شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام من عمري
جولة في أوروبا
(4)
أقمنا ببرلين خمسة أيام، وفي اليوم السادس قطعنا أنا وابني محمد رؤوف رفيق الرحلة تذكرتين بالقطار إلى ((امستردام)) عاصمة هولندة بطريق (هانوفر).. وبذلك نكون قطعنا ألمانيا من شرق إلى غرب، مارين بعديد من المدن والمصانع، عدا المزارع والمراعي والأنهار والغابات، وركب معنا رجل هولندي من رجال المال والأعمال وزعم أنه زار المنطقة الشرقية، وعمل بالظهران، حيانا الرجل بانحناءة بسيطة برأسه لما علم أننا سعوديون وأعجب بالمملكة قائلاً: إنها غنية بالبترول وفي وسعنا أن نصبح أمة قوية لو استخدمنا مكاسبنا في إحياء الزراعة وإنشاء المعامل والمصانع فقد نغتني عن كثير من مواد الاستيراد فنحن نبدّد كل مواردنا في جلب أقواتنا اللازمة وسائر الكماليات.. قلت له: أولم يلفت نظرك العمران الهائل في أطراف المملكة وطرق المواصلات؟ ثم هناك تقدم ملحوظ في مجال التعليم والتخطيط والإنشاء؟ قال: صحيح! ولكنكم ما زلتم متخلفين، فحاجتكم ماثلة ابتداء من إبرة الخياطة وعود الثقاب حتى ما يكسوكم من أرخص الثياب قلت: للابن خلصنا من حديثه فحسبنا منه هذا التقريع والتأنيب وأنهينا الحديث معه قائلين بأن حكومتنا آخذة في كل ما من شأنه أن يصل بنا إلى مدارج التقدم والرقي، قال: ذلك ما نرجوه لكم ونتمناه.. بعد ثلاث ساعات من المسير المتواصل في القطار السريع وصلنا امستردام عاصمة هولندة وقضينا ليلنا في أحد الفنادق، وفي الصباح خرجنا بعد إفطار خفيف إلى رحلة مع زمرة من السائحين، وكانت الرحلة على زورق بحري يسير بنا في القنوات الممتدة من البحر بأطوال ثمانين كيلومتراً تتصل ببعضها بوساطة جسور مجموعها ستمائة جسر تصل المدينة ببعضها.. وكانت مرشدتنا في الزورق تحاضرنا عن معالم البلد وآثارها حتى انتهت بنا الرحلة إلى الميناء حيث السفن الكبيرة والترسانة الضخمة.. ثم رجعنا من حيث بدأنا، وقد تجولنا داخل البلد، ولاحظنا كثرة راكبي الدراجات. وآخر عدد لها رأيناه عشرون ألفاً مع وجود ((الحافلات)) والأتوبيسات والترام، بأعداد وافرة هناك..
كان علينا أن نطلب سمة الدخول إلى لندن من القنصلية البريطانية التي قيل لنا إنها تبعد عن العاصمة ساعة ونصف الساعة في بلدة (دينهاك)، وفي اليوم الثاني ركبنا القطار الكهربي إلى تلك البلدة فتعرفنا إلى طالبين: أحدهما عراقي والثاني أردني ووجهتهما إلى (بلدة الأقزام) وحينما استفهمنا عنها علمنا أنها أنموذج بلدة مصغرة يقصدها السياح، اتفقنا معاً لمشاهدتها ونزلنا بمحطة البلدة فدهشنا لنرى لأول مرة بلداً مصغراً بمبانيه ومرافقه وملاهيه وكنائسه ومعامله وموانيه ومطاراته داخل أرض فيحاء تحوطها الزهور والأشجار والرياحين، دلفنا إلى داخل هذه البلدة لنرى مبانيها التي لا تتجاوز المتر أو بعض المتر تتخللها الشوارع وتسير فيها الحافلات والسيارات المصغرة غادية رائحة، بينما نسمع من داخل المعامل دوي الآلات؛ فإذا تركت هذا المنظر ووقفت على بناء كنيسة سمعت رنين الأجراس كان القوم في صلاة فإذا نظرت لدور الملاهي سمعت أنغام الموسيقى، وإذا ما تقدمت إلى محطات القطر رأيت القطار يسير على خطه الحديدي يتسلق الجبال تارة والوهاد أخرى أو يغيب في الأنفاق، وإذا تحولت إلى الميناء البحري رأيت الزوارق والسفن غادية رائحة في نظام بديع وشكل غريب، وإذا خطوت إلى المطار ترى الطائرات على اختلاف أشكالها البعض قد هبط بوقته والبعض متهيّىء للإقلاع، وقد يخيل لك أنك تسير في عالم آخر فيختلط عليك المجاز بالحقيقة والحقيقة بالمجاز بينما ترى السائحين ينهالون بالألوف إلى ذلك المكان والسير بداخله يسير بدقة ونظام (1) ، وإذا تعبت من المشي فهناك الأرائك المصفوفة داخل خمائل الزهور والظلال الوارفة والأشربة المرطبة.. وإن الإنسان ليحتار فيم ينظر؟ لهذا الإبداع والاختراع؟ أم لجمال المكان؟ أم الغيد الحسان؟ أم لما حواه من التحف والآثار؟ فلقد وفق القائمون بهذا الملهى الكبير والمهرجان العظيم في مواسم الاصطياف، وهناك التقينا بأحد أصدقائنا (الحاج أحمد الأندنوسي) فرافقنا باقي اليوم حتى اليوم الثاني وأرشدنا إلى بعض المتاحف والمكاتب وإلى حديقة الأسماك والحيوان.
وفي امستردام يوجد كثير من الأندنوسيين الذين وفدوا إليها زمن الاستعمار، ولذا تجد الكثير من المطاعم الأندنوسية هناك وقد دخلنا بدورنا إلى بعض تلك المطاعم وتناولنا فيها الغداء، بيد أنه كان مرتفع القيمة كغيره من المطاعم الإفرنجية هناك ورأينا به الكثير من السواح يدخلونه عمداً ليتمتعوا بوجباته الشهية.
غادرنا أمستردام ووجهتنا (بروكسل) عاصمة بلجيكا ونزلنا بفندق وسط البلد يشرف على دور للملاهي ومقاه وخمارات (بارات) قضينا سهرتنا بشرفة الفندق وفي الصباح انتظمنا في رحلة سياحية لمشاهدة معالم البلد وما تحويه من آثار وكانت معالم وآثار الكنيسة الكبرى والقصور الملكية والمحكمة العليا والساحة الكبرى والمتحف، وأهم ما يلفت نظر السائح فخامة تلك القصور من الزخرفة والإبداع في التماثيل المرمرية والنقوش الذهبية وضخامة البناء.
تجولنا باقي النهار داخل البلد حتى بوابة لكسنبرغ، ثم رجعنا إلى الفندق وتناولنا فيه العشاء وسهرنا بصالته الكبيرة على أنغام الموسيقى ومشاهدة التلفزيون. وفي الصباح الباكر قصدنا المحطة وقطعنا تذكرتين إلى لندن بطريق (أوستن برغ) ومن أستن برغ ركبنا باخرة صغيرة لعبر المانش، إلى (دوفر) وكان البحر هائجاً وما إن غادرنا الميناء حتى هبت علينا ريح صرصر عاتية فأصابت الركاب بالدوار. لم تكن هذه الرحلة ممتعة كما كنا نتوقع بل كانت ممتعة شاقة لمدة أربع ساعات فوصلنا (دوفر) وبعد الاجراءات الجمركية والتفتيش الرمزي كان القطار الذاهب إلى لندن في انتظار الركاب وبعد ساعة وربع الساعة كنا بمحطة (فيكتوريا) بلندن.. فركبنا التاكسي ويممنا صوب ضاحية (فنستري بارك) حيث معنا عنوان فنادق يديرها رجل باكستاني هناك، ولما وصلنا وجدناها أشبه بدور الطلبة الغرباء فاضطررنا لنرجع إلى البلد بعد أن تحملنا أجرة التاكسي جنيهين. طفنا مدة ساعتين وأكثر نفتش عن غرفة في فندق أو بانسيون فكان الجواب (فل) ملآن أو (ميليت): متكامل. وأخيراً اهتدينا إلى فندق جديد بحي (هاي كينزغ) أشهر أحياء لندن غرفة واحدة ذات سريرين بجنيهين ونصف مع الإفطار، حمدنا الله بعد أن أخذ منا التعب في البحث والتنقيب أصبحنا وكان اليوم أحداً فخرجنا وخارطة لندن بيد الابن وكان الجو غائماً وقد أمطرنا طوال الليل وأحسسنا ببرودة زائدة بالرغم من أننا كنا في شهر أغسطس قلب الحر فكيف يكون البرد في باقي الفصول؟.. سألنا عن مكان نقضي فيه اليوم فدلنا أحد الطلبة السوريين الذي التقينا به مصادفة في الأتوبيس إلى ضاحية (هاملتون كورت) وإذا بهذه الضاحية قصور شامخة لملوك انكلترة السابقين، ويتبع القصور متاحف وآثار وحدائق فواحة بالأزهار بمختلف الأشكال والألوان، والمكان غاص بالسائحين وبجانب القصور مدينة للملاهي أقيمت خصيصاً في ذلك الشهر لترويح سكان لندن والسائحين..
بعد تجوالنا في القصور الملكية تحولنا إلى مدينة الملاهي وقد بدأت الشمس تفتح عينها تارة فتبهج الجو بشعاعها الدافىء وتغمضها أخرى فالجو غائم لطيف. كانت الملاهي ألواناً شتى من الألعاب والمراقص والألعاب البهلوانية وسوق المعروضات من السلع والخردوات وعلى جوانبها مطاعم خفيفة للأطعمة الجاهزة من الشطائر (السندوتش)، تغدينا غداءً خفيفاً وقضينا سحابة نهارنا هناك، وفي المساء رجعنا إلى لندن وقد أخذ منا الجوع فدلفنا إلى مطعم فاخر علنا نجد طلبنا من الطعام وقد كان المطعم ممتازاً بالفعل من الدرجة الأولى وممتازاً في الغلاء الفاحش: كبشتان من الحساء وربع ربع فرخة مع قطع معدودة من البطاطس وسلاطة خضراء ولقيمات من الخبز وكوبان من شراب البرتقال بجنيهين أسترلينيين عدا النفحة (البقشيش) وهذا البقشيش يكاد يكون ملزماً دفعه في المطاعم والمقاهي وركوب التاكسي والحانات.. نحن الآن في (بيكادلي) قلب مدينة لندن وهو أكبر أسواقها ويشتمل على دور السينما والمسارح وأنواع الملاهي والمطاعم وملتقى جميع شعوب العالم، هناك اخترنا مشاهدة (السين راما) وهي عبارة عن سينما تصرف فيها المخترعون بأن يخيل لك كأنك قطعة من المشهد فهو يدور حولك بممثليه وأبطال الرواية في أحجامهم الطبيعية، وكان الفلم يصور مشهداً من مشاهد الحروب فكنا نرى طلقات المدافع ودويها كأنها بين المتفرجين كما كنا نرى الدبابات والطائرات وأفواج الجنود كأنها تمر بنا ونحن جالسون، فكان منظراً جديداً بالنسبة لنا ومن باب العلم بالشيء، وفي اليوم الثاني كانت وجهتنا السفارة السعودية بلندن لنجتمع ببعض إخواننا السعوديين فسلمنا على القائم بالأعمال وزيرنا المفوض السيد إبراهيم بكر والتقينا بكثير من الأخوان وتزودنا بصحفنا المحلية واستنشقنا أخبار الوطن في لهفة وشوق ثم عرجنا على حدائق (هايد بارك) الشهيرة والتي كانت بمقربة من دار السفارة؛ وإنك لتعجب من كبر هذه الحدائق التي خصصت لرفاهية الشعب في قلب البلد فرأينا الناس منتشرين في أنحائها فالأرائك منثورة هنا وهناك وجماعات السائحين والمنتزهين زمراً زمراً جالسون، وتسمع الخطباء يخطبون بكل حرية بدون رقيب والناس حول كل منهم يصفقون. اتخذنا مكاناً على ضفاف البحيرة التي يسبح عليها أنواع البط والأوز وكان منظراً أخاذاً بمجامع القلوب. طوفنا بأرجاء تلك الحدائق حتى كلت منا الإقدام. كان الجو ملبداً بالغيوم فأخذنا طريقنا للفندق وبدأ المطر يتساقط رذاذاً وكنا بلغنا الفندق وبدأ يستمر في الهطول، كان عشاؤنا دجاجة مشوية ابتعناها في طريقنا مع حبات من الخوخ المستورد وقيمة الواحدة بشلنين؛ أما الشاي فكنا نهيئه في الغلاية فوفر علينا ثمن الشاي في الكازيونات، وفي تلك الليلة زارنا الدكتور رضا خليفة من المدينة والمبتعث في لندن للتخصص في الجراحة ودعانا لبيته لوليمة غداء وكان قد سبقه لدعوتنا سعادة السفير فأجلناها ليوم آخر وذهبنا في اليوم الثالث لحفلة الغداء التي أقامها لنا السفير في مطعم (تليانو) الشهير، شكرنا للسفير دعوته وكرم ضيافته وإلى الملتقى قارئي العزيز في لندن إن شاء الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :643  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 41 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.