شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عادة كتابة المذكرات.. (2)
لقد بحثت فيما سبق الناحية السلبية وأريد الآن أن أبحث الناحية الايجابية من الموضوع، فبقدر ما كان حديثي مثبطاً من قبل سيكون مشجعاً الآن.
إن كثيراً من الذين يرغبون في كتابة اليوميات والذين يجب عليهم أن يفعلوا لأنهم أهل لذلك ولأنهم يتصفون بالشجاعة والحيوية. إن كثيراً من هؤلاء يقولون لماذا أكتب يومياتي وأي شخص في حياتي يستحق ذلك وما هي أهمية هذه الحياة؟ وأقول لهم ماذا تعنون بأهمية حياتكم؟ هل تعنون أهميتها بالنسبة للعالم أم بالنسبة لكم. إن لكل حياة من غير شك - أهمية عند صاحبها وإنه لحريص أن يسجل أطوارها.
إن كبار الرجال الذين كتبوا يومياتهم ليست حياتهم إلا صورة لحياة كل إنسان يشاركهم هذه الحياة. ولو رجع الكاتب الكبير ((بيبسي)) إلى يومياته بعد يوم من كتابتها لوجد أن الكثير فيها عادي وتافه، ومن المؤكد أنه لم يكن أبداً يتصور أنه كان يكتب أشهر الكتب في الأدب الإنكليزي. وقيمة اليوميات التاريخية تزداد كلما مضى الزمن، على عكس قيمة الروايات، فبعد مرور سنوات على كتابة اليوميات نجد أن في كل جملة في اليوميات تتفتح بمعان جديدة ذات مغزى عميق وجوانب مشرفة.
وقد تثير جملة كتبتها عن غير قصد في يومياتك في مستقبل الأيام ضجة تملأ الدنيا ويشترك أقطاب التاريخ والأدب في مناقشتها وتحليلها وتكتب الشروح المطولة والآراء المختلفة حول الموضوع. فلو حدث أن حضرت حفلة مثلاً اجتمع فيها شخصيتان مشهورتان بالنكتة والمرح، وبمجرد أن جلس الموجودون إلى المائدة طلب أحدهما من الآخر أن يقدم شيئاً من الملح وهو يأكل طبقاً حلواً بحركة كاريكاتورية ذات مغزى ضج لها جميع المدعوين بالضحك.
وبعد عودتك من الحفلة أخذت القلم وكتبت في يومياتك ((دعينا اليوم إلى حفلة اجتمع فيها أديبان كبيران من أدباء الفكاهة والمرح وسأل أحدهما الآخر أن يناوله طبق الملح وهو يتناول الحلوى فضج المدعوون بالضحك.
إنك لو مررت على هذه الجملة في مذكراتك بعد ثلاث سنوات يظهر لك فيها معنى غامض يحتاج إلى شرح وتفصيل، وبعد مرور ثلاثين سنة فإن من ينبغ من أبنائك في الأدب يجد أن اهتمامك بكتابة هذه الجملة في ذلك التاريخ المعين عن أديبين معروفين لا بد أنك تقصد منه جانباً غير جانبه الظاهر فيدون ملاحظاته عليه. وبعد مضي قرن أو أكثر يقرأ الجملة والتعليق أديب آخر فيثير الموضوع وتكبر الضجة وتتسع الدائرة فتسحب البرقيات لكبار أدباء العالم لشرح المعاني الغامضة في هذا اللغز عن الأديبين الكبيرين ويستطرد البحث فيشمل بحوثاً أخرى - عن شخصية الأديبين والسؤال عما إذا كان قد قدم الأول الملح للثاني عندما طلبه ذلك ولماذا ضج الجمهور بالضحك وتكتب الكتب وتستفيض الشروحات ويكسب الكثيرون مادة وشهرة على حساب هذه الضجة.
فعلى الذين يترددون في كتابة يومياتهم أن يدركوا مثل هذه الحوادث في يوميات الآخرين وسيجدون أن ما يرونه تافهاً اليوم قد يكون في المستقبل من أهم المواضيع التي تشغل الصفحات لدى الأجيال المقبلة.
وربما اعترض أحد قائلاً: مالي وللأجيال القادمة. إني لا أكتب يومياتي لأورثها ولكن أسجل فيها صوراً من حياتي. ربما يكون ذلك صحيحاً ولكن أؤكد لك أن أكثر الذين يعنون بكتابة مذكراتهم إنما يكتبونها للأجيال القادمة لأن كتابة اليوميات بطبيعتها تاريخ، والتاريخ لا يكتب إلا للأجيال القادمة؛ ولو تأكد احدنا أنه سيكون ليومياته صدى لدى الأجيال القادمة فإن ذلك سيغريه بلا شك لأن يبدأ حالاً في كتابة يومياته ويستمر في كتابتها بلهفة وإلحاح حتى آخر أيام حياته.
وقد يكون هناك قسم من الناس لهم ميول غريبة فلا يحفلون باهتمام الخلف! ومع احترامي لهؤلاء أقول لهم: إذا كنتم لا تحفلون باهتمام الخلف بآثاركم من بعدكم، فإن هناك أسباباً أخرى تحثكم على الكتابة، منها التسلية وملء الفراغ ومنها أنكم ستجدون في آخر أيام حياتكم سجلاً حافلاً لهذه الحياة تقرأونه بلهفة وشوق وتستمتعون به بين الحين والحين كلما هزكم الشوق إلى مشرق حياتكم وشبابها.
على أنكم حين تستمرون في كتابة يومياتكم وتنسجمون فيها، ستجدون أن كتابة اليوميات فن رفيع، في ممارسته متعة روحية وذهنية هي أجمل سبب للاستمرار في كتابتها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :612  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 94 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.