شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في المنزل الجديد
وانتقل والد ((سالم)) إلى دار اشتراها في حارة ((سوق الليل)) قريبة من المسجد الحرام، فأدخل ولده في مدرسة ((الفلاح)) التي افتتحها ((بيت زينل)) ((بالقشاشية)) في مكة المكرمة بعد أن فتح قبلها مثلها في ((جدة)).
و ((بيت زينل)) وكبيرهم الحاج علي زينل يرحمه الله، من كبار تجار اللؤلؤ في مدينة ((بومبي)) ((بومباي)) بالهند قبل تقسيمها، وقد نزحوا إلى الحجاز وسكنوا في ((جدة)) ولهم في كلا البلدين ((بومباي)) و((جدة)) بيوت تجارية واسعة، وقد اشتهروا بكرمهم فكافأهم أهل الحجاز بانتخاب كبيرهم الحاج علي زينل حاكماً لجدة ومنحه الجنسية العثمانية، ولا يزال هذا البيت مشعلاً ينير هذا البلد وسكانه. وقد جلب الحاج زينل علي رضا مدرّسي المدارس مصريين ومغربيين وتونسيين بالإضافة إلى مدرسين وطنيين. وعين الشيخ عبد الله حمدوه السناري مديراً لمدرسة الفلاح بمكة المكرمة وهو سودانيّ الأصل، وقد تخرج في هذه المدرسة أكثر زعماء البلاد الحجازية. وقد برز ((سالم)) بين طلابها بجرأته الخطابية، حتى إنهم كانوا يوفدونه إلى قصر الحكم في برحة ((غزة)) بمكة المكرمة ليلقي نيابة عن المدرسة أمام شريف مكة الملك الحسين بن علي التهاني في مناسبات الأعياد أو إحدى المناسبات الدينية التأريخية. وفي إحدى هذه المناسبات الخطابية أمام الحسين بن علي ملك المملكة الهاشمية، كان الخطاب فيه تلميح لطلب إصلاحات من الملك، فلم يعجبه الخطاب وطرد الطلبة واستاء من الخطيب ((سالم)) وكاد يأمر بسجنه لولا أنه ابن رئيس حكومته؛ ولكي يظهر غضبه من الخطيب أمر بأن يؤتى بأخيه ومنحه وسام قلادة الحسين وأركبه على فرس مزوّدة بالحراس وطاف وهو عليها شوارع مكة المكرمة فيا للغرابة؟؟
وكانت هناك مدرسة أهلية أخرى في مكة المكرمة فقط تسمى المدرسة الصولتية أسسها مهاجرون من سراة الهنود ولا تزال هذه المدرسة قائمة حتى اليوم، وقد درس فيها والد ((سالم)) وألم بمعرفة قليلة من لغة ((الأردو)) اللغة الهندية.
وسارت الأيام رتيبة في عيني ((سالم)) لا يكدرها سوى (الخناقات) التي كانت تقوم بين والده وزوجه، وكان أخشى ما يخشى ويقضّ مضجعه حين يسمع تهديد والده بأنه سيطلقها وسيتزوج من أسمى عائلات مكة المكرمة زوجة أخرى. إنه يخشى أن تطلق أخت حبيبته فيحرم رؤية الحبيب. إنه يخاف من الزوجة الجديدة أن يعود شبح الماضي الرهيب وما قاساه من ظلم ((مرت الأب)) إنه الآن في بحبوحة من عطف زوج أبيه بعد أن وقف معها في محنتها الأخيرة. وماذا عساه أن يفعل إذا ما وضع والده تهديده موضع التنفيذ؟ إنه لا حول له ولا طول تجاه إرادة أبيه الدكتاتور. وأسلم ((سالم)) نفسه لقضاء الله وقدره، وصرف كل تفكيره وهمه لدروسه فجد واجتهد واجتاز امتحان الكفاءة ودخل القسم الثانوي. وقد قابل والده هذا النجاح بأن زاد له راتبه وكسوته وسمح له بارتداء ملابس العيد في غير أوانها، ذلك لأنه أصبح يشتري له كسوة في كل عيد.
وجاء الصيف ولهيبه فذهب ((سالم)) مع والده وزوج أبيه إلى المصيف. وذهبت أيضاً عائلة حبيبته ((سلمى)) إلى المصيف نفسه. وفي المصايف كثيراً ما تخف الحواجز فيشعر المصطافون وكأنهم عائلة واحدة. وهكذا قضى ((سالم)) صيفاً ممتعاً وجميلاً مع من يهوى ظفر فيه بقبلة من ((سلمى)) في غفلة من الرقباء.
وآب المصطافون كل إلى بيته وبلده، وانتظم ((سالم)) في دراسته بكل جد ونشاط وكل أمله أن ينتهي من تحصيله ليتزوج ((سلمى)) كما تعاهدا على ذلك في الصيف المنصرم، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، إذ تقدم لخطبة ((سلمى)) رجل في الخمسين من عمره له أولاد متزوجون وقد ماتت والدتهم أخيراً فأحب الكهل أن يجدد شبابه، ويدفن عمره بين أحضان فتاة في سن أولاده أو أحفاده على أصح تعبير؛ ولمَ لا؟ إن له من ثرائه ووجاهته في قومه ما يحقق هذا المطلب. وهكذا خطب ((سلمى)) من أبيها الذي رحب بهذا الصيد الثمين.
ونزل الخبر على ((سالم)) نزول الصاعقة ولم يصدقه بادىء الأمر. وعندما أكدته زوج أبيه بكى وأعول كالأيامي ونشج كالثكالى، فدهشت لذلك وسألته عن الأمر فأخبرها أن أمنيته الوحيدة في الحياة كانت الزواج من ((سلمى)) ثم أكب على يديها ورجليها يقبلها ويسألها أن تطلب من أبيه أن يخطبها له. فصداقة والده لأبيها لا شك ستفعل المستحيل، فوعدته بأن تكلم أباه في هذا الأمر، وما كادت تكمل كلامها حتى انهال سالم يقبلها من رأسها إلى أخمص قدميها.
وفاتحت والده في الأمر فأجابها بكل برود:
ـ ألا يكفي وقعتي السودة معك حتى تريدي أن يقع ابني في مصيبة مثلك؟
ثم رفع عقيرته قائلاً بحدة:
ـ ما شاء الله متى بلغ ((سالم)) مبلغ الرجال حتى يتزوج. هل يستطيع (فتح بيت)؟
هل لديه مهر؟
ثم قام صارخاً قائلاً:
ـ أين هو الكلب، أريد أن أكسر أسنانه وأخمد أنفاسه.. ما شاء الله.. ما شاء الله.. هو ده اللي فاضل...
وكان ((سالم)) يسمع هذا التهديد، فلم يهرب، بل فتح الباب وقال لأبيه بكل شجاعة:
ـ أنا بين يديك يا أبي فافعل بي ما تشاء.
فوقف والده مكانه ووجم قليلاً وقد فوجىء بجسارة ابنه وأُعجب بها، ثم أردف قائلاً بعد أن انغثأ غضبه:
ـ أصحيح ما قالته (خالتك)؟
ـ نعم يا والدي.
ـ ولكنك ما زلت صغيراً يا بني ومتطلبات الزواج كبيرة وباهظة.
ـ أعرف ذلك.
ثم اندفع يقبل يدي والده ورأسه وقدميه ويقول:
ـ أتوسل إليك يا والدي أن تخطبها لي. أما الزواج فليكن بعد استكمال تحصيلي دراستي.
ـ قم يا بني.. ها إنني ذاهب لهذه المهمة وعلى الله التوفيق.
فقبله ابنه والدنيا لا تسع أفراحه، وقبلته أيضاً زوجه وقد نسيت في سبيل إسعاد ((سالم)) وأختها ما لقيت قبل هنيهة من تحقير وإهانة.
ووقع نبأ هذه الخطبة على ((سلمى)) وقوع القنبلة الذرية على ((هيروشيما)) فقد حطم ودمر صرح آمالها وأطواد أحلامها فأصيبت بنوبة إغماء قالت زوجات أبيها الثلاث إثر ذلك:
ـ إنها إغماءة الفرحة عند البنات، وكيف لا والعريس، عين الله تحرسه، لقطة وأي لقطة، مركز وجاه، وفلوس زي الرز.. يا بختها. وقالت إحداهن لنفسها:
ـ أما كنت أنا أولى بهذا العريس من هذه المفعوصة.. فين كنت يا حظ ليلة أنكتب نصيبي على شيبة جهنم...
ولا شك أنها تعني بشيبة جهنم والد ((سلمى)).
وأفاقت ((سلمى)) من غيبوبتها وهي مصممة على رفض هذا العريس أو مبدأ الزواج بشخص غير ((سالم))؟ ولكن كيف السبيل إلى ذلك، إنها وحيدة ومحاطة بالأعداء الثلاثة زوجات أبيها وكل واحدة منهن تود خروجها من البيت.. إن أختها بعيدة عنها ولا تستطيع الذهاب إليها، لأن البنت عندما تخطب أو يشم في الجو رائحة عريس، يحرم عليها الخروج من دار أبيها إلا إلى بيت الزوجية.. ولكن عليها أن تفعل شيئاً.. فلتفاتح أباها فربما رق قلبه ورثى لحالها.. ولكن ماذا تقول له.. ماذا تقول له؟؟ أتقول له إنها تحب ((سالم)).. وهل يعرف آباؤنا معنى الحب وقوته وسلطانه؟ إنهم تزوجوا من غير حب ووجدوا آباءهم على هذه الضالة وهم على آثارهم مقتفون. ماذا تقول يا ربي.. وقامت وتوضأت وصلت ركعتين وتضرعت إلى ربها أن يخلصها من هذه المصيبة.. وأخيراً هبطت عليها فكرة رأت أنها ربما ألانت قلب أبيها الصلد.. فإن نجحت فذلك ما تبغي وإلا كان عليها أن تنتظر ماذا سيفعل ((سالم)) من جهته.
وجاءها والدها وابتسامة عريضة تكسو محياه فقامت إليه وقبلت يده ثم جلست على الأرض بجانب رجليه فقال لها:
ـ كيف حالك اليوم يا بنيتي؟
ـ بخير يا أبتاه ما دمت أنت بخير.
ثم وضع والدها يده تحت ذقنها ورفع وجهها وتطلع إليها قائلاً:
ـ ما شاء الله.. أرى السرور والبشر يعلو محياك.. ما في شك.. أنت اتولدت ليلة القدر.. وفهمت ((سلمى)) نتائج هذه المقدمة، وتحضرت للإجابة عنها حالما ينتهي والدها من ذلك.
وتابع والدها حديثه قائلاً:
ـ كل بنت مصيرها الزواج ويا بخت البنت اللي تنستر في حياة والدها.
ثم سحب يده من تحت ذقنها وأردف قائلاً:
ـ وخصوصاً عندما يكون العريس ((ذوات)) وابن ناس وصاحب جاه ومال والحمد لله الشيخ ((منصور)) رجل تتوفر فيه كل هذه الصفات..
ثم علا صوته قليلاً وقال والسرعة تلف كلامه:
ـ وأنا قبلت يا بنتي.. قبلت.. مبروك.. مبروك.. ربنا يجعله عريس العمر..
وأكبت ((سلمى)) على قدميه وقالت والبكاء يغلب كلامها:
ـ أبويا.. ربنا يخليك يا أبويا.. ويطول في عمرك.. أنا في نفسي كلمة أريد ْقولها..
وقاطعها أبوها قائلاً:
ـ قولي ولا تخافي أنا أبوك وليس لك بعد الله سواي.
ـ صحيح يا أبتاه.. أنت لي بعد الله سبحانه وتعالى.. ولكن يا والدي أنت تعرف أنا ما زلت صغيرة السن والشيخ ((منصور)) رجل كبير وقور يحتاج إلى امرأة أكبر مني سناً وأعلم مني بتدبير المنزل وأعرف بالعناية بالرجال العظام أمثاله..
فقاطعها والدها قائلاً بحدة:
ـ ومتى كان للبنات عندنا رأي في الزواج؟!.. أنا أبوك.. أنا أدرى بصالحك وأعرف بالطيب والبطال.
ثم ارتفع صوته قائلاً:
ـ خلاص.. ما في كلام.. أنا قبلت...
فتجرأت ((سلمى)) وقاطعته قائلة:
ـ ولكن....
وما استطاعت أن تكملها لأن كف والدها أسكتها وأسال الدم من فمها. وشفع والدها كفه بأن رفسها برجله فانقلبت على ظهرها ونهض وهو يرغي ويزبد ويقول:
ـ لكن.. وما.. لكن - ما شاء الله أمَّا بنت مزبلحة طالعة زي أمك.. أنا رايح أوريكي إيش آخرة الزبلحة...
وانهال عليها ردساً ورفساً بقدميه ولطماً على وجهها بيديه واستعان بالمراوح عندما تعبت يداه وقدماه. ونزفت الدماء من فم ((سلمى)) وهرعت زوجات أبيها على صوت الضرب فخلصنها من بين يديه و ((سلمى)) لا تتكلم ولا تصرخ بل تتحمل آلامها بصبر وجلد أثارا حفيظة أبيها عليها.
ونزل والد ((سلمى)) إلى مقعده، وراحت زوجات أبيها يسعفنها ويضعن لها الكمادات الساخنة على المواقع المتورمة وهي ترجوهن ألا يفعلن... وقد أشفقن عليها وانهلن شتماً ولعناً ودعاء على الأب الجبار القاسي المتحجر القلب و ((سلمى)) تلوك جراحها بصبر عجيب غريب.
وجاء والد ((سالم)) فاستقبله والد ((سلمى)) وآثار المعركة ظاهرة بجلاء على وجهه فسأله والد ((سالم)) عما إذا كان يشكو من شيء؟ فسرد له والدها الموضوع من ((طقطق لسلامو عليكم)) وبعد أن انتهى قال له والد ((سالم)):
ـ وماذا قررت أن تفعل طالما أن البنت لا تريد هذا العريس؟
فأجابه والد ((سلمى)) بجد ظاهر:
ـ إحنا ما عندنا بنات يقولوا أريد أو ما أريد... وأنا قبلت هذا العريس الكفؤ.. وأنا أدرى بصالحها منها نفسها.. ولي عندك رجاء يا شيخ ((محمود)) وهو أن تتولى أنت العقد ليلة الجمعة القادمة لكي تحصل لنا البركة.
وسقطت هذه العبارة على والد ((سالم)) كما يسقط دش ماء بارد على الجسد في يوم شتاء قارس. وكاد أن يرضى بما سمع جواباً غير مباشر على المهمة التي قدم من أجلها، إلا أنه رأى تبريراً لموقفه من ولده ((سالم)) أن يقول شيئاً ولو تلميحاً.. واستفزه أن يطلب منه الشيخ ((علي)) والد ((سلمى)) أن يقوم بوظيفة المأذون، فإذا به يعتدل في جلسته ويقول:
ـ كان يسعدني يا شيخ ((علي)) أن أقوم بهذه المهمة لو كان الخطيب ابني ((سالم)).
وأذهلت الشيخ ((علي)) هذه المفاجأة.. ثم آب إلى رشده فقال:
ـ ((سالم))!! هل أنت جاد فيما تقول يا شيخ ((محمود))؟
ـ ولم لا يا شيخ ((علي))؟
ـ إن ((سالم)) ما يزال طالباً في المرحلة الثانوية، وأخشى أن يحول الزواج بينه وبين إكمال تحصيله.
ـ كلامك صحيح، ولكني كنت أريد أن نعقد له على ((سلمى)) الآن ونترك مسألة الزواج بعد تخرجه في المدرسة.
ـ ومن يضمن أن ((سالم)) لا تتغير نظرته ((لسلمى)) بعد تخرجه؟ لقد قرأنا وسمعنا ورأينا مآسي الزواج المبكر وعواقبه الوخيمة على الأبناء، وهم في هذه الفترة من العمر ينقصهم الوعي والإدراك الصحيح لمفاهيم الزوجية ومسؤولياتها الجسيمة...
فقاطعه الشيخ ((محمود)) قائلاً:
ـ أفهم من كلامك أنك ترفض ((سالم))؟
ـ معاذ الله يا شيخ ((محمود)).. إن ((سالم)) مني في منزلة ((سلمى)) وأعز، ولكني بهذا الشعور وبهذه المحبة لا أريد أن أجني عليه وعلى ابنتي أيضاً...
ثم استدرك قائلاً:
ـ يا ريتك فاتحتني في هذا الموضوع قبل قبولي خطبة الشيخ ((منصور)) لابنتي.. إنني شديد الأسف والحزن ولكن سبق السيف العذل.. والبنات (كتار) يابو ((سالم))...
فأجابه الشيخ ((محمود)) بامتعاض:
ـ صحيح.. البنات (كتار) وكل شيء قسمة ونصيب.. ومبارك سلف.. في أمان الله.. ونهض الشيخ ((محمود)) ليخرج فأمسك يده الشيخ ((علي)) قائلاً:
ـ أتخرج بهذه السرعة؟ أأغضبك كلامي؟ وإني لأرجوك مخلصاً ألا يؤثر ما سمعته مني على ما بيننا من ود ومحبة. وأستحلفك بما بيننا من عيش وملح ألا يكون فيما قلته لك سبب للقطيعة؛ فاصطنع الشيخ ((محمود)) الهدوء، ولبس ثوب المداهنة وقال:
ـ حاشا وكلا.. إن ما بيننا لا تغيره توافه كهذه... طاب مساؤك يا شيخ ((علي)).
ـ طاب مساؤك يا شيخ ((محمود)) في أمان الله...
ويودعه الشيخ ((علي)) حتى الباب الخارجي. ويستقل الشيخ ((محمود)) بغلته إلى داره وهو يجر أذيال الفشل ويحمل في صوره أطناناً من الغضب على والد ((سلمى)).
وتستقبله زوجه وابنه ((سالم)) متلهفين على النتيجة، وعندما يريانه وما هو عليه من حال، يدركان النتيجة سلفاً. ويروي والده له ما جرى وهو يكاد يتمزق من الغيظ ويحاول تخفيف حدته تارة بصب أفظع الشتائم على رأس والد ((سلمى)) وأخرى بالسخرية من الوالد وابنته وكل عائلته ومن تبعهم بحسب أو نسب إلى يوم الدين. ومن المضحك المبكي أن تسمع شقيقة ((سلمى)) هذه اللعنات تنهال على أبيها وكأنها رحمات تنزل عليه، حتى إن ((سالم)) كان يشعر بالحرج والخجل من زوج أبيه على ما يتلفظ والده من كلمات جارحة قاسية. وختم، والده روايته بقوله:
ـ لا تهتم يا ولدي سأزوجك إن شاء الله أحسن بنت في هذا البلد.
ولم يدر والده أن أحسن بنت في هذا البلد لا تساوي عند ((سالم)) قلامة ظفر ((سلمى)).
وما انتهى والده من حديثه حتى أسرع ((سالم)) يقبل يديه ورجليه ويشكره على ما فعل من أجله ويأسف على ما لحقه بسببه. فرفعه والده إليه وقبله ما بين عينيه وخرج إلى مجلسه ينتظر سماره وندمانه.
وجلس ((سالم)) إلى زوج أبيه وشاركهما مجلسهما أخوه ((وحيد)) وجاءت الدادة الأمينة وعيناها مغرورقتان بالدموع. إنها تعرف حب ((سالم)) ((لسلمى)) إنها كانت رسوله إليها ورسولها إليه، إنها تعرف من علاقتهما أدق التفاصيل. إنها تخشى أن يؤثر ذلك على صحة ((سالم)) أعز إنسان لديها في هذا الوجود. ورآها ((سالم)) وهي على هذه الحالة فقال:
ـ لا تبكي يا دادة ((حليمة)).. إنني أصبحت رجلاً وعليّ أن أعوَّد نفسي على احتمال الصدمات... إن علينا أن نتضرع إلى الله عزّ وجلّ أن يهب ((سلمى)) القوة والعون والصبر على ما هي فيه.
وتنخرط الدادة في بكاء ونشيج موصول وتقول والكلمات تتقطع بين بكائها:
ـ ستي ((سلمى)).. مسكينة ستي ((سلمى)) لقد رأيتها أول أمس وهي تبكي بكاء يقطع نياط قلب الكافر.. تقول أنا أبغي اقتل نفسي ولا أجوزها دا الشايب العايب.. يا ربي كون معاها.. من فين جاتنا هادي البلوى.
وتشاركهما أخت ((سلمى)) البكاء حزناً على أختها وخوفاً من أن تقدم على قتل نفسها... ويتدخل ((سالم)) قائلاً:
ـ يا جماعة صلوا على النبي.. إحنا رايحين نفتح مناحة وعزا.. أحسن من كل هذا.. خلونا نفكر في حل للبلوى اللي وقعت فيها ((سلمى)).
ويتطلع إليه أخوه ((وحيد)) ويقول وهو يمصمص شفتيه:
ـ نفكر في ايش، ونعمل ايش.. وايش طالع بإيدنا أبوك بدقنه وعمته قد ((المفته)) ما قدر يسوي حاجة... ما تقولوا يا هوه... ولا كلامي موعاجبكم.
ثم يوجه كلامه إلى أخيه ((سالم)) قائلاً:
ـ سيبك من الخيال يا خويا.. الطيور طارت بأرزاقها وخالتي ((سلمى)) رايحة تجوز الشيخ ((منصور)) مهما كلف الأمر بس حرام عليكم تخلوها تعيش في الخيال وتتعرض لعلقة ألعن من اللي أكلتها قبل يومين... أنا وقتي ثمين وما أحب أضيعه كده بلاش... وفي كلام هلس لا فائدة منه.
وترد عليه أمه ساخرة:
ـ ما شاء الله.. ما شاء الله.. والله صحيح وقتك ثمين يا سيدي ((وحيد)).. ما نحنا عارفين فين تروح وفين تدخشش..
ويقاطعها قائلاً:
ـ اللي عاجبه.. عاجبه واللي موعاجبو يشرب من البحر.. سلامو عليكم أيها المؤتمرون!!
ويشيعهم بضحكة تتجلى فيها السخرية بأجلى مظاهرها ويتطلع الباقون عليه وسحابة من الغيظ تظللهم وقد كادت تمطر الشتائم مدراراً عليه، إلا أن قوة الصبر والحكمة حالت دون ذلك ونزلت بدلاً منها برداً وسلاماً على لسان ((سالم)) حين قال لأخيه ((وحيد)):
ـ مع السلامة يا أخي.. وفي أمان الله يا ((وحيد)).
وتنظر والدة ((وحيد)) إلى ((سالم)) نظرة كلها إشفاق وحنان ثم تقول:
ـ ما شاء الله على أعصابك يا ولدي ربنا يقويك ويلهمك الرشد والصواب.
ويجيب ((سالم)).
ـ ربنا يسمع منك.. قولي كمان معايا: ربنا يهدي ((وحيد)) ويكفيه شر نفسه وشر أولاد الحرام وتقولها بيأس:
ـ ربنا يهديه والله غلبت وأنا بدعيله لكن يظهر اللي مكتوب عالجبين لازم تشوفو العين هادا من لما ترك المدرسة أو قوله طردوه منها وهوه لافف على شلة أولاد حرام زي ما أنت شايف سهر لأنصاف الليالي و (قيلات) مالها نهاية وابوك يئس منو ضربو ما فاد.. الهداية من الله يا ولدي.
وتقول الدادة:
ـ ربنا يهديه وينور بصائره.
ويؤمن الجميع على كلامها وينصرف كل إلى شأنه.
وبعد، فهل ظاهرة التجلد التي تدرع بها ((سالم)) ظاهرة طبيعية؟ هل صحيح أنه تقبل الأمر الواقع وشرع يروض نفسه على النسيان؟؟ أرضي بالهزيمة واستكان لليأس أم هو من النوع الذي يحني رأسه للعاصفة العاتية حتى إذا مرت رفع رأسه ثانية وبدأ في تخطيط جديد للوصول إلى أهدافه؟ إن ((سالم)) على حداثة سنه، قدير على التحكم في أعصابه ووضعها في ثلاجة إذا لزم الأمر.
وهكذا ضبط ((سالم)) أعصابه في هذه الساعة الحرجة ليهيىء لفكره الفرصة لوضع تكتيك جديد يدفع به قوة العدو الضاربة.
ووازن ((سالم)) بين ما يملك من عدة وعتاد وما يملك خصمه من قوة وسلاح، فرأى بثاقب بصره أنه داخل في معركة خاسرة، معركة مقدر له فيها الفشل من البداية. وسأل نفسه: هل أدى واجبه نحو ((سلمى))؟ فوجد أنه - بحسب إمكانياته حالياً - قد قام بواجبه نحوها، فقد أرسل أباه يخطبها. والخطبة أقوى إمكانية لديه.. أما وقد استراح إلى ما فعل، فعليه أن يسعى لإقناع ((سلمى)) بقبول الأمر الواقع، والتسليم لقضاء الله وقدره.
ودعا إليه (الدادة) الأمينة وأرسلها إلى بيت ((سلمى)) بعد أن زودها بما يحب أن تقوله لها.
وذهبت الدادة إلى سبيلها، وذهب سالم لاستذكار دروسه وقد تجمل بلباس الصبر والجلد.
وعادت (الدادة) من مهمتها لتخبره أن ((سلمى)) ستفعل المستحيل لإحباط هذا الزواج ولو كلفها ذلك حياتها، وأنها أي ((سلمى)) ترجوه أن يحترز من أخيه ((وحيد)) فقد رأته أمس هو وخطيبها ينزلان من السيارة ويدهما متشابكتان وبسمة الفرحة تعلو جبين ((وحيد)).
وأدرك ((سالم)) الآن سر تحمس أخيه لزواج ((سلمى)) بالشيخ ((منصور)) ثم صعد زفرة ألم دفين وقال قولة يوليوس القيصر:
ـ حتى أنت يا بروتوس....؟!
ثم كررها ثانية - حتى أنت يا ((وحيد))؟
وليس بمستغرب من ((وحيد)) أن يخون أخاه ويقف منه هذا الموقف المستهجن، فقرناء السوء قد استولوا على عقله غسلوه وكانت النتيجة طرده من المدرسة من أجل ذلك ولسقوطه المتتالي، وحاول والده وأخوه إصلاحه ففشلوا جميعاً واستمرأ ((وحيد)) هذه الحياة وانغمس في توابعها فباع واشترى وتخلق بأخلاق أهل هذه السوق وتجارها، فلئن تنكر اليوم لأخيه ((سالم)) ووقف في صف خصمه، فمن يدري؟ ربما كان هذا الخصم اشتراه بطريقة أخرى ومن السخف أن ننحى باللوم على شخص هذه حاله وهذه سبيله.
وطفق ((سالم)) يضرب على كفيه وهو يردد.
ـ حتى أنت يا ((وحيد))...
والدادة الأمينة واقفة أمامه كالصنم مظهراً، إلا أن قلبها كان يعتصر ألماً وحزناً على حالة ((وحيد)).
ودخلت عليه والدة ((وحيد)) فنهض للقائها وسألته عن أخبار ((سلمى)) فذكر لها ما جاءت به الدادة فقالت:
ـ ما العمل يا بني.. إن إصرار أختي على منع هذه الزيجة مهما كلف الثمن يدل على أنها تبيت أمراً خطيراً.
ـ ذلك ما تراءى لي يا أماه. وفي رأيي أن نتعاون جميعاً على إقناعها بالتسليم للأمر الواقع وانتظار ما يخبئه المستقبل. يجب أن تذهبي إليها يا أماه، وتفعلي المستحيل ولا سيما وقد حددت ليلة الجمعة القادمة للخطبة كما ترين في بطاقة الدعوة التي تلقيتها اليوم.
ـ ووالدك.. أتظن أنه سيحضر (الإملاك) الخطبة؟؟
ـ سأقنع والدي وسأذهب في ركابه.. فوجودنا لا شك سيخفف من تصلب ((سلمى)) وعنادها وإصرارها.
ـ توكلنا على الله.
وتلبس والدة ((وحيد)) ملاءتها (قنعتها) وتذهب لأداء مهمتها، ويمشي ((سالم)) على أشلاء قلبه المتناثرة ليقنع والده، وتنصرف ((الدادة)) للقيام بواجباتها البيتية.
وفي ليلة الجمعة وبعد صلاة العشاء، تم عقد قران الحسيب النسيب الشيخ ((منصور)) على صاحبة الصون والعفاف ((سلمى)) في جو متوتر مشحون بالتكهنات والتقولات.
فوالدها وزوجاته الثلاث، وسالم ووالده وزوج أبيه كانوا جميعاً في حالة قلق شديد، ولكن ((سلمى)) بددت سحب التوتر المكفهرة وغيوم القلق المتلبدة بما أظهرت من جلد وصبر وتكلف فرحة وابتسامة بين الفينة والأخرى ما أشاع موجة من الطمأنينة في قلوبهم وخاصة بعد أن لعلعت الزغاريد إثر انتهاء العقد.
ووزعت علب الحلوى وكان ((وحيد)) يشرف على توزيعها. ولما أعطى أخاه ((سالم)) علبته ابتسم في وجه أخيه ابتسامة صفراء ملؤها الشماتة اللاذعة. وتقبل ((سالم)) الابتسامة (المتحدية) بابتسامة كلها حنان وشفقة.
وكان والد العروس وأصدقاؤه العارفون ببواطن الأمور أكثر الناس فرحاً بإتمام صفقة عقد القران.
وتقبل العريس تهاني المهنئين وانصرف المدعوون وفرحة طاغية من الزغاريد تغمر سماء ذلك الحي. وانصرف ((سالم)) ووالده عائدين إلى دارهم، ودخل والده إلى مجلسه ليستقبل ندمانه وسماره، وآب ((سالم)) إلى غرفته الخاصة ليسامر أحزانه وأتراحه. إنه يرى نذر كارثة في الجو ولكن ما هي؟ وهل يستطيع دفعها أو صدها؟
وترين على فكره موجة عارمة من القلق كلما تكسرت منها موجة على صخور صبره وجلده تلتها موجات أكثر قوة وأشد اندفاعاً، ولا يستطيع تفكيره الصمود أمام طغيان هذه الأمواج العاتية وهو الحدث سناً وتجربة، فينخرط في البكاء ولا يدري كم من الوقت مر عليه وهو في هذه الحالة، ولا يصحو مما هو فيه إلا على طرق الباب وصوت الدادة يقول:
ـ افتح يا سيدي.. افتح..
ويمسح عبراته ويفتح الباب وتدخل الدادة فتضطرب وهي ترى عينيه محتقنتين فتسأله بلهفة عما به قائلة فيقول من القطرة التي استلمتها الآن. وينطلي عليها جوابه فتشرع قائلاً:
ـ أنا جاية من عند ستي ((سلمى)) اللي تسلم عليك وتقول لك:
ألست بارعة في تمثيل القسم الأول من المسرحية الجديدة وسأكون أشد براعة وروعة في تمثيل القسم الثاني والأخير منها...
وما كادت الدادة تكمل حديثها حتى بدأ ((سالم)) يلطم خديه بشدة ويبكي بصوت عالٍ ويقول:
ـ كفاية... كفاية يا ربي... تعذيب.. وآلام.. كفاية تحملني ما لا طاقة لي به.. لقد خارت قوى صبري وتجلدي، ارحمني يا ربي.. ارحمني.. خلاص.. أنا انتهيت.. انتهيت..
ويرتمي على سريره وهو يعول كالأيامى، والدادة المسكينة تحاول أن تواسيه وتخفف عنه آلامه بما وسع قاموس معرفتها من ألفاظ وعبارات.. لقد طفقت هي الأخرى تلعن نفسها وتلطم على خديها وفخذيها لأنها سبب ما جرى. ويختلط بكاؤها ببكائه ونواحها بنواحه وتخف حدة بكائه على شدة بكائها. وينهض مسرعاً إلى المغسلة فيغسل وجهه ثم يتوضأ ويصلي ركعتين لله ملتمساً منه الصفح والغفران عن زلة لسانه. وبعد ذلك يلتفت للدادة قائلاً:
ـ روحي أنت كمان وصلي ركعتين لله واعملي لي بعدها فنجان شاي.
وينزل الله سكينته على قلب ((سالم)) ويزيده إيماناً فوق إيمانه. ويعود لمتابعة دروسه بكل جد ونشاط، ويفرغ الله في صدره قوة من التحمل والصبر ما يرد بها شماتة أخيه ((وحيد)) في نحره. لقد عاده هذا اليوم التالي لعقد القران فوجد في ((سالم)) من متانة الأعصاب ما أذهله وحيره فانصرف من دون أن يروي غليل شماتته في أخيه.
ونذر ((سالم)) نفسه لربه ودرسه، فكان يداوم على مدرسته في الصباح وبعدما ينتهي من دراسته يذهب للمسجد الحرام قبيل صلاة المغرب فيطوف بالبيت ويصلي صلاة الجماعة ويعود إلى داره لينتظم دروسه.
وجاءته ذات يوم والدة أخيه ((وحيد)) وأخبرته أن أخت العريس قد دعت ((سلمى)) وزوجات أبيها الثلاث إلى حفلة غداء في منتزه الأقمار، وأنها دعيت هي أيضاً إلى ذلك، ولما اعتذرت أصرت أخت العريس وأقسمت أغلظ الإيمان أنها استغربت عندما سمعت أختها ((سلمى)) تلح عليها في الحضور.. وتابعت والدة ((وحيد)) قولها:
ـ ولكن استغرابي زال عندما أسرّت إلى ((سلمى)) فيما بعد أنها تود أن تراك هناك... وأدهش ((سالم)) هذا الطلب وقال مقاطعاً:
ـ هذا مستحيل.. كيف يتسنى لي رؤيتها مع وجود هذا الحشد من النساء.. لا.. لا.. مستحيل..
وضحكت والدة ((وحيد)) ملء شدقيها وقالت:
ـ مهمتك يا ولدي تسوق السيارة وتوصلني والدادة للمنتزه ودع لنا ترتيب المقابلة..
وهز ((سالم)) رأسه قائلاً:
ـ أريد أن أعرف تفاصيل الخطة بالضبط، فلربما عدلت فيها أو شجبتها من أساسها.
وقالت والدة ((وحيد)) وهي تغالب ضحكها:
ـ هذا سر المهنة يا حِدِقَ أو يا حضرة السواق المحترم.
واستمرت في ضحكها ثم قالت بحزم:
ـ موافق.. قول موافق.
وأجاب ((سالم)) وعلامات التعجب تزحم خاطره:
ـ موافق يا ماما...
وفي الموعد المضروب ذهبت والدة ((وحيد)) والدادة إلى الوليمة في المنتزه وكان ((سالم)) يسوق السيارة وهو يضرب أخماساً في أسداس يفكر كيف يمكن له ملاقاة ((سلمى)) بين هذه العيون الرقيبة. إنه يرى أن ذلك من رابع المستحيلات على أنه يعود فيعلل نفسه بقول الشاعر:
إن النساء شياطين خلقن لنا
أعوذ بالله من كيد الشياطين
وتصل السيارة إلى المنتزه وكان ((سالم)) يضع نظَّارة سوداء على عينيه ويتخذ من صمادته لثاماً يحجب بقية وجهه. إنه يخشى من زوجات والد ((سلمى)). إنهن يعرفنه تماماً.
ونزل من معه.. وسمع أصوات الترحيب واسترعى انتباهه صوت حبيب إليه هو صوت ((سلمى)) وأرهف السمع وركز كل حواسه حتى لا تفوته أية ذبذبة منه، وهمست إليه والدة ((وحيد)) بأن ينتظر في مكان قريب من المنتزه وألا ينزل من السيارة بل يبقى في داخلها. وهز رأسه بالإيجاب. وساق السيارة إلى حيث أمر وانتظر على أحر من الجمر وعد والدة ((وحيد)) وجاءه زميله سواق الباص الذي نقل أخت العريس وصحبها، ومن حسن الحظ أنه لم يعرف ((سالم)) وقد حرص هذا على ألا يفسح له المجال للجلوس وأحس السواق بذلك فتركه وذهب إلى زملاء آخرين.
وحان موعد الغداء ولا جديد. وجاءته الدادة بحقه من الغداء وأفهمته أن كل شيء يسير حسب الخطة المرسومة. فقال منفعلاً:
ـ خطة مرسومة إيه يا دادة.. أنا هلكت من الانتظار.
ـ اللي يحب يصبر على بلوته يا سيدي.. هون أخلاقك ولا تأتي بأية حركة تفسد كل ترتيبنا ويضرك أنت أكثر الكل..
ـ حاضر.. حاضر أمري لله.
وانصرفت الدادة لأداء مهمتها وبقي ((سالم)) في حالة ترقب وعيناه متسمرتان على الجهة التي ذهبت إليها الدادة.
وبعد ترقب مشحون بالقلق والخوف جاءت ((سلمى)) تمشي على استحياء تخفرها الدادة، وفتحت باب السيارة ودلفت إلى المقعد الأمامي ثم جلست بعد أن سلمت على ((سالم)) الذي تعثرت كلمات الترحيب على لسانه من هول المفاجأة. وجلست ((الدادة)) في المقعد الخلفي، وعيناها ترقبان الطرق والمارة فيها.
وراح الحبيبان يتناجيان ويتشاكيان، وعيناها تغرورقان بالدموع من المصير المؤلم الذي زجها والدها فيه، و ((سالم)) يحاول والألم يعتصر فؤاده، تهدئتها وإقناعها بقبول الأمر الواقع والرضا بما قضاه الله سبحانه وتعالى وقدره.
وفجأة سحبت ((سلمى)) يدها من يده وقالت:
ـ أهذا رأيك يا ((سالم)) أليس من حل آخر لديك...؟؟
ـ يا ليت يا ((سلمى)) إني مستعد لتحمل أية تبعات ومصاعب ولكنك تعرفين تقاليدنا وعاداتنا ولا سبيل إلى الخروج عليها.
وانهمرت دموع ((سلمى)) مدراراً وهي تقول:
ـ متى يا ربي نتخلص من هذه العادات البالية.. متى نتخلص من دكتاتورية الآباء الغلاظ الأكباد العديمي الشفقة والرحمة الذين يتخذون من بناتهم سلعة تباع لمن يدفع أغلى ثمن.
ثم مسحت دموعها بمنديل زيّن ((سالم)) به صدر جاكتته وقالت:
ـ سأرضى بما قسم الله لي وقدر. أما أنت فأرجوك أن تثابر على دراستك وإني أنتظر الأخبار السارة بحصولك على الشهادة الثانوية.
ـ شكراً يا ((سلمى)) على عواطفك وتجلدك. سأعمل بنصيحتك وستسمعين عني إن شاء الله كل ما يسرك...
ـ والآن أستودعك الله يا ((سالم)) فقد طال غيابي عن مكان الحفلة وأخشى أن تبدأ عملية التفتيش...
ثم تعانقا طويلاً وقد عاود كلاهما البكاء. واستدارت وفتحت الباب وقد سبقتها الدادة وقالت ويدها على أكرة الباب:
ـ من يدري يا ((سالم)) ربما يكون هذا لقاءنا الأخير.
وصرخ ((سالم)).
ـ لا.. لا تقولي ذلك يا حبيبتي.. سنلتقي.. سنلتقي..
وعادت ((سلمى)) مع الدادة من حيث جاءت، وخلفت ((سالم)) نهباً لآلامه وأحزانه يبكي ويبكي ولا يدري كم من الوقت مضى وهو على هذه الحالة. ولم يصح مما كان عليه إلا عندما رأى الدادة ووالدة ((وحيد)) أخيه قادمتين، فمسح دموعه وأدار محرك السيارة وأركبهما وعادوا جميعاً من حيث جاءوا. وفي الطريق شكر ((سالم)) لزوجة أبيه ما فعلت من أجله، وردت عليه بأن طلبت منه الصبر والجلد ومحاولة النسيان والبنات كثيرات.
فأجابها: ولكن ليس بينهن من تضارع ((سلمى)) في خُلقها وخَلقها.
ووصلوا إلى المنزل ودلف ((سالم)) إلى مخدعه وهو يفكر في عبارة ((سلمى)) الوداعية: ربما يكون لقاؤنا هذا الأخير.. أتراها تنوي شراً لنفسها أو.. أو.. وطفق يقلب الأمر على جميع جوانبه ولم يخلص من عذاب تفكيره إلا على صوت المؤذن لصلاة الصبح فتوضأ وصلى ثم ارتمى على مضجعه وراح في سبات عميق لم يفق منه إلا على قرع الباب وصوت ((الدادة)) تدخل وهي تقول:
ـ وي يا سيدي الظهر رايح يأذن وأنت لساتك نايم. أجبلك الفطور...
ـ لا يا ((دادة)).. سوي لي فنجان قهوة سكر مضبوط وسأتغدى معكم حين مجيء والدي..
ـ ولكن أبوك سيدي قال رايح يتغدى عند والد ستي أم ((وحيد)).
ـ حسناً سأتغدى معكم إذن..
وتمضي الأيام وينشغل ((سالم)) بالتحضير للامتحانات ويتقدم للفحص وينجح ويكون اسمه ضمن قائمة العشرة الأول وكانت ((سلمى)) أول المهنئين له على نجاحه والفرحة تشيع من نبرات صوتها وقد شكرها ((سالم)) وتمنى لو يستطيع مقابلتها فأجابته:
ـ الآن اكتمل سروري بنجاحك. أما الموعد فستسمع به في حينه، أستودعك الله يا أعز إنسان عندي.
ـ مع السلامة يا حياتي..
ولا تسل عن فرحة والدي وزوجة أبي والدادة وجميع الأقارب والأحباب بنجاحي، وقد انهالت علي الدعوات منهم وكنت مضطراً إلى تلبيتها بالرغم مما تعرضت له من تلبك في المعدة وصداع أليم في الرأس من دسامة هذه الأطعمة والبهارات التي مزجت بها لتكسبها على رأيهم لذة في المذاق والطعم وفتح الشهية والقابلية.
وكان لقائي ((بسلمى)) نادراً بل عابراً فقد وضع زوجها وأخته حراسة شديدة على تحركاتها وسكناتها.
وانقضت أيام الولائم والحفلات، وذات صباح ونحن نتناول طعام الإفطار، فاجأني والدي بقوله:
ـ ((سالم))! أي جامعة ترغب في الانتساب إليها؟؟
ـ أي جامعة تراها أنت يا والدي...
ـ أنت تعلم أني أريدك أن تدرس الطب، إذ ليس في بلادنا في الوقت الحاضر كليات للطب وأنا أرى...
ـ ترى ماذا يا أبي...؟
ـ أبعثك إلى ألمانيا فالطب فيها متقدم جداً.. فما رأيك؟؟
ونزل رأيه علي كالصاعقة فقد كنت أرغب في استكمال دراستي في بلدي لكي أكون قريباً من ((سلمى)) ومع ذلك أجبت والدي:
ـ الرأي الأول والأخير لك يا والدي...
ـ بورك فيك.. لسوف أختار لك الجامعة بعد الاستئناس برأي المختصين في وزارة المعارف الذين سيتولون الاتصال برئيسها ومن ثم تسجيلك فيها..
ونهضت - مكرهاً - وقبلت رأس والدي ويده. وقبلني هو وقال لي:
ـ هيىء نفسك للسفر واستعن بأم أخيك ((وحيد)) في لوازمه.
ونزلت على رغبة والدي واستعنت بأم أخي ((وحيد)) وكانت لي نعم المعين في تجهيز لوازم سفري إلى ألمانيا، وجاء ((وحيد)) ذات يوم فوجد والدته ترتب حقيبة سفري فقال بهزء وسخرية:
ـ والله ماشي حالك يا ((سالم)) وباضت لك في قفص ((ستذهب إلى ألمانيا وستصبح دكتور قد الدنيا والتفتت إليه والدته وقالت بحزم وألم:
ـ أما أنت فستبقى ((ثور.. ثور)) إلى يوم يبعثون.
واستدار ((وحيد)) مغضباً وخرج وأقفل الباب بقوة كاد يتحطم منها.. فقلت وهي لا شك، تسمعني:
ـ ربنا يهديه.. ربنا يهديه...
وفتح الباب ثانية بقوة ودخل ((وحيد)) والدادة معه تبكي وهو يقول:
ـ أبويا ضرب تليفون وقال خلي أمك تجيء مع ((سالم)) على مستشفى الحكومة بجدة، وضربت والدته على جبينها وقالت:
ـ خير إن شاء الله.. خير.
ـ سلمى وجوزها انقلبت بهم السيارة بالطريق ونقلوهم للمستشفى بين الحياة والموت.. رددت مع أم ((وحيد)):
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله. هيا يا ماما.. هيا البسي ((قنعتك)) بسرعة..
وقالت الدادة:
ـ وأنا ما تأخدوني معكم؟؟
ـ طيب.. هيا.. السيارة تشيلنا كلنا..
وقال ((وحيد)):
ـ أما أنا فسأذهب في سيارتي.
ـ لك ما تشاء يا ولدي بس سوق بهدوء....
لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. وقلت والحزن يعتصر فؤادي:
ـ ربنا يكتب لهم السلامة.. يا رب.. يا رب..
ووصلنا للمستشفى فوجدنا والد ((سلمى)) جالساً على أحد المقاعد في الداخل والدموع، تخرز عينيه، ونهض والدي وتقدم من زوجته معزياً في أختها وزوجها فندت صرخة من أم ((وحيد)) فأسكتها وقام والدها فأخذها وأجلسها بجانبه وهو يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون. واشتركت في العزاء ثم انكفأت على أحد المقاعد ابكي بحرقة عرف أسبابها والدي فاقترب مني وقال:
ـ تجلد واصبر فهذا قضاء الله ولا راد لقضائه وقدره.
ثم التفت إلى وحيد وقال:
ـ خذ جدك ووالدتك والدادة إلى الدار، أما أنا و ((سالم)) فسنسير مع عربة المستشفى التي ستنقل الجثمانين إلى دارنا، فاسبقونا إلى الدار.
ووارينا الجثمانين مثواهما الأخير، وبقيت أياماً وليالي لا يرقأ لي دمع حتى خشي والدي على صحتي، فرأى بثاقب بصره أن يعجل في أمر سفري فلعلَّه ينسيني ما أنا فيه.
ورأيتني أستريح إلى رأي والدي حين أسرّ به إلي ولا سيما ومن أحب سارت إلى دار القرار.
وأخذني أحد موظفي والدي فاستخرجنا جواز سفر لي وأخذنا التأشيرات اللازمة عليه ثم حجزنا على الباخرة التي ستغادر ميناء جدة وأخذت منهم اسم الجامعة التي سأنتسب إليها ورقم تسجيلي فيها، وعندما عدت إلى البيت أخبرني والدي بأن الجامعة في ألمانيا قد رتبت من يستقبلني في ميناء هامبورغ وأعطاني اسمه ورقم هاتفه، فقبلت يده ودعا لي بالتوفيق والسلامة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1794  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.