شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الجحيم
وغزا ((هتلر)) ((بولندا)) بعد أن اجتاح ممر ((دانزج)) وهرع رئيسا بريطانياً وفرنسا إلى الاجتماع ((بهتلر)) في ((ميونيخ)) فلم تفلح جهودهما في منع نشوب حرب. ومع أن ((سالم)) و ((ماريا)) كانا يشعران بالتوتر الدولي إلا أنهما لم يكونا يتوقعان نشوب الحرب بهذه السرعة المذهلة، وما كاد الخبر ينتشر حتى سارعت ((ماريا)) إلى ((سالم)) وهي تقول والحزن يعتصر كلماتها:
ـ ((سالم)) يجب أن تعود إلى بلدك بأول واسطة. أنا ذاهبة الآن لأحجز لك قبل أن تغلق أبواب السفر، واستدارت لتنطلق وإذا به يمسكها ويقول:
ـ يجب أن تذهبي معي أنت أيضاً.
ـ مستحيل يا ((سالم)) أنا ألمانية ووطني في حالة حرب وعليَّ أن أضع نفسي تحت تصرف دائرة الحرب. دعني أذهب قبل أن تفوت عليك فرصة السفر.
ـ لا يا ((ماريا)) لن أسافر.. سأبقى معك.
ـ ووالدك.. وأهلك سيكونون في حالة قلق وخوف عليك.
ـ أنتِ والدي وأنتِ أهلي..
ـ ولكني لا أستحق منك هذه التضحية.
ـ ولكنها البرهان العملي على حبي لك.
وارتمت ((ماريا)) على صدره وانهالت تقبله ودموع الفرح المشبوب بالقلق تغمر محياها.. وفجأة نهضت وهي تقول:
ـ لا.. لا.. يجب أن تسافر.. أرجوك.. أرجوك..
ولكن ((سالم)) أجلسها بجانبه وهو يقول:
ـ لا أستطيع السفر حتى لو أردت ذلك.
ـ كيف.. كيف...
ـ أنا سمعت الراديو وهو يذيع منع الألمان وغير الألمان من المقيمين في ألمانيا من السفر. هيا بنا يا ((ماريا)) إلى إدارة التجنيد نضع أنفسنا تحت تصرفها:
وذهبا إليها ولسان ((سالم)) يقول:
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
وارتمت ((ماريا)) على صدره وقالت والدموع تغالب كلامها: إنك تتكلم يا ((سالم)) بلساني. أنا مضطرة للحاق بسرعة إلى مركز التجنيد قبل إغلاقه، وأنا جد حزينة أن أتركك، ولكن المثل العربي كما تعلمت يقول: مصير الحي يتلاقى. ثم قبلها وقبلته طويلاً وهي تقول: الله معك.
ـ وأجاب ((سالم)): الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
وأرسلت ((ماريا)) إلى الجبهة الغربية من القتال ((وسالم)) إلى الجبهة الجنوبية، أما الدكتور ((فوخر)) فأرسل للعمل في المستشفى ببرلين.
وانقطعت الصلات بين الثلاثة في زحمة السنة الأولى من انتصارات ((هتلر)) الساحقة. وفي السنة الثانية للحرب استطاعت ((ماريا)) الاتصال بعمها الدكتور ((فوخر)) وعن طريقه عرفت مقر ((سالم)) فكاتبته وكاتبها. ثم ما لبثت الاتصالات أن انقطعت ثانية بسبب تحرك جبهات القتال وتنقلات الجيوش الألمانية السريعة، وتبعاً لذلك تغيرت أماكن ((سالم)) و((ماريا)) وزاد الطين بلة ذهاب الدكتور ((فوخر)) مع حملة غزو ألمانيا لروسيا.
وجرت محاولات يائسة من قبل والد ((سالم)) لإخراج ابنه من جحيم الحرب الدائرة، بيد أن محاولاته باءت بالفشل جميعها.. وهكذا عاش والد ((سالم)) وزوجه وابنه ((وحيد في قلق دائم وحزن متواصل.. على ((سالم)) خففت من غلوائه عناية ((وحيد)) بوالديه ونجاحه في دروسه.
وعندما بدأ المد الألماني في الانحسار بفشل الغزو الهتلري لروسيا وهزيمة الألمان في معركة العلمين، شاءت الظروف أن تجمع بين ((سالم)) و ((ماريا)) في جبهة القتال ضد جيوش الحلفاء التي نزلت في ((نيورماندي)) بشمال فرنسا.
وفي جحيم المعارك الطاحنة، وتحت وابل قنابل الطائرات المنهمرة كان ((سالم)) و((ماريا)) يختلسان بعض الدقائق للتشاكي مما لاقيا والقلق المشوب بالخوف مما سيلاقيان.
واشتد سعير الحرب وأوراها وتوالت هزائم الجيش الألماني على الحدود الغربية أمام قوات الحلفاء الزاحفة.
وفي إحدى هجمات هذه القوات على مدينة من مدن ((الرين)) كانت ((ماريا)) تعمل في المستشفى العسكري الألماني بها دمرت القنابل المستشفى وانهزم الألمان تاركين ((ماريا)) مغمى عليها تحت أنقاض المستشفى.
ودخلت القوات الحليفة المهاجمة المدينة ونقلت المغمى عليها إلى الخطوط الخلفية للإسعاف، وأرسل سالم للعمل في إحدى مستشفيات الحلفاء الخلفية بعد أن عرفت هويته، أما ((ماريا)) فأرسلت للعمل مع الألمانيات الأسيرات في غسل ملابس الجنود وكيها وتنظيف المخازن وكنس الشوارع وتعبيد الطرقات الجانبية تحت حراسة شديدة من جنود غلاظ عليهن أثناء العمل بالنهار. أما في الليل فالويل لمن لا تذهب مع أحد الجنود أو الضباط. وقد خدم الحظ ((ماريا)) حين تفشى مرض وبائي بين أطفال القرية التي كانت تعمل فيها مع بعض الألمانيات الأسيرات إذ قامت بمعالجتهم والعناية بهم بشكل لفت نظر الأطباء الموجودين في المستشفى بتلك القرية فأدخلوها في عداد الأطباء والطبيبات هناك وأعطوها غرفة في المستشفى للنوم فيها، وهكذا سلمت من أذى جنود الحلفاء وضباطهم.
وانتهت الحرب العالمية الثانية، ولم يعرف ((سالم)) أو ((ماريا)) شيئاً عن مصير الآخر. وأعيد ((سالم)) إلى وطنه، وكانت فرحة والديه به لا توصف. أما ((ماريا)) فحظها كان سيئاً إذ أخذها الروس هي وعمها الدكتور ((فوخر)) في عداد من أخذوا من أصحاب المهن والحرف والصنائع من الألمان إلى بلادهم.
وحاول ((سالم)) معرفة مصير ((ماريا)) ولكن محاولاته باءت بالفشل، فشد رحاله إلى ألمانيا بعد أن عاد الاستقرار إليها حيث علم وهو هناك أن ((ماريا)) موجودة في مكان ما من روسيا، وأنه حتى لو عرف مكانها فالروس لن يمكنوه من الاتصال بها فعاد إلى بلده يجر أذيال الخيبة والفشل. أما ((ماريا)) فقد خفف من كربها وبلائها وجود عمها الدكتور ((فوخر)) في المستشفى الذي كانت تعمل فيه.
وشعر والد ((سالم)) بما يعتمل في قلب ابنه، فأراد أن يخفف عنه بعض ما هو فيه فأقنعه بفتح عيادة طبية في مكة المكرمة، وتردد سالم في أول الأمر ولكن أخاه ((وحيد)) وقد أصبح من كبار تجار بيع الأراضي والعقارات قام بمحاولات يائسة لإقناع أخيه بفتح عيادة طبية إما في مكة المكرمة وإما في الرياض، وقبل ((سالم)) وأصبحت له عيادة طبية مجهزة بأحدث وسائل الطب فكانت حديث الناس في البلد الأمين. ولا شك أن عمله الجديد قد ألهاه بعض الشيء عن التفكير في ((ماريا)) وأزال بعض غياهب الحزن عن محياه، ولكن عندما يأوي إلى فراشه تعاوده أفكاره وأحزانه.
وأحس والد ((سالم)) وهو يرى مصباح غرفة نوم ابنه مضيئاً أكثر ساعات الليل، بأن ابنه ما يزال يفكر في الفتاة الألمانية التي كتب إليه ((سالم)) يستأذنه في الزواج منها، وذلك قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، فاستشار والدة ابنه ((وحيد)) في ماذا يجب أن يفعل، فأشارت عليه بأن يعرض عليه الزواج فربما من يتزوج بها قد تنسيه حبه للفتاة الألمانية وعرض والد ((سالم)) على ابنه موضوع الزواج فأجابه سالم:
ـ يا أبي، أنا شاكر لك ولوالدة أخي ((وحيد)) اهتمامكم بأمري وحرصكم على تأمين راحتي ما وسعكما السبيل إلى ذلك.. ولكن..
ـ ولكن ماذا يا بني..؟؟
ـ لقد آليت على نفسي ألا أتزوج حتى أعرف مصير ((ماريا))..
ـ ولكن ((ماريا)) أسيرة عند الروس كما أخبرتني، والروس شعب أنتزع الله الرحمة من قلوبهم بعدما أصبحوا شيوعيين، ويقيني أن فتاتك قد قتلها الروس بعد أن استنفدوا أغراضهم منها.
ـ وحشية الشيوعيين الملاحدة أمر مسلم به، ولكني أريد أن أتأكد من موتها...
ـ يا بني.. إن لم تكن فتاتك قد هلكت حتى الآن، فإن مصيرها إلى الهلاك عاجلاً أم آجلاً.. ولما رأى ((سالم)) إصرار والده قال له:
ـ دعني يا والدي أفكر في عرضك، واسمح لي الآن أن أذهب إلى العيادة، فلدي مرضى بحاجة إلى عناية خاصة..
ـ مع السلامة يا بني.. وفقك الله..
وأخلى الروس سبيل الدكتور ((فوخر)) وابنة أخيه ((ماريا)) وغيرهم من الأسرى الألمان بعد أن استنفذوا الأغراض التي من أجلها أخذوهم إلى روسيا، وعادت ((ماريا)) مع عمها وكان أول شيء قامت به هو البحث عن ((سالم)) ومعرفة مصيره وفي الوقت نفسه ذهبت إلى بيتها وبدأت تفتش بين أنقاضه لعلَّها تعثر على عنوان ((سالم)) في وطنه، ولما أعياها البحث سارت، إلى مسكن ((سالم)) فوجدته أيضاً أنقاضاً، وبينما كانت تفتش عثرت على بعض ملابسه فلملمتها وجلست على أحد الأحجار تبكي بحرقة ومرارة.
وحاولت فيما بعد الاتصال ببعض العرب الوافدين من جهات الخليج أو السعودية فلم يشف أحد منهم غليلها، ولم يكن للسعودية آنئذ أي تبادل دبلوماسي مع ألمانيا فاستولى على ((ماريا)) اليأس وكاد يحطمها لولا أن عمها الدكتور ((فوخر)) وجد لها عملاً في أحد المستشفيات أنساها بعض ما تعانيه من التفكير في مصير ((سالم)).
ويئس والد ((سالم)) ومعه زوجه أم ((وحيد)) من إقناع ((سالم)) بالزواج وتركا للزمن حل هذه المعضلة.
وفي يوم ما تزال تذكره ((ماريا)) ولن تنساه جاءها عمها فرحاً مستبشراً، فلما رأته سألته:
ـ عماه! أرى السرور يزين محياك فهل لي أن أشترك معك..
ـ ولم لا يا بنيتي..؟ إن سروري قد يجلب لك السرور أيضاً...
وعرت ((ماريا)) الدهشة وقالت:
ـ خيراً يا عماه.. خيراً.. قل لي بربك.
ـ وفدت إلى ((بون)) بعثة سعودية تطلب بعض الأطباء للمستشفى العسكري في الرياض وفي الطائف، وقد عرضت اسمي واسمك على المسئولين في البعثة فعينوا لي ولك موعداً لمقابلتهم بعد يومين، وإني آسف يا بنيتي على أني لم آخذ رأيك قبل عرض اسمك معي عليهم.
وصفقت ماريا وقالت والفرحة تشيع في محياها:
ـ لا موجب للأسف.. لقد أحسنت يا عماه بعرض اسمي مع اسمك، وربما كنت ستأسف حقاً لو لم تعرض اسمي مع اسمك...
ـ شكراً لله.. لقد رأيت يا بنيتي أنها فرصة لكي نسأل عن ((سالم)) فربما وجدناه، ويقيني أننا سنجد من يعرف عنه..
ـ نعمَ ما فعلت يا عماه.. نعمَ ما فعلت.. وأدعو الله أن تنجح المقابلة وأن يكتب لنا الحظ لنكون في عداد من سيأخذونهم من الأطباء..
ـ يا رب.. يا رب..
ونجحت المقابلة وسجل الدكتور ((فوخر)) والدكتورة ((ماريا)) في عداد من سيأخذونهم من الأطباء إلى المملكة العربية السعودية وقد عينا في مستشفى الكلية الحربية بالرياض..
وحمد الناس في المملكة لوزارة الدفاع السعودية استقدامها لهذا النفر من الأطباء الألمان، ذلك لأن المملكة كانت في تلك الفترة بحاجة إلى أطباء.
وتهافت المرضى والمهتمون بصحة أبدانهم على الرياض والطائف، وقد استفاد أكثر المراجعين من مهارة هؤلاء الأطباء وحذقهم في فنهم.
وسمع ((سالم)) فيمن سمع بقدوم هؤلاء الأطباء الألمان، فقرر السفر للرياض للتعرف إليهم فربما علم منهم شيئاً من أخبار ((ماريا)) أو عمها الدكتور ((فوخر)) فشد الرحال إلى الرياض.
وفي صباح اليوم التالي لوصوله، وبينما كان يتناول القهوة مع مدير المستشفى العسكري في مكتبه، إذا بالدكتور ((فوخر)) يدخل وإذا بالدكتور ((سالم)) وقد رآه، ينهض هاتفاً بفرحة عارمة:
ـ دكتور ((فوخر)).. يا لها من مفاجأة سارة!
وإذا بالدكتور ((فوخر)) يضمه بتوق وشوق قائلاً:
ـ وشكراً لله على رؤياك بخير يا بني..
وتعقد الدهشة لسان مدير المستشفى وهو يتطلع إلى الموقف بذهول.. يقطعه ((سالم)) مخاطباً المدير قائلاً:
ـ الدكتور ((فوخر)) أستاذي يا أخي المدير..
ويرد الدكتور ((فوخر)) قائلاً:
ـ أجل يا سعادة المدير وكان ((سالم)) من الطلاب النابهين والحمد لله أني عشت فرأيته، والآن أستأذنكما في الخروج لقضاء عمل هام راجياً من الدكتور ((سالم)) أن ينتظرني. فلن يطول غيابي ولا سيما لدي حديث طويل معه.
ويذهب ويسرد ((سالم)) للمدير علاقته بالدكتور ((فوخر)) وما قاسيا معاً ومع ابنة أخيه الدكتورة ((ماريا)) من مصاب ومتاعب.
ويقطع مدير المستشفى الحديث قائلاً:
ـ دكتور ((سالم)) الدكتورة ((ماريا)) تشتغل بالمستشفى هنا في قسم النساء والولادة والأطفال.. ويصرخ الدكتور ((سالم)) بفرح جنوني قائلاً:
ـ أحقاً ما تقول يا أخي؟ هل من الممكن أن أراها..
وما يكاد يكمل عبارته حتى يدخل الدكتور ((فوخر)) ومعه الدكتورة ((ماريا)) وما إن ترى الدكتور ((سالم)) حتى تهتف:
ـ دكتور ((سالم)).. عفواً سيدي المدير.
ثم ترتمي على إحدى المقاعد وهي تبكي، ويقول الدكتور ((فوخر)) وهو يبتسم:
ـ إنها دموع الفرح يا سيدي المدير...
ويقوم المدير ويغلق باب مكتبه ثم يجلس ويقول:
ـ أريد أن أشترك معكم في هذه المفاجآت السارة المذهلة، فهلاّ رويتم لي قصتها؟
وتمر الأيام سراعا وتعتنق ((ماريا)) الإسلام وتتزوج من الدكتور ((سالم)) في حفل خاص وقد تبرع والده بأضعاف ما كان سينفقه في حفل زفاف ابنه على الجمعيات الخيرية في بلاده حمداً وشكراً لله تعالى..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1084  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 33 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة الفيصل بن عبد العزيز

نائبة رئيس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء جامعة عفت، متحدثة رئيسية عن الجامعة، كما يشرف الحفل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو الفيصل