شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عمر بن عبد العزيز
هيهات أن يأتي الزمان بمثله
إن الزمان بمثله لبخيل
مثل رفيع جاءت به العرب وعجزت أمم الأرض أن تجيء بمثله.
قال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في (حلية الأوليان) حين تقديمه ترجمة عمر بن عبد العزيز: (كان واحداً في الفضل ونجيب عشيرته في العدل جمع زهداً وعفافاً وورعاً كفافاً فأشغله آجل العيش عن عاجله وألهاه إقامة العدل عن عاذله كان للرعية أمنا وأماناً وعلى من خالفه حجة وبرهاناً كان مفوهاً عليماً ومفهماً حكيماً). وقال الإمام النووي في (تهذيب الأسماء) خلال حديثه عن عمر بن عبد العزيز: (وأجمعوا على جلالته وفضله ووفور علمه وصلاحه وزهده وعفافه وورعه وعدله وشفقته على المسلمين وحسن سيرته فيهم وبذل جهده في الاجتهاد في طاعة الله وحرصه على اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه والاقتداء بسنته وسنة الخلفاء الراشدين وهو خامسهم) وقد أظهر عمر في خلافته الاعتصام بالكتاب والسنة وجاهد في حمل الناس عليهما وأخذهم بهما وهو يصور لنا شعور سياسته في إحدى خطبه إذ يقول: أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي وليس بعد كتاب الله الذي أنزل كتاب فما أحل الله لكم على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة وما حرمه على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة إلا أنني لست بقاض ولكني منفذ ولست مبتدع ولكني متبع.
كان عمر بن عبد العزيز قبل ولايته الخلافة يتألم لانصراف بعض قادة الأمة والولاة إلى نزعات الهوى فيقول: (الوليد بالشام والحجاج بن يوسف بالعراق ومحمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن وعثمان بن حيان بالحجاز وقرة بن شريك بمصر ويزيد بن أبي مسلم بالمغرب امتلأت الأرض والله ظلماً وجوراً) واشتهر هؤلاء بالظلم والبغي في ولايتهم وناهيك بالحجاج الظالم الغشوم.
فلما آلت إليه الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك كان أول ما بدأ بعد دفن سليمان المبادرة إلى إصلاح القيادة فدعا بدواة وقرطاس وكتب ثلاثة كتب؛ الأول لمسلمة بن عبد الملك يأمره بالعودة بالمسلمين وفك الحصار عن (القسطنطينية) وكان مسلمة قد خُدِعَ من الروم بطلبهم الهدنة حتى أحرز المحاصرون طعامهم وشرابهم ثم أغلقوها دونه فغضب الخليفة سليمان وحلف أن لا يعيده فاشتد على المجاهدين المقام هناك من الجهد والجوع فلما تولى عمر رأى أن لا يؤخرهم يوماً واحداً.
والكتاب الثاني كان بعزل أسامة بن زيد عن ولايته لمصر وكان ظالماً غاشماً.
والكتاب الثالث كان بعزل يزيد بن أبي مسلم عن المغرب وكان جباراً يعذب القوم بين يديه أشد العذاب بلا شفقة ولا رحمة، وبعد كتابته للثلاثة الكتب قربت له ركائب الخلافة فقال: (نحوّها عني ما لي وما لها قربوا لي دابتي). وقال لمزاحم، غلامه: ((ضمها إلى بيت مال المسلمين)) ولم يشأ أن يقيم في دار الخلافة التي تسمى (الخضراء) وعدل عنها إلى دار صغيرة ثم بدأ برد المظالم إلى أهلها. وأول ما بدأ بنفسه والخروج من ماله فخرق سجلات مزارعه حتى انتهى إلى مزرعة خيبر فسأل عنها من أين كانت لأبيه؟ فقيل له كانت في نخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركها الرسول فيئاً للمسلمين، ثم صارت إلى مروان، فأعطاها أباك. فخرق عمر سجلها أيضاً وقال: (أتركها حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم يبق إلا مزرعة (السويداء) فإنها كانت أرضاً براحاً أصلحها عمر من صلب عطائه وكان الوليد بن عبد الملك قد أقطع ابنه روحاً حوانيت بحمص فلما ولي عمر جاءه نفر من أهلها يطالبون روحاً بها وأقاموا البينة لدى عمر فقال لروح: (خل لهم حوانيتهم) فقال روح: هي معي بسجل الوليد بن عبد الملك! فقال عمر: (وما يغني عنك سجل الوليد والحوانيت لهم قد قامت البينة عليها) فلما خرج روح توعد أحدهم فراح الحمصي إلى عمر قائلاً: هو يتوعدني فقال عمر لرئيس حرسه: (أخرج إليه فأسلم الحوانيت لهم فإن لم يفعل فأتني برأسه).
* * *
وكان سليمان بن عبد الملك قد أمر قبل وفاته بعشرين ألف دينار لعتبة بن سعيد بن العاص، فدارت الورقة في الدواوين حتى وصلت لديوان الختم فتوفي سليمان ولم يختمها وكان عنبسة صديقاً لعمر قبل خلافته فلما جاء يراجعه في ما أمر به سليمان قائلاً:
(وأمير المؤمنين أولى بإتمام الصنيعة، وما بيني وبينه أعظم مما كان بيني وبين سليمان) فقال عمر: وكم ذاك؟ قال عنبسة: عشرون ألف دينار. قال عمر: ((إنها تغني أربعة آلاف بيت من المسلمين فكيف أدفعها لرجل واحد؟ ما لي إلى ذلك من سبيل) فخرج عنبسة من عنده، وأعلم بني أمية بخبره وقال لهم: 0يا بني أمية زوجتم صاحبكم بنت عمر بن الخطاب فجاءكم بعمر ملفوفاً في ثيابه).
وما زال عمر سائراً في عدله وورعه. قيل أتاه رجل بتفاحات كهدية فأبى أن يقبلها فقيل له: كان الرسول يقبل الهدية فقال: ((هي لرسول الله هدية ولنا رشوة)) ودخل عليه ابن أبي زكريا فقال: يا أمير المؤمنين أريد أن أكلمك بشيء قال: قل. قال إنك ترزق العامل من عمالك ثلاثمائة دينار؟ قال: نعم، قال: ولم ذلك وهي كثير؟ قال عمر: أردت أن أغنيهم من الخيانة. فقال فأنت يا أمير المؤمنين أولى بذلك. فأخرج عمر ذراعه وقال: ((يا بن أبي زكريا.. إن هذا نبت من الفيء ولست أعيد منه شيئاً. وقال لزوجته فاطمة بنت عبد الملك: ((قد علمت حال هذه الجواهر التي عندك وما صنع أبوك ومن أين أصابها فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين فإن احتجت إليه أنفقته في مصالح المسلمين وإن مت قبل ذلك فلعمري سيرد إليك. فقالت له: افعل ما شئت. ومات عمر ولم يصل إليه فرده عليها أخوها يزيد بن عبد الملك فامتنعت عن أخذه فقسمه بين نسائه وأقاربه.
* * *
نحن في عصرنا هذا نفاخر بإعطاء الموظفين اختصاصهم وعدم تركيز المسؤولية والسلطة في يد واحدة، وقد أخذ عمر بن عبد العزيز بهذا النظام فكتب لعروة والي اليمن يقول: (أما بعد فإني أكتب إليك آمرك بكذا، وكذا فتراجعني وأنت تعرف بعد ما بيني وبينك ولا تعرف آخذات الموت حتى لو كتبت لك: رد على كل مسلم مظلمته لكتب إلي، أردها عفراء أو سوداء انظر إن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني.
وكتب إلى عامله بالمدينة في المظالم فراجعه فكتب إليه: (إنه يخيل إلي، إني لو كتبت لك أن تعطي رجلاً شاة لكتبت أصغيرة أم كبيرة ولو كتبت لك بأحدهما لكتبت أضائنة أم معزى فإذا كتبت لك بعد هذا فنفذه ولا ترد علي والسلام).
والدولة اليوم ترى من واجبها أن تتحمل تبعات طلبة العلم، ولقد كتب عمر إلى عماله يأمرهم أن يجروا عليهم الرزق ويفرغوهم للطلب وكتب لوالي حمص يقول: (انظر إلى الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار).
وكان يرى رحمه الله أن الدولة مسؤولة عن إصلاح أي فساد لا يستطيع الفرد دفعه، وجاءه رجل فقال: (إن لي مزرعة بها زروع خربة خربها الجند من جيش الشام فأفسدوها) وبعد أن تبين لعمر صدق مقاله عوضه بعشرة آلاف درهم.
* * *
والدولة اليوم ترى أنها تتكفل بحماية أموال رعاياها من الفقراء، فهذه امرأة من مصر تسمى (فرتونة) فقيرة سوداء لها بيت صغير تهدم بعض جوانبه ولها دجاجات تستعين بهن على معيشتها، واللصوص يعتدون على دجاجها فسمعت بعدل عمر وحبه للخير فكتبت تشكو حالها وترجوه أن يحصن بيتها، فلما وصل إليه الخطاب كتب لواليه بمصر يقول: (إن فرتونة مولاة ذي الأصبع تذكر قصر حائطها ويسرق منه دجاجها فاركب أنت بنفسك وحصنه لها).. وهذا مثل رفيع من أمثلة الرفق بالضعفاء والمساكين وتعطيل المحسوبية واستغلال النفوذ من أدواء الحكم وعيوب الدولة، والحاكم الذي يفتح بابه للاستغلال أمام أقاربه ومحاسيبه يفتح البلاء على الناس. وعمر بن عبد العزيز حارب هذه المحسوبية بكل ما استطاع فاستخلص حقوق الأمة من أيدي الظلمة في صرامة وشدة.
وقد كان رفيقاً بالحيوان أيضاً، بلغه أن بمصر نقالات يحمل عليها ألف رطل فكتب لعامله يأمره أن لا يزيد حمل البعير أكثر من ستمائة رطل.
وكان أعرف بمقدار الرجال لا يبخسهم حقوقهم حتى لو انصرف الناس عنهم، دخل عليه ابن مورق وهو يعطي العطاء فسأله عمر (من أنت؟) قال: من قريش. قال عمر: (من أي قريش؟) قال الرجل: من بني هاشم فقال عمر: (من أي بني هاشم؟) فسكت ابن مورق ولم يجب وخاف أن يحرمه العطاء فأعاد عمر عليه المسالة، فهمس ابن مورق قائلاً مولى علي بن أبي طالب وكان أنصار علي مكروهين من بني أمية فوضع عمر يده على صدر ابن مورق قائلاً: (يا مولى علي ابن أبي طالب) حدثني غير واحد أنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ثم قال لمولاه مزاحم: كم تعطي أمثال هذا؟ قال مزاحم: (مائتي درهم) قال عمر: اجعلها خمسين ديناراً لولايته علي بن أبي طالب.
وكان عمر لا يرى للشعراء حقاً أو سهماً في بيت المال لأنهم ليسوا من الأصناف التي نص عليها القرآن في مصارف المال.. قيل دخل عليه عون بن عبد الله الهذلي بعد توليه الخلافة قائلاً لعمر: إن الشعراء واقفون بالباب. فيقول له عمر: خبرني عنهم.. فيقول عون: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة، فيثور عمر ويقول: ذلك الفاسق لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل:
ألا ليت إني يوم حانت منيتي
شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله
وليت حنوطي من مشاشك والدم
فليته تمنى لقاءها في الدنيا على حل وعمل صالح. من بالباب سواه؟ فيقول عون: الأخطل التغلبي. فيقول عمر: عليه اللعنة أليس هو القائل:
فلست بصائم رمضان عمري
ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بقائم كالعير أدعو
قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا
وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يطأ بساطي هذا الكافر، فمن غيره؟ قال عون: جرير بن عطية الخطفي، فقال عمر الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فهذا، وأمر بدخوله وأنشد قصيدته التي مطلعها:
إن الذي بعث النبي محمداً
جعل الخلافة في الإمام العادل
وسع الخلافة عدله ووفاؤه
حتى ارعووا وأقام ميل المائل
فقال له عمر: يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقاً.. تذكر يا جرير أن الله سائلك عما قلت، واتق الله يا ابن الخطفى، لا أرى لك فيما عندنا شيئاً، فيقول جرير: أنا منقطع وابن سبيل. فيقول له عمر: لك ما لأبناء السبيل زاد ونفقة حتى تبلغ محلك. فيأمر مزاحماً مولاه فيعطيه مائة درهم كانت معه.
* * *
وانقطع عمر أيام خلافته عن الطيبات واكتفى بأكل العدس والثوم واكتفى باللباس الواحد.. دخل عليه مسلمة بن عبد الملك وهو على فراش الموت متسخ الثياب فقال لزوجة عمر فاطمة : ألا تغسلون ثيابه؟ فقالت: والله ما له غير هذا القميص.
قيل إن بني أمية دسوا له السم البطيء في طعامه ليتخلصوا منه وأدرك عمر ذلك.
وكانت وفاته سنة 101هـ ومدة خلافته سنتان ونصف السنة تقريباً، ودفن بدير سمعان ولم يترك ميراثاً لأهله وأولاده سوى واحد وعشرين ديناراً..
وهذا غيض من فيض أوجزناه في مقالنا هذا، فلقد حكم عمر بن عبد العزيز العرب والمسلمين عامة حكماً راشداً قاصداً قائماً على الكتاب والسنة والعدالة والمساواة والإخاء.. وإنا نأمل من كل حاكم مسلم في كل إقليم من أقاليم العروبة والإسلام أن ينهجوا منهج عمر ويتخذوا من سيرته مثلاً وقدوة حسنة، وأنى لنا أن ندرك شأوه ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله وبالله التوفيق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1090  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 110 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج