شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
يدور الفلك دورته المستمرة فيطوي بين ثناياه السنين والشهور والأيام وتتجدد صفحة الحياة فتنشر أمام أعيننا صوراً فيها من العنف والقسوة ما تلتفت له القلوب الواعية وتضطرب له النفوس المتيقظة، ومن اللين والطراوة ما يكون سبباً في تحجر القلوب اللينة وغفلة القلوب الواعية.
والحياة بين هذا الطي والنشر تعرض أمام أعيننا في كثير من الرزانة والتعمق صور هذا الماضي الذاهب بما فيه من خير وشر، لا تتحايل على الخير فتلبسه ثوب الخديعة والغرض فيظهر مشوهاً ممقوتاً ولا على الشر فتزين مظهره ليتقبله الناس كأنه الخير المحض بذلك ويقضون على الفضيلة في مهدها.
بل إن الحياة في عرضها تلك الصور حريصة كل الحرص أن تعرض أمام النظارة صورة حية صادقة من صور الماضي، لا تخشى في إبرازها في مجهرها المكبر خطيراً ولا أميراً، تبرز الشر بما فيه من البشاعة والموعظة وترى صاحبه بأخلاقه الصحيحة وسجاياه التي هي فيه من غير مواربة ولا رعب تعرض صفحة الخير مهذبة من شهوات الدساسين بعيدة عن يد الخديعة والغرض، منزهة عن الرغبة والرهبة في ثوبها السليم الصادق. ثم هي تحكم بعد ذلك حكمها الصادق فتعلي صفحة الخير وتضمن لصاحبها الخلود والبقاء، وإن كان في حياته أبعد الناس عن التطلع إلى الصيت أو ذيوع الاسم مرغمة بذلك أنوف أولئك الذين حاربوا ويحاربون المبادىء السامية معلنة لهم أن الفضيلة لا شك منصورة أمام الحقيقة والتاريخ.
وتحكم على الشر فتخفض صفحته وتضمن لصاحبه سوء الذكر وإن كان في حياته قد تمتع بإطراء المنافقين والمخادعين المرائين قاهرة بذلك الشر وأهله في نظر الحقيقة والتاريخ.
ولو أردت متابعة السنين والشهور والأيام بل الساعات والدقائق لأستخلص للقراء الكرام في كل سنة تعرض وشهر تعقب وساعة تلمح من ذكرى الحوادث الهامة التي مرت في مثلها من السنين والشهور والأيام والساعات والدقائق لعجزت ولعجز معي فحول الكتاب وأساطين البلاغة، ولكن هي في صمتها وسكونها تمر أمام المفكرين المتدبرين لأبلغ إفصاحاً وأروع تأثيراً وأشد هولاً من أي قلم يسطر، وأي بليغ يفحم، وأي كتاب يذكر. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران: 190 - 191).
وفي صباح الثاني عشر من مثل هذا الشهر المبارك يهتز إيوان كسرى وتسقط شرفة من شرفاته وتخمد نار فارس بعد اثني عشر سنة لم تعرف فيها الخمود ويضطرب الناس ويؤكد العرافون بحصول حادث ذي شأن له أثره البليغ في تغير صفحة هذا العالم - ولم يكن ذلك الحادث إلا ولادة آمنة بنت وهب ابنها الميمون بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم هذا هو الذي انتهت إليه رياسة قومه فكانت له سقاية الحاج ورفادته فكان يطعم الحاج جميعه حتى يصدر عن مكة وهو الذي سن رحلة الشتاء والصيف وهو الذي عقد العهد على حسن الجوار مع الإمبراطورية الرومانية ومع أمير غسان فكانت قريش بسبب ذلك تجوب مواطن الشام في أمن وطمأنينة.
ويهرع البشير إلى جده عبد المطلب فيبشره بمولود ابنه وقرة عينيه عبد الله الذي افتداه - حين أمكنه الفداء - بمائة ناقة من خيرة إبله وحزن عليه ولا يزال حين نزل به الموت وعجز هو عن تفاديه فهب يضرب قلبه ضربات الفرح وتتقلب أمام عينيه صفحة الحياة الماحلة المليئة بالحزن واليأس إلى صفحة خضراء ملؤها الأمل وملء شفتيها الابتسام، فيدخل إلى آمنة وينظر إلى المولود ثم يسمع من آمنة ما رأت وسمعت وشاهدت يوم الولادة فلا ينكر ولا يعجب، ويحمل الطفل بين ذراعيه إلى الكعبة فيطوف به ويحمد الله على أن أزال بهذا المولود الجديد ما انطبع في نفسه من الحسرة والألم على حبه ابنه عبد الله ثم يرجع به إلى أمه فيقول لها إني سميته محمداً ويدعو لها وله بالخير.
لم يكن هذا الاسم على ما ذكر المؤرخون معروفاً عند العرب، ولكن عبد المطلب رمزاً لما وقر في نفسه من الحمد والثناء لمولاه الذي سكن روعه وقشع عنه سحابة حزنه بهذا المولود الجديد، اشتق له هذا الاسم من صيغة الحمد وكان هذا هو الاسم الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لآخر أنبيائه وأخلص أصفيائه فذكره في الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين.
ولد محمد صلى الله عليه وسلم في أمة بدوية يعيش أهلها على ما تنتجه لهم ماشيتهم من لحوم وألبان وأصواف لا يعرفون للاستقرار معنى، ينزلون حيث ينزل الغيث ويرحلون حيث تضحك الأرض من بكاء السماء.
وهذه الحياة مع ما فيها من جهد ومشقة ومجابهة للصعوبات، فإنها بعيدة كل البعد عن أن تتمخض بحضارة ثابتة الأركان باقية الأثر، فالحضارة كما يقولون وليدة اجتماع متماسك وعمل متواصل في كل ناحية من نواح الحياة، وأنّي للعربي الراحل مرة والثائر أخرى أن يتصف بهذه الصفات التي تولد الحضارة!.
وكان اختيار الله لنبيه من هذه الأمة حجة الله على خلقه في أن ينتخب لرسالته من شاء من عباده لا يعترف في ذلك للملك وعظمته وللأبهة ومفاخرها وللحضارة ونتائجها، فلا يدل عليه أهل التيجان بتيجانهم ولا أهل الحضارة بحضاراتهم أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى . وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (الضحى: 6 - 8) وبعد: فليس من إحياء ذكرى محمد صلى الله عليه وسلم في شيء أن تجتمع الجموع وتوقد الشموع وتقام المهرجانات وتصرف المبالغ في سبيل التفاخر والتكابر وأن تقاوم باسم محمد تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم .
ولستم من محمد في شيء إن لم تحيوا في نفوسكم بذكراه تعاليمه التي جاءكم بها وتردوا إليها روعتها وجمالها بالزهد والتقوى والسعي والكدح لله وفي سبيل الله وسبيل أمتكم تحيون وفي سبيل أمتكم تموتون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :615  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 52 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.