الحلقة ـ 3 ـ |
لقمان: الآن أدركت حكمة الله وإرادته حين فجر الماء بهذه البلاد القاحلة المجدبة.. |
رزّاح: ما هي هذه الحكمة يا لقمان؟.. زودنا مما أعطاك الله.. |
لقمان: بناء بيت الله هو السر وهو الحكمة من وراء انبثاق الماء بهذا الوادي الأجرد إنه لا شك ماء مبارك لا ينضب ولا يغيض.. |
رزّاح: صدقت يا لقمان وسيصبح هذا البلد الطيب مكاناً مقدساً وهذا البيت مثابة للناس وأمناً ومهوى أفئدة ودار عبادة لكل من يؤمنون برب هذا البيت.. |
لقمان: ولقد أدركت أيضاً سراً آخر يا رزاح.. |
رزاح: ما هو يا لقمان..؟ |
لقمان: أتعرف لماذا أطلق الناس اسم مكة وبكة على هذا البلد؟ |
رزاح: لا يا لقمان.. هات مما أنعم الله به عليك.. |
لقمان: لقد أضفى الرب على هذه الأرض قداسة ومكانة ممتازة بين بلاد الله جميعها حين أختصها وشرفها بأول بيت وضع للناس لعبادة خالقهم.. |
رزاح: أجل يا لقمان أجل ثم ماذا؟.. |
لقمان: وهكذا اجتمع الناس حول هذا البيت يبك بعضهم بعضاً أي يدفع.. فهناك بيت للعبادة وهنا ماء لا يغور.. |
رزاح: تسمية في محلها ولكن لم سميت مكة..؟ |
لقمان: لأن هذه البقعة من أرض الله أصبحت دار عبادة يتوجه الناس فيها إلى رب هذا البيت طالبين منه المغفرة والعفو عن الذنوب ولذلك سميت مكة لأنها تَمُك الذنوب أي تخرجها وتذهبها وتمسك العصاة أي تهلكهم وتخرجهم منها.. |
رزاح: لقد أوتيت حكمة لقمان يا لقمان.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت شداخ يقول): |
شداخ: ها هو الطفل يكبر ويتزوج يا عمرة.. وها هو الوادي الأجرد يعمره الله ببيته وبالنبع الذي فجره فيه فيأتيه الناس من كل فج عميق.. |
عمرة: لقد عشنا يا شداخ لنرى الطفل إسماعيل يكبر وينمو ويتزوج ونرى هذا الوادي القاحل تدب فيه الحياة.. |
شداخ: أسمعت يا عمرة بالموجة الجديدة التي ستسكن مكة.. |
عمرة: من أي القبائل هذه الموجة يا شداخ..؟ |
شداخ: من جرهم يا عمرة بقيادة مضاض بن عمرو الجرهمي.. |
عمرة: مضاض بن عمرو الجرهمي.. إذن فقولي على العمالقة السلام يا شداخ.. |
شداخ: وتلك الأيام نداولها بين الناس.. |
عمرة: أترى إسماعيل يسمح لهم بالاستيطان يا شداخ.. |
شداخ: ولم لا يا عمرة.. إن مضاض بن عمرو زعيم جليل وسيد معروف بين قومه وبين القبائل المجاورة لمكة بل وبين القبائل البعيدة عنها.. |
عمرة: ووالد إسماعيل النبي إبراهيم هل يرضى بما يرضى به ابنه..؟ |
شداخ: إن نبي الله إبراهيم حيث يكون الصالح لهذا البلد.. فإذا رأى في سكني مضاض بن عمرو وقومه صلاحاً لمكة وعمراناً لها وافق وإلا نقض ما أبرم ابنه.. |
عمرة: صدقت يا شداخ وإنني لأذكر فيما أذكر كيف جاء النبي إبراهيم إلى دار ابنه إسماعيل فلم يجده ووجد زوجه التي لم تحسن استقباله فقال لها إذا جاء إسماعيل قولي له والدك يقول لك غيّر عتبة دارك.. |
شداخ: وقد صدع إسماعيل بأمر والده فأرسل زوجته إلى أهلها.. |
عمرة: كان إسماعيل عاجلاً أو آجلاً سيترك زوجته لأنها لم تنجب.. مع أنه صبر كثيراً ولم يتركها لولا أن أمره والده.. |
شداخ: لو كانت والدته هاجر على قيد الحياة ما جعلته يصبر هذا الصبر الطويل بدون خلف ولكن الموت عاجلها.. |
عمرة: يا لسعادة هاجر يا شداخ.. لقد دفنت بجوار بيت الله.. هل هنالك أحسن من هذا الجوار؟ |
شداخ: أليست زوجة نبي.. إنها تستحق هذا التكريم.. |
(قرع طبول ودفوف وأصوات تعلو وتنخفض نسمع بعدها صوت عمرة تقول): |
عمرة: إنها طبول مضاض بن عمرو الجرهمي ودفوفهم.. إنهم في طريقهم إلى مكة يدخلونها من أعاليها.. |
شداخ: قرع الطبول يدل على أن عدد القادمين كبير يا عمرة.. |
عمرة: كيف لا يقدمون بهذه الأعداد الوفيرة يا شداخ وقد وجدوا بمكة ماء طيباً وعضاهاً ملتفة من سَلَم وسُمُر ونبات يسمن مواشيهم.. |
شداخ: وَسَعةً من البلاد ودفأ من البرد في الشتاء.. |
(قرع طبول ودفوف تختلف عن الأولى نسمع بعدها صوت عمرة تقول): |
عمرة: إني أسمع قرع طبول ودفوف تختلف رناتها وأنغامها عن الطبول والدفوف الأولى.. أترى القادمين أكثر من قبيلة.. |
شداخ: لا يا عمرة.. إن هذه الطبول هي طبول ودفوف قبيلة قطورا وشيخها السميدع وهو ابن عم مضاض.. |
عمرة: أين سينزلون يا شداخ؟.. |
شداخ: يخيل إلي أن مضاض بن عمرو ومن معه سينزلون أعلى مكة.. أما السميدع وقومه فسينزلون أسفل مكة.. |
(تقترب أصوات الطبول والدفوف ويختلط بعضها بالبعض الآخر والموسيقى مصاحبة نسمع بعدها عمرة تقول): |
عمرة: إني أرى كثيراً من الجياد مع قبيلة قطورا التي ستستوطن أسفل مكة.. ما أحلى منظر الجياد يا شداخ، إنها المرة الثانية التي أرى فيها الجياد.. رأيتها أول مرة عند إسماعيل بن النبي إبراهيم.. |
شداخ: لا شك أن منظرها جميل وركوبها أجمل.. ولعمري أنها ستلعب دوراً كبيراً في الحروب القادمة لقدرتها على الكر والفر واللف والدوران.. |
عمرة: كفانا الله شر الحروب.. إننا في هذا البلد الأمين وفي جوار بيت الله الحرام.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى سريعة نسمع بعدها صوت رزاح يخاطب لقمان قائلاً): |
رزاح: هلم نشهد دخول جرهم مكة يا لقمان.. |
لقمان: لست ممن تشوقهم رؤية المواكب والأظعان.. |
رزاح: قد لا يشوقك ذلك في بلد آخر ولكنه في مكة له طابع خاص.. |
لقمان: ما هو يا رزاح هذا الطابع الخاص.. |
رزاح: أن ترى الإقبال المنقطع النظير على الاستيطان بهذا الوادي الذي كنا نخشى المرور به.. |
لقمان: صحيح.. إنها ظاهرة تلفت النظر يا رزاح.. ولكننا إذا تطلعنا إلى ما أنعم الله به على هذا البلد من مكانة وقدسية وخير وبركة وجدنا الحل لهذه الظاهرة العجيبة.. |
رزاح: لا مرية فيما تقول يا لقمان.. فما نرى هو استجابة من الله لدعاء نبيه إبراهيم.. |
صوت صادر من مكان بعيد: بسم الله الرحمن الرحيم: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ صدق الله العظيم (إبراهيم: 37). |
لقمان: إن دعاء نبي الله إبراهيم وابتهاله لربه بأن يجعل هذا البلد مهوى أفئدة الناس وأن يرزقهم من الثمرات والخيرات لا شك قد استجابه رب إبراهيم بدليل ما نشهد من توافد الناس على سكنى مكة وهذه الخيرات التي أنعم الله بها عليها.. فهل شكرنا لله نعمه وآلاءه..؟ |
رزاح: لا يا لقمان.. أننا ما زلنا جحودين ناكرين، ناسين غير ذاكرين.. |
لقمان: ولعلّ ما أخشاه أن يصيبنا ما أصاب الأقوام التي كفرت بأنعم الله وجحدتها.. |
رزاح: أتراك تلمح إلى ما تخشاه من قوم جرهم على هذا البلد الأمين.. |
لقمان: ذلك ما عنيته يا رزاح.. إن جرهم تدخل مكة بهذه الجلجلة والفخفخة وكأنه دخول الفاتحين لا دخول الذين يبتغون العيش والأمن والاستقرار في بلاد أراد الله لها الاستقرار.. |
رزاح: لعلّ مخاوفك في محلها يا لقمان ولكن.. |
لقمان: ولكن ماذا؟.. |
رزاح: ولكن لم لا ندعو الله بأن يجنب جرهم الغرور والطغيان والفجور حتى لا يصيبها ما أصاب غيرها من الأقوام في سالف الدهور.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت شداخ يقول): |
شداخ: لقد بارك النبي إبراهيم دخول مضاض بن عمرو الجرهمي وقومه.. |
عمرة: كيف عرفت ذلك يا شداخ..؟ |
شداخ: من شائعات تتردد عن عزم إسماعيل على مصاهرة مضاض بن عمرو.. |
عمرة: وأي بنت من بنات مضاض يتردد اسمها بكثرة في هذه الشائعات.. |
شداخ: رَعْلَهْ بنت مضاض.. والعجيب أن هذه الشائعات تقول أن النبي إبراهيم قد أمر ابنه إسماعيل بالتزوج من ابنة مضاض بن عمرو.. |
عمرة: ولكن كيف نال مضاض بن عمرو وقومه عطف النبي إبراهيم ورضاه.. |
شداخ: لقد دخلوا في دين إبراهيم.. كما أعجبته لغتهم العربية ورأى ابنه إسماعيل يتكلم بها ويمتزج بأصحابها.. |
عمرة: ولعلّ النبي إبراهيم أطلعه ربه على ما في هذه المصاهرة من خير لإسماعيل وخلف وذرية.. |
شداخ: ربما يا عمرة فإسماعيل لم يرزق أولاداً من زوجته الأولى عمارة كما أنهم يقولون.. |
عمرة: يقولون ماذا يا شداخ؟ |
شداخ: يقولون إن رعلة أوتيت جمالاً رائعاً وعقلاً راجحاً وخلقاً كريماً.. |
عمرة: إنها كريمة بنت كريم والعرق دساس يا شداخ.. |
شداخ: إنها ورب إبراهيم بنت سيد قل أن يضارعه أحد في كرمه ورجاحة عقله ودماثة أخلاقه وجمال طباعه. |
عمرة: هل حددت الشائعات موعداً لهذه المصاهرة..؟ |
شداخ: لا أدري يا عمرة ولكن المثل يقول: عندما تطلع الشمس يبين الخبر.. |
(نقلة صوتية بموسيقى نسمع بعدها صوت رزاح يقول): |
رزاح: يا لمضاض بن عمرو الجرهمي ما أسعده؟.. |
لقمان: أيُّ سعد جاءه يا رزاح؟.. |
رزاح: أما سمعت بالشرف الذي ناله.. |
لقمان: إن مضاض بن عمرو شريف.. فهل يطمح في شرف أكثر؟.. |
رزاح: شرف مصاهرة إسماعيل من النبي إبراهيم.. |
لقمان: صدقت إنه شرف ما بعده شرف.. ومتى ستتم هذه المصاهرة؟ |
رزاح: في الأيام القريبة القادمة وسيحضرها نبي الله إبراهيم لأنه هو الذي أمر ابنه إسماعيل بمصاهرة مضاض بن عمرو.. |
لقمان: فاز بها مضاض يا رزاح.. |
رزاح: وخسرها العمالقة يا لقمان.. وأية خسارة.. |
لقمان: يا لسعة أفق نبي الله إبراهيم.. لقد اختار لابنه عضداً وسنداً قوياً في هذا الخضم العربي الواسع.. |
رزاح: بلى يا لقمان بلى.. ليس كالمصاهرة شيء يوثق الروابط ويمكن الوشائج والصلات بين الناس.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت مجدع يقول): |
مجدع: أعندك علم بالنبأ الذي يتردد في جنبات هذا الوادي يا سميدع؟ |
السميدع: لا يا مجدع.. ما هو؟.. |
مجدع: مضاض بن عمرو الجرهمي.. |
السميدع: ما به يا مجدع.. ماذا أصابه؟.. |
مجدع: أصابه وابل من الخير والبركة والعز والسؤدد.. |
السميدع: هل كان ينقص مضاض بن عمرو شيء من هذا.. إنه ينعم بخير وفير وظل ظليل ومقام ومجد أثيل.. |
مجدع: إذن أنت لا تدري؟.. |
السميدع: (بعصبية وحنق): قل يا هذا.. أو لا تقل فقد استطال حبل كلامك ولما تأت بشيء.. |
مجدع: إن هذا الشيء لو قلته لك لأزعجك.. |
السميدع: أيزعجني أن يصيب ابن عمي مضاض بن عمرو خير كثير ومجد رفيع.. |
مجدع: ابن عمك مضاض سيزوج ابنته رعلة.. |
السميدع: بمن يا مجدع؟.. |
مجدع: بإسماعيل بن النبي إبراهيم الذي خطبها من أبيها مضاض لابنه.. |
السميدع: ماذا تقول يا مجدع.. أجاد أنت أم هازل هذا مستحيل (بصوت عالٍ) هذا مستحيل.. |
|