الحلقة ـ 44 ـ |
مزنة: أماه.. أما انتهيت من سحورك.. وقد هيأت لك الشاي لتشربي وتتحدثي.. |
سلمى: بورك فيك يا بنيتي.. أين وصلنا في حديثنا أمس..؟ |
مزنة: وصلنا إلى عودة الجيش الإسلامي إلى المدينة بعد نكول جيش المشركين عن القتال ورجوعهم إلى مكة.. |
سلمى: لقد كانت حملة النبي صلَّى الله عليه وسلم مناورة بارعة رائعة موفقة برهنت بالدليل القاطع على أن الجيش الإسلامي أصبح قوة مرهوبة الجانب يحسب حسابها لا في المدينة وحدها فحسب بل في جميع المناطق المجاورة للمدينة.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى).. |
حكيم: وبدأت كفة المسلمين ترجع بعد غزوة بدر الآخرة أو الأخيرة.. وطارت سمعتهم وانتشرت وخشي الأعراب منهم.. |
الحارث: كيف كان ذلك يا حكيم؟.. |
حكيم: لقد بلغ النبي صلَّى الله عليه وسلم أن القبائل النازلة في دومة الجندل تقطع السابلة وتنهب وتسلب وتثير الفساد في تلك المنطقة مدفوعة من الرومان الذين كانت لهم حامية في دومة الجندل.. |
زيد: وهل وصل حكم الروم إلى هذه المنطقة؟.. |
حكيم: نعم.. وكانوا يصطنعون هذه القبائل ويعملون على إيجاد حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في تلك المنطقة يتذرعون بها لغزو الأماكن المجاورة لدومة الجندل والاستيلاء عليها.. |
زيد: كم تبعد دومة الجندل عن المدينة؟.. |
حكيم: مسيرة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة.. |
زيد: إنها على حدود الشام.. |
حكيم: نعم يا زيد.. |
الحارث: وماذا كان هدف هذه الغزوة؟ |
حكيم: كان القصد السافر من وراء هذه الغزوة إخضاع هذه القبائل وتأديبها أما المغزى البعيد من ذلك هو إعلان الرومان بأن في الجزيرة قوة تستطيع أن تقاوم كل من تحدثه نفسه بمهاجمة الجزيرة العربية.. |
زيد: وماذا كانت نتيجة هذه الغزوة؟.. |
حكيم: لم يجد الجيش الإسلامي أحداً من هذه القبائل لأنهم هربوا بمجرد علمهم بهذه الحملة وخلفوا من هلعهم وخوفهم سوائمهم ومواشيهم فغنمها المسلمون.. |
الحارث: ومما لا ريب فيه أن هذه الحملة قد عززت مركز المسلمين وقوت سمعتهم في الداخل والخارج.. |
حكيم: بلى يا حارث.. ولكن المشتغلين في الظلام انتهزوا فرصة غياب الرسول صلَّى الله عليه وسلم عن المدينة في مكان ناء عنها فبدؤوا يحوكون المؤامرات.. |
زيد: وهؤلاء هم اليهود والمنافقون - أليس كذلك؟.. |
حكيم: نعم يا زيد.. المنافقون واليهود في المدينة وما جاورها وكفار قريش في مكة فأغروا بني المصطلق وهم بطن من قبائل خزاعة كانوا يسكنون (قديد) في الطريق من مكة إلى المدينة على غزو المسلمين في يثرب ووعدهم بالمساعدة.. |
الحارث: ألم يأخذوا درساً من غزوتي بدر الأخيرة ودومة الجندل.. |
حكيم: لم يزدجروا بل انساقوا في طريق الغواية وعلم النبي صلَّى الله عليه وسلم بأمرهم فخرج لقتالهم.. ومن المفارقات المثيرة أن يخرج في هذه الغزوة جمع كبير من المنافقين وعلى رأس كبيرهم عبد الله بن أُبي بن سلول.. |
زيد: لعلّي لا أكون حانثاً إن أقسمت أنهم لم يخرجوا للجهاد في سبيل الله وإنما لاغتيال أية فرصة لإيذاء المسلمين.. |
الحارث: أليسوا من الدافعين ببني المصطلق على خوض غمار هذه المعركة.. |
حكيم: ما تقولانه لا يَعْدو بعيداً عن الحقيقة.. |
زيد: حسناً.. وماذا جرى في هذه المعركة؟.. |
حكيم: تقارب الفريقان وقبل أن يلتحما أمر النبي صلَّى الله عليه وسلم أن يتوجه عمر بن الخطاب بنداء إلى بني المصطلق يدعوهم للدخول في الإسلام ليمنعوا به أنفسهم وأموالهم فامتنعوا وابتدأت المعركة فحمل عليهم المسلمون حملة صادقة وأحاطوا بهم من كل جانب فلم يفلت منهم أحد فاستسلموا واستولى المسلمون على منازلهم وما فيها واستاقوا أموالهم وسبوا نساءهم.. |
زيد: ولم تنفعهم وعود اليهود والمنافقين وقريش شيئاً؟.. |
حكيم: لئن كان الانتصار الباهر الذي حققه المسلمون بسرعة في غزوة بني المصطلق قد أدهش المنافقين وأذهلهم فإنهم بعد أن انتهت المعركة انتهزوا فرصة مشاجرة عادية بين مهاجري وأنصاري على الماء فألبوهما على بعضهما فاقتتلا فصاح الأنصاري: |
(نقلة صوتية).. |
الأنصاري: يا معشر الأنصار.. أدركوني.. أغيثوني.. |
منافق: ولماذا لا تستصرخ قومك أيها المهاجري.. |
المهاجري: يا معشر المهاجرين هلموا إلي.. قتلني الأنصار.. |
(أصوات ركض وجري وأسلحة تشهر وناس يقولون).. |
الناس: لبيك يا أخا الأنصار.. لبيك يا أخا المهاجرين.. |
حكيم: وابتدأ المنافقون يوسعون شقة الخلاف فيقولون: |
منافق: إن المهاجري هو الذي اعتدى.. انظروا كيف شج رأس الأنصاري.. |
منافق آخر: لا حول ولا قوة إلى بالله.. مسكين هذا الأنصاري.. |
منافق ثالث: إنه حليف الخزرج.. إلينا أيها الخزرج.. أدركوا حليفكم قبل أن تخترطه سيوف الأنصار. |
منافق: إلينا أيها المهاجرون.. هذا رجل عمر بن الخطاب يكاد أن يقتله الأنصار.. |
حكيم: وخرج الرسول صلَّى الله عليه وسلم على صوت الضجيج واللغط وهو يقول ما معناه: |
(ما بال دعوى الجاهلية) ولما أخبروه بالأمر قال ما معناه: |
(دعوها فإنها منتنة) ثم أمر بعض أصحابه بأن يسعوا بالصلح بين المتشاجرين ففعلوا.. |
مزنة: وهكذا أحبط النبي صلَّى الله عليه وسلم بحكمة وسرعة هذه الفتنة العمياء.. |
ورد كيد المنافقين إلى صدورهم. |
سلمى: ولكن رأس الفتنة وزعيمها بل وموقد نارها ابن سلول أغاظه أن يتمكن الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه من إخماد هذه الفتنة ووأدها في مهدها فقام بين نفر من جماعته يرغي ويزبد ويقول): |
(نقلة صوتية).. |
ابن سلول: أو قد فعلها المهاجرون.. ما رأيت كاليوم مذلة قط.. قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه الاَّكما قال الأول: سمِّن كلبك يأكلك.. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأول.. |
(أصوات تأييد من عصابته - فيتحمس ابن سلول ويقول): |
هذا ما فعلتم بأنفسكم.. أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم.. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بايديكم لتحولوا إلى غير داركم. |
أحد عصابته: صدقت يا بن سلول.. لنثيرهن جذعة.. |
(أصوات تقول بلى.. بلى.. مرحى.. مرحى..).. |
ابن سلول: وأنتم أيها الأنصار.. لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضاً للمنايا فقتلتم دونه فايتمتم أولادكم وقللتم وكثروا.. فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عند محمد.. |
(أصوات.. مرحى.. مرحى.. سنفعل.. سنفعل..).. |
حكيم: ونقل هذا الكلام الخطير إلى النبي صلَّى الله عليه وسلم فغضب وتغير وجهه ولكنه تمالك نفسه كعادته صلَّى الله عليه وسلم وقال لزيد بن أرقم وهو الغلام الذي نقل إليه الخبر الخطير.. |
يا غلام - لعلّك غضبت عليه؟ |
قال: والله يا رسول الله لقد سمعته منه.. |
قال: لعلّه أخطأ سمعك.. |
حكيم: وعلم جماعة من كبار الخزرج بمقالة الغلام فلاموه عليها فكان يقول لهم: |
والله سمعت ما قال بن سلول.. ولو أنى سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله وإني لأرجو أن ينزل الله تعالى على نبيه ما يصدق حديثي.. |
زيد: لقد كانت مؤامرة دنيئة وشنشنة جاهلية أثيمة باطلة وأنه لمن المؤلم حقاً أن تجد مثل هذه الدعوى آذاناً صاغية.. |
حكيم: لقد كان عبد الله بن أُبي بن سلول سيداً في قومه.. وعندما حاول النبي صلَّى الله عليه وسلم إسدال الستار على هذا الأمر خوف الفتنة ظن بعض كبار الخزرج إن مقالة الغلام فرية لا أساس لها فبدأوا يلومون مع أن رسول الله يعلم في قرارة نفسه أن الغلام صادق.. |
الحارث: وماذا كان صدى هذه الفتنة عند المهاجرين؟.. |
حكيم: عندما سمع كبار المهاجرين بها وعلى رأسهم عمر بن الخطاب استشاطوا غضباً وطلب ابن الخطاب من رسول الله أن يسمح له بضرب عنق عبد الله بن أُبي بن سلول فرفض صلَّى الله عليه وسلم هذا الطلب وقال: |
(فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)؟.. |
فقال عمر بن الخطاب: |
إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر أنصارياً يقتله.. |
فلم يوافق على ذلك وقال: |
ـ ترعد له أنف كثيرة بيثرب. |
الحارث: عجيب أمر بن سلول هذا.. |
حكيم: ولكي يحسم أمر هذه الفتنة ويخمد جذوتها أمر النبي صلَّى الله عليه وسلم بأن يتحرك الجيش الإسلامي بسرعة إلى المدينة ليشغل الناس برحيلهم بدلاً من الخوض في حديث الفتنة.. |
زيد: لعمري أنها خطوة حكيمة حاسمة.. |
حكيم: وبينما كان يتهيأ النبي صلَّى الله عليه وسلم لقيه أسيد بن حضير وهو من سادات الخزرج فحياه وقال له: يا نبي الله والله لقد أمرت بالرواح في ساعة مبكرة ما كنت تروح مثلها. |
فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلم: |
ـ أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ |
فأجاب أسيد: وأي صاحب يا رسول الله؟ |
قال: عبد الله بن أُبي.. |
قال: وما قال؟ |
قال:
|
ـ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.. |
فغضب أسيد وقال: |
فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز.. |
ثم تابع أسيد كلامه قائلاً: |
ـ يا رسول الله أرفق به.. فوالله لقد جاءنا الله بك وأن قوم بن سلول لينظمون له الخرز ليتوجوه.. وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً.. |
(خبطة موسيقية قوية).. |
مزنة: ما أعظم القرار الحكيم الذي أتخذه الرسول العظيم صلَّى الله عليه وسلم بشأن بن سلول.. |
سلمى: لقد كان صلَّى الله عليه وسلم يعرف بمنزلة بن سلول في قومه ويعلم أيضاً - في يقين عداوة ابن سلول له وبغضه له ولذلك ترك لقومه أن يحاسبوه على فعلته القبيحة وسترين ذلك في حديثنا القادم إن شاء الله.. |
مزنة: إن شاء الله تعالى.. |
|