
إن الكتابة الصحافية مسئولية تعتمد على قدرة الكاتب للاستمرار.. ومسئوليتها تنبع من مصداقية الطرح والابتعاد عن التزييف، والتجلط النفسي، والارتقاء بالقارئ إلى حدود ما يعاني، وما يطمح، وما يحلم وحتى ما يتعلم.. فالكاتب الصحافي: لا بد أن يكون أيضاً: قارئاً يومياً حتى يقدر على المتابعة والمواكبة للحدث ولأبعاد ما يحسه الناس.
والتقاط الأحداث اليومية، وتواصل القراء مع الكاتب اليومي: زاده الفكري الذي يحميه من السقوط في التكرار!
إن الصحافة اليوم -بكل أسف- قد تدنى البعض منها عن رسالته ومعناها الذي يتشكل من هذه (المهنية) التي تحولت إلى: استرزاق، وشحاذة، والتي لا يستطيع أي إنسان أن يخوضها إلا إذا امتلك: عشق المهنة، وموهبة الكتابة، ولماحية الحصول على الخبر، والانفرادية.
لقد كنا (هواة) وعشاقاً للكلمة قبل إغراءات الشهرة والصيت.. لم نتخرج من كلية صحافية/إعلامية، لكن هناك في داخلنا ما كان يماثل الافتتان بهذه المهنة بكل ما فيها من متاعب، وهناك تحسس الموهبة/السبيل الأساسي لخطوتنا إلى داخل بلاط الصحافة!!
أما اليوم.. فقد تطورت الصحافة/صناعة، وعلماً وفناً، وتخصصاً.. ولم تعد تحتمل تجارب الهواة الذين يتطلبون الشهرة والصيت فقط، دون تقييم دقيق لرسالة هذه المهنة ودورها في خدمة المجتمع وقضاياه، وحتى في خدمة التنوير والمعرفة... كما نراهم اليوم على صفحات جرائدنا وقد تدفقوا: مراسلين، ومحررين، بل وكتاباً!!
يضاف إلى هذا "الاهتزاز" في مسيرة الصحافة لدينا: أن الكثير من الهواة الذين اقتحموا العمل الصحافي قد شوهوا اللغة وتجنوا على (قواعدها) وذلك ما نلاحظه من: أخطاء نحوية ولغوية وحتى إملائية في ما يكتبونه.. حتى (المانشيت) تعرض لتحطيم قواعد اللغة... ولعلنا نحمِّل الجامعات أيضاً، والنوادي الأدبية والمؤسسات الثقافية مسئولية هذا الإهدار والتشويه لقواعد اللغة!!
* * *
الصحافة والأديب:
وفي هذا "التذكر" لاقتحامي درب العمل الصحافي.. لعلني قلت وكررت "صورة طبق الأصل" من بوحي: ربما جنت الصحافة على كثير من الأدباء الذين لم يجدوا مهنة سواها، ولا مؤسسة ثقافية تحتضن إبداعهم وتتبنى طموحهم الثقافي، فسرقت وقتهم -كما سرقت وقتي- ولم تعطهم وقتاً للتأمل والإبداع.. بل صهرتهم في بوتقة الأحداث، وغمستهم في حبر المطابع وهديرها.
كادت الصحافة أن تمارس معي هذه السرقة.. طوحتني زمناً قاومت فيه واستطعت أن أصدر أكثر من عشرين كتاباً، وأن أحصل على جائزة الإبداع الأدبي من منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية، وشهادات أخرى وتكريم.
إنني لا أكف عن الكتابة والقراءة، ومن وقت بعيد جئت من خارج الزمن أقتحمه، وأتفاعل فيه.. وأنصهر، وأغتسل، وأحترق، وأضيء.
إنني ابن هذا الزمان، ولكني أحفل كثيراً بأن يتبلور التعبير عندي إلى اعتبار.. فنحن نكتب عن الاعتبار للإنسان، بكل تعبير ينتصر لهذا الاعتبار ويضيئه!
بقيت "لقمة العيش" في قدر الكاتب، والصحافي، وعاشق الكلمة.. إنها ما زالت معاناة هؤلاء الصابرين الذين يقتاتون من الحرف!
* * *
شخصيات ومواقف:
في مساء جداوي تهدر فيه "مكيفات" ومكائن المطبعة: وجدت الأستاذ/محمد حسين أصفهاني، صاحب ومدير المطابع المشهورة التي تطبع "البلاد" وغيرها من كتب دراسية وأدبية وصحف: وكان يقف أمام مكتبي بعد إضراب الصحافيين المصريين ورحيلهم، وهو يهز رأسه، يتابع تخطيطي على الورق... وفجأة قال لي: ما تخلصنا يا بتاع الماكيت.. أخرتنا يا أخي!
- قلت له ضاحكاً: الناس يسألون عادة الإنسان الآخر: ما هي آخر نكتة سمعتها... أما أنت فلا بد أن أسألك عن: آخر مقلب فعلته في إنسان ومن كان الضحية؟!
قهقه الأصفهاني، وربت على كتفي، قائلاً:
- برافو... نجحت في التحدي.
إن شخصية مثل "محمد حسين أصفهاني" لا يمكن أن يعبر ذكرها متعجلاً، فقد كان جزءاً هاماً من أسباب تطوير الصحافة والطباعة والنشر، وداره الطباعية: كانت من أشهر من تخصص في هذا الفن ووسع خدماته، وقدم الكثير لتطوير هذا الفن.
لكن هناك جانب آخر كان يشدنا إلى شخصية/محمد حسين أصفهاني الجميلة:
ذلك الجانب تتبلور منه شخصيته الإنسانية المرحة التي كان يغضب منها بعض أصدقائه.
فقد عرف عنه بأنه "أبرع" من يحيك المقالب، ويتخير كبار الأدباء ووجهاء المجتمع ليمارس فيهم هوايته التي (يبتلعون) السخرية فيها منه وهم يقهقهون.
ومن ذكرياتي مع "الأصفهاني" هذا المقلب:
- كنا في الأسبوع الأول من شهر رمضان المبارك، وتخير شخصيات أدبية كان على رأسها: عبدالقدوس الأنصاري، وعزيز ضياء، والزيدان، وياسين طه.. الذين أبلغهم دعوته لهم على الإفطار في بيته غداً... وتجمعوا وتوجهوا نحو دار الأصفهاني، ليجدوا الباب مقفلاً ولا أحد يجيب على نداءاتهم، ويكاد وقت الإفطار أن يحل بعد ربع ساعة، وعادوا أدراجهم إلى بيوتهم وقد فات الكثير منهم موعد الإفطار، والأصفهاني شد رحله إلى البحر ليضحك وحده وهو يتصور موقف أصحابه الذين عبر البعض منهم عن غضبه مثل الأستاذ/عبدالقدوس، وقال له: عيب.. لسنا بزورة تضحك علينا.
وكانت بينه وبين الشيخ/محمد بادكوك مقالب متبادلة كالتحيات، لكن مقالب الأصفهاني كانت مؤلمة، وأكثرها إيلاماً: إن الأصفهاني سرَّب خبراً إلى أم بادكوك بموته في حادث، وحرص أن يحمل الخبر بنفسه إلى أم صديقه الذي عاد إلى بيته بعد فترة ليسمع بكاء أمه والأصفهاني يخفف من مصابها.. وعرف ما أرتكبه صديقه وطارده يرميه بحذائه!!
* * *
الشخصية الثانية في هذه (الباقة): الشاعر والأديب المصري/محمد مصطفى حمام... وكان يلازم أستاذنا الزيدان كلما قدم إلى جدة، فإذا جاء أقام فيها عدة أشهر.. وكان ملتزماً بالحضور إلى مطبعة الأصفهاني ومكتب صحيفة البلاد، فيستأنس الحضور بحكايات وسمر وقفشات الأستاذ حمام.. وذات مساء زارنا في الجريدة الأستاذ/عزيز ضياء وتطرق الحديث إلى الشعر الأصيل، وأصغى الجميع إلى الأستاذ حمام يلقي قصيدة رائعة قال إنها من شعر أمير الشعراء/أحمد شوقي.. فقال الأستاذ/عزيز ضياء، ولكن هذه القصيدة لم تمر بي، فأنا قارئ جيد الذاكرة، وقرأت (الشوقيات) عدة مرات... لكنه حقاً هذا نفس شوقي ومتانة صياغته.
- قال حمام: إنها في الجزء الثاني من (الشوقيات) صفحة كذا!!
وعاد المصغون لقصيدة "حمام" ذلك المساء إلى (الشوقيات) دون العثور على القصيدة.
وبعد أيام.. اكتشف السيد/ياسين طه: أن القصيدة من إبداع محمد مصطفى حمام مترسماً فيها نهج ونفس أحمد شوقي.
ومحمد مصطفى حمام: كان شخصية مميزة ومبدعة، وهو الذي كان يكتب (خطب) الزعيم الوفدي المصري/النحاس باشا، ويقلد أصوات من تريد من المشهورين، وكان صوته رخيماً وهو يرتل القرآن الكريم، وأحياناً يدندن بلحن لمحمد عبدالوهاب، ونتحلق حوله لنقول: الله يا حمام!!
ولم يكف "حمام" عن التواجد المتواصل والطويل في جدة حتى مرض، واكتشفنا أنه تزوج أربع نساء وله أولاد وبنات في الكويت... حتى توفاه الله.
* * *
الشخصية الثالثة هو: الشاعر الكبير، والفقيه القاضي الشيخ/ضياء الدين رجب... يمتاز بروح مرحة وظرف في تعامله مع الآخرين.. وبينه وبين الذاكرة خصام مستديم.
ومن مواقفه الأكثر رشاقة في الظرف:
فتح باب مكتبي منتصف النهار، وهو يشير بسبابته نحوي قائلاً:
- السلام عليكم... أنت يا مخلوق... اسمك.... اسمك؟!
- قلت: وعليكم السلام.. اسمي عبدالله!
- تهللت أسارير وجهه، وقال: أيوه... أنت جفرفور، معليش يا ابني: الذاكرة والشيخوخة.
وبعد أن استراح، وناولني مقاله الأسبوعي للصحيفة.. طلب مني جهاز الهاتف، ورفع السماعة ليدير القرص بالأرقام التي يريدها.
ورأيته يحملق في السقف ويتمتم... فسألته عن هذه الحيرة؟!
- قال: أبغى أطلب بيتي، تعرف رقم هاتفي؟!
وبعد أن أنهى اتصاله ببيته.. سألته: أين "رباعياتك" يا أستاذ؟!
- قال ضاحكاً: صحيح... نسجت البارحة رباعية، إنما إيه يا جفرفور، والله (حلولو)... أي حلوة... وكانت (رباعياته) الشعرية تستقطب إعجاب القراء:
يا مي أنتظر اللقاء كأنما
روحي تحن لجسمها وتؤوب
ويلذ لي أمل انتظارك والمنى
تحلو الحياة بظلها وتطيب
فإذا قدمت مع المساء فإنه
صبح يطل وقد أهل حبيب
لكن أخاف مع الشروق وأنسه
لحظات بين زحفهن غروب!
لقد كان شيخنا وأستاذنا/ضياء الدين رجب: حلو المعشر، غزير المعرفة، دمث التعامل، رحباً في لقاءاته، ودوداً في صداقاته... يرحمه الله.
* * *
الشخصية الرابعة، هو الأديب القاص الأستاذ/السيد ياسين طه، وكان مديراً لتحرير "البلاد" يمتاز بأسلوب رشيق جذاب العبارة، غنياً بالصور الجمالية، يميل في ما يكتبه إلى المرح والسخرية... وكان يستمتع بالجلوس إلى الشيخ/أبو تراب الظاهري الذي كان مسئولاً عن التصحيح والمصححين بالجريدة... ومن حبه للشيخ: نسج حكاية كاد يورطه فيها مع رجال الجوازات... وذلك عندما كتب مقالاً عنوانه: "أبو تراب في الشنطة"، روى فيه: أن أبا تراب أراد دخول مكة المكرمة في تاكسي وشك سائق التاكسي في انتمائه للمملكة، خاصة بعد أن سمعه يتحدث بلكنته، فظنه هندياً، ولكي يوصله إلى مكة المكرمة ألزمه بالجلوس في شنطة السيارة حتى يتجاوزوا مركز الجوازات في أم الجود.
وكانت هذه الحكاية حديث المجتمع لعدة أيام، خاف فيها "أبو تراب" أن يصعد إلى مكة المكرمة... وتحملت الصحيفة من وراء نشر ذلك المقال الكثير من المساءلة!!
وبقيت "البلاد" صحيفة مميزة بنجومها/كتابها، ومحرريها... وخصني أستاذي "الزيدان" بقيمة أكبر عندما قرر أن ينشر لي مقالاً في الصفحة الأولى من الصحيفة/افتتاحية... وكنت أناقش: تزايد حوادث المرور وضحاياها!
وفور نشر المقال على الصفحة الأولى لهذا الفتى النابت/أنا.. اندلعت التساؤلات التي تلوم الزيدان: كيف تنشر لكاتب صغير على الصفحة الأولى، وأين تنشر مقالك أنت ومقالاتنا... آلا تغرس الغرور في نفس هذا (الولد) فيظن نفسه كاتباً كبيراً؟!
- ورد الزيدان: المقال جيد وفي مستوى الأولى: وإذا لم نعط فرصة للشباب الآن نحن جيل الرواد الكبار، فمن يمنحها لهم؟!
وظننت ما حدث "زوبعة في فنجان"، لكن الفنجان بقي يغلي حتى تناسوا وتقبلوا ما كان!!
وتلك مرحلة حصاد وتجربة لها بصمات في مشواري الصحافي داخل الجريدة/الأم لكل الصحف: البلاد!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :802  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 39
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج