شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أمجادنا في التاريخ (1)
إن قومي قوم الشريف قديماً
وحديثاً أبوة وجدودا
معشر أمسكت حلومهم الأر
ض وكادت من عزهم أن تميدا
يحسن الذكر عنهمو والأحاديث
إذا حدث الحديد الحديدا
ملكوا الأرض قبل أن تملك الأر
ض وقادوا في حافتيها الجنودا
سائل الدهر مذ عرفناه هل يعر
ف منا إلا الفعال الحميدا
قد لعمري رزناه كهلاً وشيخاً
ورأيناه ناشئاً وتليدا
نحن أبناء يعرب أعرب النا
س لساناً وأنضر الناس عودا
وكأن الإله قال لنا في الحر
ب، كونوا حجارة أو حديدا
لله در البحتري! لقد رسم بهذه الأبيات القليلة صورة رائعة لأمجاد العرب قديماً وحديثاً. أجل لقد انطقت فعالهم الدهر بلسان التاريخ الذي سجل لهم أمجد الصفحات وأعظمها، لنستمع إلى ما يقوله المنصفون حين يتحدثون عن أمجاد هذه الأمة العريقة.
قلما عرف التاريخ أمة كالأمة العربية فيما ناله أسلافهم من مجد باذخ وحضارة زاهرة، وفيما سجلوه على صفحاته من حضارة رائعة تتحدى بعظمتها العصور والأجيال وتبهر بجلالها العقول والألباب، وفيما خلفوه من آثار تشهد بفضلهم وعبقريتهم في الحكم والإدارة، ونبوغهم وتبريزهم في العلوم والفنون، وسبقهم إلى إرساء أزهى معالم الحضارة والمدنية، وأقوى دعائم العمران. لقد حكموا حكماً مثالياً في العدل والمساواة، لا فرق عندهم في الحق بين صغير وكبير، ولا بين غني وفقير، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالعمل الصالح والخلق الكريم.
وإذا كانت هذه الصفحات المشرقة من تاريخ الأمة العربية إنما تتجلى في أروع صورها وأمجد معالمها وأعظم آثارها في العصور الإسلامية الزاهية، فإن للعرب قبل الإسلام أمجاداً وحضارة لا تقل عن حضارة أمثالها من الأمم في تلك العصور السحيقة. إلا أن فترة الجاهلية الجهلاء التي سادت الجزيرة العربية قبل الإسلام حقباً طويلة، حجبت تلك الحضارة عن الأنظار، وكادت تقضي عليها قضاءً مبرماً، لولا ما ورد في القرآن الكريم من إشارات بليغة تلفت الأنظار إلى تلك الحضارة وإلى ما بلغته من قوة ورقي وازدهار، ولولا أن قيض الله لها في العصر الحديث من الباحثين المحققين، والرواد المنقبين عن الآثار من أزاحوا الغطاء عن بعض معالم تلك الحضارة، وأبرزوا بعض كنوزها وذخائرها. وعلى ضوء الحقائق التي أظهروها نستطيع أن نعرض فيما يلي صفحات موجزة من تراث تلك الحضارة العريقة - بين يدي ما ستقدمه من صفحات مشرقة من الحضارة الإسلامية:
حضارة اليمن:
تعبر حضارة اليمن من أقدم الحضارات العربية، ولما عرف عن اليمن قديماً من خصب ورخاء وازدهار في العمران دعيت بلاد العرب السعيدة، ولقد كانت من اقدم عصورها مسرحاً لأزهى الحضارات التي عرفها التاريخ. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحضارة في جملة من آياته البينات، ومن ذلك قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (سبأ: 15)، تضمنت هذه الآيات الإشارة إلى ما بلغه هؤلاء العرب من تقدم ورقي في إقامة السدود واستخدامها في تنمية الزراعة وعمران البلاد ورخائها. كما يشير في آية أخرى إلى ما كانت تتمتع به اليمن على عهد سليمان عليه السلام من مظاهر المدنية المترفة والغني وأبهة الملك، وذلك فيما ورد فيه على لسان الهدهد من قوله: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (النمل: 23). وقد أشاد بحضارة العرب الأقدمين، كثير من المؤرخين قديماً وحديثاً كالمسعودي والهمذاني والألوسي وكرد علي وبعض المنصفين من الغربيين وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، في كتابه القيم: (حضارة العرب) الذي نقله إلى العربية الأستاذ عادل زعيتر. وفيما يلي نقتبس فقرات مما ذكره هذا العلامة الكبير في تفنيد الوهم الشائع عن إنكار حضارة العرب قبل الإسلام، وفي إثبات هذه الحضارة بالمنطق والشواهد المؤيدة لوجهة نظره. وفي ذلك يقول: (إذا ما ظهرت أمة ذات حضارة إيرانية على مسرح التاريخ، قلنا إن هذه الحضارة ثمرة ماضٍ طويل، وإن جهلنا لهذا الماضي الطويل لا يعني عدم وجود تلك الحضارة، فإن مباحث العلم الحديث قد تؤدي إلى عرض ذلك الماضي للناظرين) ثم يقول: (ولم يكن أمر حضارة العرب قبل ظهور محمد ((صلى الله عليه وسلم)) غير ذلك. وقد دلت الآثار والوثائق التي بأيدينا، على أن حضارة العرب لم تكن دون حضارتي الآشورين والبابلين اللتين ظهر شأنهما حديثاً بفضل علم الآثار بعد أن كانتا مجهولتين).
ثم يتابع لوبون حديثه عن هذه الحضارة فيقول: (لم يكن التاريخ صامتاً إزاء ثقافة العرب القديمة كصمته إزاء الحضارات الأخرى، التي رفع العلم الحديث التراب عنها، وحتى لو صمت التاريخ عن حضارة العرب لجزمنا بوجود تلك الحضارة منذ زمن طويل. فقد أثبت التاريخ أنه كان للعرب آداب راقية ولغة ناضجة. وأنهم كانوا ذوي صلات تجارية بأرقى أمم العالم منذ القدم. وأنهم استطاعوا في اقل من مائة سنة أن يقيموا حضارة من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ) ثم يعقب غوستاف لوبون على ما تقدم بقوله: (والعرب الذين استطاعوا في اقل من قرن أن يقيموا دولة عظيمة، ويبدعوا حضارة عالية جديدة لهم، هم لا ريب من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة، وبثقافة سابقة مستمرة. فبالعرب لا بأصحاب الجلود الحمر أو الأستراليين، قد أنشأ خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم تلك المدينة الزاهرة التي ظلت ثمانية قرون مركزاً للعلوم والآداب والفنون في آسيا وأوروبا).
وقد استشهد لوبون بما يؤيد وجهة نظره في المدنية العربية القديمة من أقوال بعض المؤرخين القدامى من الغربيين ومن العرب، فذكر عن ((هيرودوتش)) وصفه لبلاد العرب السعيدة (اليمن) وما كانت تنعم به من مظاهر الغنى والترف والمدنية وإنها كانت من أغنى بلاد العالم، وإنه كان في مأرب أو سبأ قصور نضرة ذات أبواب مسجدية، وآنية من ذهب وفضة وسرر مرصعة بالجواهر). كما نقل عن المؤرخ العربي السعودي ما يأتي: ننقله عنه ببعض الاختصار.
(ذكر أصحاب التاريخ القديم أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها وأغدقها، وأكثرها جناناً وغيطاناً، وأفسحها مروجاً، بين بنيان وجسر مقيم وشجر ومساكب للماء متكاثفة، وأنهار متفرقة وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال وفي العرض مثل ذلك. وأن الراكب والمار كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي من آخرها، لا يرى الشمس ولا يفارقه الظل، لاستتار الأرض بالعمارة والشجر، واستيلائها عليها وإحاطتها بها فكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه، واهنأ حال وأرغده. وفي نهاية الخصب وطيب الهواء. وتدفق المياه. وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، فكانت بلادهم في الأرض مثلاً، وكانوا على طريق حسن من اتباع شريف الأخلاق، وطلب الفضائل على القاعد والمسافر. قضوا على ذلك ما شاء الله من الإعصار، لا يعاندهم ملك إلا قصموه، فذلت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد، فصاروا تاج الأرض). ثم يعقب على ذلك قوله: (ومن الأدلة على ازدهار مدن اليمن في القرون القديمة، ما كان لها من الصلات التجارية الواسعة بالبلاد الأخرى، ولما كان من الصعب أن نعثر في التاريخ على أمة ذات شأن كبير في التجارة من غير أن تكون متمدنة، ولما كانت علاقات العرب التجارية العالمية قد استمرت ألفي سنة، أمكننا أن نقول إن العرب ضربوا بسهم وافر في ميدان الحضارة، وإنه كان لمخازنهم من الأهمية ما كان لمخازن البندقية إبان عظمتها).
ولاستكمال الحديث عن حضارة اليمن نقدم صفحة مشرقة للدرجة العالية التي بلغتها إحدى حكومات اليمن القديمة في حكم البلاد حكماً ديمقراطياً متقدماً، يشارك فيه الحاكم نخبة من أبناء الشعب في إبداء الرأي والمشورة وذلك ببضعة قرون، مما يعد سبقاً وتقدماً رائعاً في أساليب الحكم، حيث كان الشعب يشارك بوساطة ممثليه في تقرير سياسة البلاد والإشراف على تنفيذها. وبذلك كان نظام الحكم في اليمن في تلك الحقب السحيقة ملكياً شورياً. وفيما يلي نقتبس نبذة كتاب ((تاريخ العرب قبل الإسلام)) للأستاذ (محمد مبروك نافع) الذي يقول: ((كان نظام الحكم ملكياً وراثياً في الأبناء أو الأخوة، وفي بعض الأحيان كان يشرك الملك ابنه في الحكم معه - على غرار ما كان يصنع ملوك الأسرة الثانية عشرة المصرية. وكان للنساء حق وراثة العرش كالرجال. ولكن الملكية لم تكن مطلقة. فقد كانت للبلاد مجالس لها صفة نيابية، تمد الملك بالشورة والنصيحة، وتساعده في المسائل التشريعية. يؤيد ذلك النقوش التي كشفت في اليمن. كما يؤيده (قبل ذلك) القرآن الكريم، في قصة سليمان وملكة سبأ حيث يقول: قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ. قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (النمل: 32 - 33). نكتفي بهذه اللمحات الموجزة عن حضارة العرب الأقدمين لننتقل إلى الحديث عن العصور الإسلامية الزاهرة.
ثم يعلق لوبون على كلام المسعودي وعلى ما ذكره من روايات بعض المؤرخين القدامى من غير العرب بقوله: (ويكفي تطابق تلك الروايات لإثبات مماثلة مدن اليمن في حضارتها لمدن مصر، وتقدمها الكبير في ميدان الحضارة. ولا تزال بقاياها مطمورة تحت التراب، تنتظر الباحث الذي يزيله عنها، كما أزيل عن نينوى وبابل).
حضارة العرب في العصور الإسلامية:
أشرق فجر الإسلام والأمة العربية متردية في مهاوي الجهالة والتخلف، قد مزقتها العداوات والأحقاد، وأنهكتها الفتن والحروب، فأنقذها الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الحال التي انحطت إليها، وجمع شملها وألف بين قلوب أبنائها، وهداهم إلى الحنيفية السمحة والدين القويم، فاستضاءوا بنور العلم والإيمان، وامتلأت قلوبهم بحب هذه الدين والتمسك بشريعته وآدابه، والتضحية في سبيله بالنفس والمال والسير على نهج النبي الكريم، فلم يلبثوا أن حملوا رسالة هذا الدين الحنيف وما تدعو إليه من تحرير العقول من عبادة الأوثان والطواغيت، وتحرير النفوس من رق العبودية لغير الله الواحد الأحد. حملوا هذه الرسالة إلى شتى الأقطار التي كانت تتخبط في دياجير الحيرة والضلال، وترسف في قيود الظلم والاستعباد. فسادوا بذلك العالم، ووضعوا أقوى الأسس لأعظم وأرقى حضارة عرفها التاريخ. ونقتبس فيما يلي نبذة مما كتبه العلامة الأستاذ (كرد علي) في كتابه القيم، ((الإسلام والحضارة العربية)) عن الأثر العظيم الذي أحدثه الإسلام في الأمة العربية إذ يقول:
وجمع الإسلام من شمل العرب بعد تشتتهم، وآخى بينهم مؤاخاة ما عهدوها، وهذب نفوسهم حتى سلس قيادهم بعد شماسة، وثقفهم ثقافة، أفادوا بها ففادوا بالأهل والولد والنفس والمال في نصرة دينهم، فامتن الله عليهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (آل عمران: 102 - 103). وأناس هذا حالهم لا يستعظم عليهم أن يفتحوا في سنين قليلة: الشام وفارس ومصر والجزيرة والروم والسند وبخارى والمغرب والأندلس وجزر البحر المتوسط، وأن يضعوا الجزية على ملك الصين، والتوفيق حليف رايتهم أينما حلت، يفتحون بالعدل قلوب من يغلبونهم على أمرهم، عقبى فتح بلادهم عنوة أو صلحاً، يتحامون ما أمكن إهراق الدماء، ويرفقون بالمستضعفين من الأولاد والنساء والرهبان والراهبات، وينشرون كلمة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، ويعلمون الأمم المغلوبة لسانهم ومنازعهم، مؤثرين في كل حالة من حالاتهم الآخرة على الدنيا وكذلك كانوا في أقوالهم وأفعالهم).
ثم يقول الأستاذ كرد علي في الكتاب نفسه: (فالإسلام هو الذي جعل في العرب خاصية في أخلاقها ساقتها إلى العمل الصالح، فوحد بين مقاصدها ووجهها إلى هدف واحد، ومن حرص على الموت توهب له الحياة. والقرآن استهواهم بأسلوبه الجذاب، وخلب ألبابهم بفصاحته وبلاغته، فاسترقهم فآمنوا به وبمن جاءهم به، وما هي إلا أيام معدودات حتى هذبت مدرسة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من نفوسهم، أنشأت منهم رجالاً أصبحوا في عقلهم وعلمهم موضع الاستغراب، على توالي القرون والأحقاب..).
وسنقدم فيما يلي صفحات مشرقة من سيرة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين ومن نهج نهجهم من الملوك والقادة الذين وضعوا الأسس لحضارة من أمجد الحضارات وأزهاها. وأرسوا قواعدها بالعدل ومكارم الأخلاق.
قبس من سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
إن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، هو المثل الكامل الذي اختاره الله من بين العرب لهداية العالم وإنقاذهم من مهاوي الشرك والضلال، إلى عبادة الواحد الأحد، الفرد الصمد. وإخراجهم من ظلمات الجاهلية وسلطان الظلم والاستعباد، إلى نور العلم والحرية وحياة العزة والسيادة، فكان كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107) وقد اصطفاه الله جلت حكمته من أكرم العرب محتداً، وأشرفهم نسباً، وتولى رعايته وتربيته، كما قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (الضحى: 6 - 7)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: أدبني ربي فأحسن تأديبي، فلا غرابة إذا نشأ صلى الله عليه وسلم عازفاً عن عبادة الأوثان والأصنام، وعن عادات الجاهلية الجهلاء، متحلياً بأحسن الأخلاق وأجمل الخصال. قال الله تعالى في الثناء عليه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4) مثالاً رائعاً لما وصفته به السيدة خديجة رضي الله عنها، لما رجع إليها يرجف فؤاده على أثر لقائه لجبريل عليه السلام عند تلقيه الوحي لأول مرة، إذ قالت له: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، أن لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق وتصدق الحديث، وصفته بهذه الصفات الجامعة لمكارم الأخلاق، وهي أعرف الناس به وأدراهم بشمائله.
وما إن تتابع الوحي إلى النبي الكريم ونزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (المدثر: 1 - 3)... حتى شمر صلى الله عليه وسلم عن ساعد الجد وأعلن دعوته إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأوثان والأصنام، فهبت قريش وعلى رأسها كبراؤها وصناديدها لمقاومة هذه الدعوة والصد عنها بشتى الأساليب والتصدي لمن يتبعها بالإيذاء والمطاردة. وقد نال الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من أذاهم خصوصاً بعد وفاة عمه أبي طالب. على أن كل ذلك لم يثن من عزيمته ولم يمنعه من مواصلة دعوته بين القبائل فكان يعرض عليهم الدعوة إلى الإسلام في كل موسم من مواسمهم. بل إنه ذهب إلى الطائف ماشياً يدعوا أهلها إلى هذا الدين الحنيف فردوه شرّ رد، ولم يزل ذلك دأبه مع الوفود التي تفد إلى مكة إلى أن استجاب لدعوته نفر من أهل المدينة هداهم الله لهذا الدين وأطلق عليهم بعد لقب الأنصار، وأخذوا يدعون إلى الإسلام في المدينة إلى أن أذن الله لرسوله بالهجرة إلى المدينة، فكانت هذه الهجرة بداية نصر الإسلام وإعلاء شأنه.
وما إن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى بدأ يرسي قواعد دعوته، ويضع الأسس التي قامت عليها دولة الإسلام وازدهرت فيما بعد حضارته. وفيما يلي نقتبس نبذة مختصرة مما ذكره صاحب كتاب تاريخ الإسلام السياسي، تحت عنوان (نشوء حكومة نظامية في المدينة).
فقد ذكر تحت العنوان المتقدم في سياق الحديث عن ذلك بشيء من التفصيل قوله: وقد استطاع الرسول أن ينشر دينه بين أهل المدينة، وأن يجد بينهم أتباعاً كثيرين في فترة قصيرة، كما استطاع أن يصلح ذات بينهم ويوطد السلم بين عشائرهم، وأن يعقد حلفاً بين المهاجرين وبين أهل المدينة من المسلمين واليهود والمشركين، ثم أورد المؤلف صورة مقتطفة من تلك المعاهدة، ثم عقب عليها بقوله: فإن الناظر إلى هذا الحلف ليرى أن الرسول:
1 ـ قد استطاع أن يوحد بين جميع المسلمين على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وأن يجعل منهم أمة واحدة. وقد ألف الدين بين قلوب أفرادها المتباينة.
2 ـ أوجد التعاون والتضامن بين أفراد تلك الجماعة. على أساس أن الزمالة في الدين مقدمة على غيرها من الصلات حتى صلة القرابة.
3 ـ ذكر أن للجماعة من حيث كونها جماعة ذات شخصية دينية وسياسية حقوقاً على الأفراد، أظهرها السهر على الأمن والضرب على يد المفسد.
4 ـ شرط لجماعة اليهود المساواة مع المسلمين من حيث المصلحة العامة، كما فتح الطريق للراغبين في الإسلام، وكفل لهم التمتع بما للمسلمين من حقوق.
ثم تكلم المؤلف عن اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام أول وصوله إلى المدينة بإقامة شعائر الإسلام وبناء مسجده لذلك. ثم بين ما للمسجد من آثار عظيمة في حياة المسلمين بقوله: ولم تكن أهمية المسجد مقصورة على إقامة الصلاة، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس مع صحابته في المسجد يعلمهم الدين، ويقضي بينهم بما أنزل الله، ويشاورهم في الأمور التي تتعلق بجماعة المسلمين، كما كان يستقبل فيه سفراء القبائل ووفود العرب.
وعلى ذكر المسجد وأهميته في الإسلام، واعتباره أول منبر للدعوة إلى هذا الدين الحنيف، وأول معهد بعثت تعاليمه ونشر العلم والمعرفة، يجدر بنا أن نشير ولو إشارة موجزة إلى العناية التي أبداها الإسلام بالعلم والتعليم، وتنبيه العقول والإهابة بها إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض نظر تدبر وتأمل وتفكر فيما انطوى عليه هذا الكون من حكم وأسرار. ومما هو جدير بالملاحظة في هذا السبيل، أن أول وحي تلقاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن الله عزّ وجلّ قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1 - 6)، ثم تتابعت الآيات البينات في الإشادة بفضل العلم وعظيم قيمته من أمثال قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الزمر: 9) وقوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (المجادلة:11)، وقوله كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 151)، وقوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: 125)، ولقد كان صلى الله عليه وسلم خير من امتثل لهذه التوجيهات الربانية، وخير من نفذها، فكان المعلم الأول والمربي الذي تخرج من مدرسته أعلام الصحابة وجهابذة الفقهاء والمربين والقادة الذين فتحوا أقطار العالم وحملوا راية الإسلام وشريعته وآدابه إلى بلاد العالم شرقاً وغرباً، وأسسوا أعظم المدن والأمصار وشادوا أزهى الحضارة وروائع العمران. أما الآيات التي أهابت بالإنسان أن يستعمل عقله ويفكر في مخلوقات الله فهي أكثر من أن نحصيها في هذا السياق وإنما نذكر منها الأمثلة الآتية: كقوله تعالى: َلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (الطارق: 5 - 7)، وقوله: قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ (الأعراف: 185). وقوله: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269). وقوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (العنكبوت: 42).
وأما الآيات الحاثة على العمل، فمنها قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة: 105)، وقوله: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (غافر: 40)، وقوله: َإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ (الجمعة: 10)، وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (سبأ: 10 - 11).
ومن الآيات الدالة على أن الإسلام يدعو إلى الاعتدال في أمور الدنيا والآخرة لا إفراط ولا تفريط، قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: 77)، وقوله في الثناء على عباد الرحمن .. وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (الفرقان: 67).
وباتباع هذه التوجيهات الحكيمة كان المسلمون أمة وسطاً كما أرادهم الله تعالى وكما قال جلت حكمته: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداًً (البقرة: 143). ( وكانوا كذلك خير أمة كما قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه (آل عمران: 110). ومن أقوى مظاهر هذه الوسطية وهذه الخيرية ما امتاز به الحكم الإسلامي من العدالة والمساواة بين الرعية في الحق. ولعلَّه من المستحسن هنا أن نذكر نماذج قليلة بقدر ما يتسع له المجال من سيرة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب المسلمين في حجة الوداع بقوله: أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. وها هو ذا يبدأ بإقامة العدل وتطبيقه على أهله وذوي قرباه، فيقول في الخطبة نفسها: فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع. وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. ولقد بلغ من عدله عليه الصلاة والسلام أنه كان يعرض على أصحابه أن يقتصوا منه فيما يشبه التجاوز عليهم، ولقد بلغ من عدله أيضاً أن يقول: لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، وبلغ من مساواته بين رعاياه في تقدير الكفايات، أن أمرَّ أسامة بن زيد على جيش فيه كبار الصحابة. وأسامة لم يزل في مقتبل الشباب، لم يتجاوز العقد الثاني من عمره، وهو ابن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عبداً لخديجة رضي الله عنها فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فكان من إكرامه لزيد ما جعله يختار البقاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خيره بحضور أبيه وعمه بين البقاء عنده والذهاب مع أبيه فقال زيد: ما أنا بالذي اختار عليكم أحداً. أنت مني مكان الأب والعم).
وهذا الخليفة أبو بكر رضي الله عنه يقول في أول خطبة له بعد انتخابه خليفة للمسلمين: أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.. والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق. والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه. إن شاء الله.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.. وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاهد شيخاً ضريراً يسأل على باب قوم فيأخذ بعضده ويقول له من أنت فيقول: يهودي، فيقول له عمر، فما الذي ألجأك إلى ما أرى، فيقول اليهودي: اسأل الجزية والحاجة والسن. فيمسك عمر به ويذهب به إلى منزله فيعطيه شيئاً مما في المنزل. ثم يرسله إلى خازن بيت المال ويقول له: انظر هذا وضر باءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخله عند الهرم.
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يجد درعه عند رجل نصراني فيخاصمه إلى قاضيه شريح، فينكر النصراني دعوى علي ويزعم أن الدرع درعه، فليتفت شريح إلى علي فيسأله هل من بينة؟ فيضحك علي ويقول: أصاب شريح، مالي بينة. فيقضي شريح بالدرع للنصراني، فيأخذها ويمضي وأمير المؤمنين ينظر إليه. ثم لا يلبث النصراني أن يعود ويقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء. أمير المؤمنين يخاصمني إلى قاضيه فيقضي عليه. وينطق النصراني بالشهادة معلناً إسلامه ويقول: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، إني اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى حنين فخرجت الدرع من بعيرك الأورق. فيقول علي: أما إنك أسلمت فهي لك.
بمثل هذا العدل قامت حكومات المسلمين، وامتد سلطانهم ونفوذهم، وبمثل هذه الأخلاق النبيلة دانت لهم الدنيا بأسرها، وانطوت تحت ألويتهم الأمم والشعوب المهضومة وساهموا مع العرب في بناء حضارتهم وتخليد أمجادهم على النحو الذي حفظه لهم التاريخ في أزهى صفحاته. وإن أمة تكون تلك الصفات والأخلاق بعض خلال خلفائها وأمرائها، لجدير بها أن تتخذ من سيرهم قدوتها ومثلها العليا، ومن آثارهم المجيدة حافزاً لها لتحقيق ما تنشده من نهوض وتقدم، وأن تواصل السعي والعمل بهمة ونشاط لإحياء أمجادها السابقة وتضيف إليها أمجاداً جديدة، متخذة من قول الشاعر المتقدم شعاراً لها حيث يقول:
إنّا وإن كرمت أوائلنا
لسنا على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
عندما سنح لي أن أتحدث عن عدالة الفاروق وعبقريته في الحكم وما سجله له التاريخ من أمجاد في ذلك، كنت أقدر أن أكتفي بحديث أو حديثين على الأكثر، عن مواقفه البارزة في التاريخ. فإذا سيرة هذا الخليفة العبقري تستهويني بطرائقها وإذا أنا أمام بحر زاخر بالنفائس، وأنا أشعر بأن من حق المستمعين الكرام علي أن أمتعهم ما وسعني الجهد والطاقة بطائفة من تلك الروائع. وهأنذا أعرض فيما يلي نبذة منها، لا تقل عما سقناه في حديثنا الماضي - روعة في العبقرية، وسموا في العدالة، ومثلا في العاطفة الإنسانية. فعبقرية الفاروق الفذة، وعدالته المثالية من ابرز سمات حكمه وخلافته، فهو الإمام العادل، الشديد في الحق حتى على نفسه وأقرب قريب إليه. وهو الحاكم العبقري الذي لا يفري فرية في تصريف شؤون الدولة وتوطيد قوتها وعزتها. وهو إلى جانب ذلك الخليفة البر الرحيم الشفوق برعيته، يتفقد كل صغير وكبير من شؤونهم ويسعى السعي الحثيث لما فيه سعادتهم ورفاهيتهم ويهمه أمر الرعية هماً يحرمه لذة الراحة وأطايب العيش، تشهد بذلك سيرته وأعماله، وتتحدث به أقواله وأخباره، فهذا معاوية بن خديج يفد عليه يبشره بفتح الإسكندرية فيظنه قائلاً ونائماً في وقت القيلولة، فيرد عليه عمر بقوله: ((لبئس ما ظننت، لئن نمت في النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت في الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم بين هذين يا معاوية))..؟
ومن مظاهر شدة اهتمامه بالرعية، أخذه عماله بالعدل فيهم والعطف عليهم أخذاً حازماً لا هوادة فيه لأنه يشعر بأنه المسؤول الأول عن كل صغيرة وكبيرة من شؤون رعيته ولذا كان يقول: (أيما عامل لي ظلم أحداً وبلغتني مظلمته فلم اعتبرها فإنها ظلمته) وكان يبالغ في اختيار عماله وامتحانهم ويوصيهم بحسن السيرة في الرعية ويحاسبهم على ذلك حساباً عسيراً. وكان إذا ولى عاملاً كتب عليه كتاباً أشهد عليه رهطاً من المهاجرين والأنصار ثم يقول له: "إني لم أستعملك على دماء المسلمين ولا على أعراضهم ولكن استعملتك لتقيم فيهم الصلاة، وتقسم بينهم، وتحكم فيهم بالعدل. ثم اشترط عليه أربعاً ألا يركب برذوناً (بغلاً) ولا يلبس ثوباً رقيقاً، ولا يأكل نفياً، ولا يغلق بابه دون حوائج المسلمين. وكتب مرة إلى عماله أن يوافوه بالموسم، فوافوه. فقام فقال: ايها الناس: إني ما ابعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن بعثتهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده لأقصنه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: أرأيت إن كان رجل من المسلمين والياً على رعيته فأدب بعضهم، إنك تقصنه منه؟.. قال: إني والذي نفسي بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.
فقام رجل من الناس فقال: يا أمير المؤمنين. عاملك ضربني مائة سوط فقال عمر: أتضربه مائة سوط؟! قم فاستد منه. فقام إليه عمر بن العاص فقال: دعنا إذاً فلنرضه. فقال عمر: فأرضوه بمائتي دينار كل سوط بدينارين.
وكما كان يحاسب ولاته على حقوق الرعية كان يحاسب نفسه أشد حساب كما مر بنا في حديث سابق، وكان يحاسب أقرب الناس إليه: فهذا ابنه عبد الله يشتري إبلاً ويبعثها إلى الحمى حتى إذا سمنت قدم بها إلى السوق فرآها عمر رضي الله عنه فقال لمن هذه..؟ فقيل لعبد الله بن عمر. فجعل يقول: يا عبد الله! بخ بخ!! ابن أمير المؤمنين! فجاءه عبد الله يسعى وقال: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال ما هذه الإبل؟ قال إبل نضاء اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى، ابتغي ما يبتغي المسلمون فقال عمر: مستنكراً عليه ذلك في أسلوب تهكمي: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين! اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين (يعني أن إبل ابنه وجدت من العناية والرعاية ما لم يجده غيرها من إبل المسلمين) يا عبد الله بن عمر: اغد على رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.
وهذه زوجة عمر (زوجة أمير المؤمنين) تستقرض ديناراً فتشتري به عطراً تجعله في قوارير وتبعث به مع البريد هدية إلى امرأة ملك الروم، فتقابل هديتها بهدية من الجواهر النفيسة حتى إذا وصلت الهدية إلى زوجة عمر ورآها تثبلها بين يديها، سألها: ما هذا؟ فأخبرته بقصتها فأخذ الجواهر فباعها ودفع إلى امرأته ديناراً وجعل ما بقي من ذلك في بيت مال المسلمين.
ولم يكن حرص عمر على إقامة العدل بين الرعية مقصوراً على المسلمين وحدهم، فلقد كان يوصي عماله بالذين هم من النصارى واليهود وكان يواسي غير القادرين منهم كما مر بنا في مواساته ذلك الشيخ اليهودي الضرير. ومما جاء في وصاياه بأهل الذمة: ((أن يوفي لهم بعهدهم ولا يكلفوا فوق طاقتهم، وأن يقاتل من ورائهم)) بل إن تشبعه بروح الإسلام السمحة جعله يطبق قواعد العدالة ومثل الإسلام العليا حتى على المحاربين من أعداء المسلمين، فكان إذا عقد الألوية لأمراء الجيوش يوصيهم بقوله: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة: 190)، ولا تجنبوا عنه اللقاء ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، واتقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وفي شن الغارات، ولا تغلوا عند الغنائم، ونزهوا الجهاد عن عرض الدنيا)).
أين هذه الخطة المثلى في العدل والتسامح من تلك الأساليب الوحشية التي تمارسها حكومات الغرب، المتبجحة بدعوى المدنية وحب السلام؟. أين هذه المعاملة الإنسانية المثالية من تلك المعاملة البربرية التي يعامل بها الغربيون، الشعوبَ المنكوبة باستعمارهم، والأسرى الذين يقعون بين مخالبهم، والمدن الآمنة التي يصبون عليها نيران أحقادهم ونقمتهم المدمرة ويسلطون على سكانها الآمنين الغارات الخانقة والجراثيم القتالة؟. لشتان ما بين الصنيعين، وهيهات هيهات الموازنة بين الحكمين!! ولله در شاعرنا إذ يقول:
ملكنا فكان العفو منا سجيّة
فلما ملكتم سال بالدم السطح
وحللتموا قتلَ الأسارى وطالما
غدونا على الأسرى نمن ونصفح
تحسبكم هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضح
 
طباعة

تعليق

 القراءات :560  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.