إضاءة |
|
بقلم: حياة عبد الحميد عنبر |
|
في تلك الحقبة من الزمن، ومع بداية احتضار الدولة العثمانية وتوافد جنائزها من كل مكان، عاشت فيه من العالم، كان كل موطن لها يرزح تحت تركتها الثقيلة، وكانت تركة بشعة عطلت العقول وأعمت الأبصار.. وعاثت في الفكر فساداً. |
كانت الحجاز أرض الرسالة ومركز النور ترزح تحت حكام أضعفت هذه الدولة ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم: فحاولوا أن يثوروا ولكنهم كانوا أضعف من الثورة وفي غمرة هذه الأحداث. بدأ زحف جديد كان الناس يرزحون تحت الجهل والقلق وعدم الاستقرار وشظف العيش والاستسلام لنظام التكايا وعطاءات الوالي العثماني، ولم تكن تلك العطاءات لتسد إلاّ القليل من البطون الجائعة والأنفس المتلهفة للاستقرار والأمان. |
كان الزحف القادم يبدو مباركاً عند البعض وفيه الرهبة والخوف عند البعض الآخر، ولكنه وبكل حال أفضل من الواقع الموجود، وحين تكشفت الأحداث، فكان التواجد الجديد نوراً وأملاً وقدوة، ومد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يده فصافحها الجميع بالتراضي. وتفتحت القلوب وكانت هناك ثلة من العقول الشابة النابغة التي أطربها هذا الحدث، فتقدمت بفكرها وحماسها تحمل الشموع، وتزغرد بلسان القلم المقدس الذي علم الله تبارك وتعالى به الأفئدة، وبه كتبت الألواح والصحف. |
كان الشاعر إن جازت التسمية فشعره لم يتعد قصائد… معدودة، لكن كلها مواكبة للأحداث مليئة بالحماس والعاطفة التي تلهم، وهل هناك أجمل من عاطفة الوطن؟ وهل هناك من يستحقها أكثر ممن يعطيه كل الإنجازات التي تسير به إلى الخير والبركة؟ هكذا كانت تمجد كل عمل قدير تقوم به هذه الدولة الفتية. وتمجد العلم والعلماء وتحيّي وفود بيت الله، ولا يوجد بينها إلا قصيدة يتيمة أستلّها من بين تعب الحياة لتحكي عاطفة لتجربة شخصية: وقصيدة أخرى تحكي عاطفة الأبوة وهي تزف إحدى ثمرات الفؤاد إلى بيت الزوجية: يحيي بها زهرات المحفل وحضوره. |
كان رحمه الله أحد الكبار الذين ساهموا بالفكر: كان.. أستاذاً بارعاً من باكورة العمر رغم يتمه وإسراع والدته بتزويجه من الولود الودود التي تهدي له كل عام إنساناً سوياً، ولقد تدرج في وظائف ذات مسؤوليات ولكنه لم يرم القلم بل كان… مشهراً، بدأ كما بدأ فتية تلك الحقبة، شارك في وضع بناء منابر الكلمة في الصحافة، كان صادقاً مخلصاً أميناً لا يمنعه عن كلمة الحق لومة لائم… ومن بقي من رعيله يعلم عنه هذا، حتى من يتبوأ الآن بعض منابر الصحافة ومراكز الأدب. والرومانسيون منهم يعرفونه، وما أقوله ليس جديداً إلا على الجيل الحاضر… |
لقد كان هو وكان رفاقه الكبار فتية آمنوا بالكلمة فآمنت لهم أرسلوها صادقة وجعلوا ضمائرهم هي الرقيب والحسيب… وحين كان يتكلم عن ذلك العهد تحس كم كان العهد عنده عهداً عزيزاً وعظيماً… كان يقول كنا وكنا… ومن هذه الأحاديث عرفنا الكثيرين، ومع الأسف وبكل حزن الابنة التي تعرف عظم عطائه ووقفته كالجندي المجهول بجوار كل مشاركة خاصة وإن مشاركته كانت بالعطاء الفكري والنفس، وليس بالمادة حيث لم تتوفر عنده ولم تساعده أن ينجز أو يحقق الكثير… من أحلامه الأدبية: بكل أسف تكلم كثيرون من الرفاق عن تلك الفترة ولم يشر إليه أحد. اللَّهم إلاّ كتاب ((وحي الصحراء)) جمعه كل من الأستاذين: |
محمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير. وكان الكتاب عن الرعيل الذي وضع لبنات البناء الفكري والصحفي لهذا الوطن. جزاهما الله خيراً، رحمك الله يا أبي لقد كنت محباً صادقاً للأصدقاء والأقرباء والأنسباء، وكنت طفلاً كبيراً بنقاوة قلبك، وكانت أجمل لحظات حياتنا وأمتعها عندك هي تلك التي يتحلق فيها الأبناء وأبناء الأبناء حولك لتلعب معهم لعبتك المفضلة التي تسعد الأطفال. وهي لعبة الإننن. |
رحمك الله يا أبا فيصل ورحم تلك الحبيبة التي لم تستطع العيش بعدك إلا أربعاً من السنوات وكان الله تبارك وتعالى بها رؤوفاً. فإنكما معاً لا تسعدان بالواقع الذي يعيشه الأبناء. |
شكر وتقدير |
حين فكرت في تجميع كتابات والدي وإصدارها في كتاب، بحثت في ما تركه من أوراق، وللأسف فقد كانت غير صالحة وقليلة، ولمعرفتي بأنه قد ساهم بالكتابة في معظم صحف المنطقة الغربية، فقد وجدت أن بغيتي ستكون لدى هذه الصحف، وبدأت الاتصال بأول جريدة ترك فيها بصمات العمل المباشر: فقد كان رئيساً لتحرير جريدة المدينة لفترة اتصلت بها.. كان هذا في العام 1403هـ وفعلاً كلمني رئيس التحرير آنذاك الأستاذ أحمد محمود. وما إن عرف بقصدي حتى أسمعني ملحمة الوفاء والإخلاص وشجعني مباركاً هذه الخطوة وقال: إن الوالد فعلاً يستحق ذلك: وبالفعل قام بتجميع كل ما لدى الجريدة ثم أرسله إلي فوراً. |
فله مني أخلص الشكر وحمداً لله أن الدنيا لا يزال فيها الأبناء المخلصون، وليس بالضرورة أن يكونوا من الصلب، وقيمة الحرف والكلمة الصادقة… في أن يكون هناك من يحمل لآثارها اعترافاً، وهذا على الرغم من أنني للأسف الشديد لم أجد مثل هذا الصدى لدى الصحف الأخرى. |
وأما مجلة المنهل، ففضلها في هذا العمل عظيم، لأن المشاركة لم تقتصر فقط على تجميع مادة أو كلمات تشجيع وإنما تعدت ذلك إلى المساهمة بالعمل… والإشراف والتوجيه، وباسم المنهل خرجت عطاءات المطابع: كان أخي نبيه وابنه العزيز أخاً وابن أخ كريم. كلاهما مفضال عليّ بما قدم وساهم، إنهم ورثة الإخلاص والتفاني لذلك الصرح الذي تركه واحد من أعمدة الفكر في بلادي. والمنهل محبب إلى نفسي فلقد زرته وأنا طفلة مع والدي ودخلته وأنا أعد هذا الكتاب، وإنني لأشكر الأخ الأستاذ مصطفى محمد مدير العلاقات العامة بمجلة المنهل بعد أن كلف من قبل أصحاب الشأن، لا عدمت يد الإخلاص في أصحاب المروءة. ومن هنا جمعت مواد هذا الديوان ومواد الكتاب الذي سيصدر بعده إن شاء الله مما أسلفت شاكرة ومقدّرة هذا الجميل: |
فقط آسفة لتأخر هذا العمل، ولكن مسؤوليات الحياة وظروف العمل القاسم المشترك في هذا التأخير. |
حياة |
|