كسرة الخبز |
رائعتنا هذه الأمسية: (كسرة الخبز) للشاعر والروائي الفرنسي الشهير فرانسوا كوبيه. ولد فرانسوا كوبيه عام 1842 وتوفي عام 1908م.. اشتهرت رواياته بالبساطة وصدق التعبير وقوة العاطفة وقصتنا هذه الليلة في قمة ما كتب.
|
الراوي: كان الدوق الفتى ((دي هارد مورد)) مقيماً في مدينة (أكس) حيث يعالج فرسه الشهير مما أصابه من الرطوبة في سباق (دربي) عندما قرأ في الصحف نبأ كارثة (ويشهوفن) التي انهزم فيها الفرنسيون أمام الألمان فغار الدم في عروقه والتفت إلى خادمه قائلاً: |
هارد موند: جاك.. جاك.. هيىء حقائب السفر وأعد كل شيء لسفري إلى باريس. |
جاك: أمرك سيدي.. |
الراوي: ووصل (هارد موند) إلى باريس وأسرع إلى إدارة التجنيد وانخرط متطوعاً في سلك الجنود المتطوعين الذاهبين إلى ميدان القتال وعهد إليه بالحراسة أمام حصن (هوت بروبير).. وفي ليلة من ليالي الشتاء القارسة تكاثفت فيها الغيوم القائمة وأظهرت الطبيعة ما لديها من ضروب النقمة والغضب وكان الظلام حالكاً بحيث لم يكن يرى فيه قبس من نور إلا في الفترات التي تنطلق فيها قذائف العدو على الحصن الذي يحرسه (هارد موند) في تلك الليلة شعر هذا بالبرد والجوع وظل يرتجف حتى انتهت (دوريته) فسلم الحراسة إلى زميله الذي قال له: |
الزميل: يا حسن حظك يا (هارد موند).. لقد انتهت حراستك قبل أن ينتصف الليل ويشتد الزمهرير فاذكرني وأنت تستدفىء. |
هارد موند: (ضاحكاً) استدفىء.. هيه.. هيه.. رحم الله أيام الدفء والفراش الوثير والليالي الضاحكة.. طاب مساؤك أيها الزميل العزيز.. |
الزميل: طاب مساؤك.. |
الراوي: واتخذ (هارد موند) جانباً من الحصن وجثا على إحدى ركبتيه وفتح جعبته وأخرج منها قطعة كبيرة من الخبز ولم يجد سكيناً يقطعها بها فقضمها بأسنانه وكانت يابسة.. مرة المذاق.. فاكتفى بلقيمات قليلة تبلغ بها ثم ألقى مشمئزاً بقطعة الخبز الباقية في الوحل.. ولم يره إلا جندي من جنود فصيلته يخرج مسرعاً من أحد الأركان القريبة فيلتقط كسرة الخبز ويسير بها بضع خطوات ثم يمسحها بردائه ويقبل على أكلها في شراهة ونهم عجيبين فقال هارد موند في نفسه.. |
هارد موند: يا لله هل هناك بين زملائي من الجنود من هم بهذه الحال من البؤس.. كيف يستطيعون الدفاع عن بلادهم وعدوهم الجوع يغتالهم من الداخل.. |
الراوي: ثم دنا (هارد موند) من الجندي ونظر إليه نظرة إشفاق وعطف فرآه طويل القامة نحيف الجسم محمر العينين.. أشعث اللحية يبدو على سيماه أنه خارج من المستشفى وقد كادت تبرز عظامه من ثيابه فخاطبه (هارد موند) قائلاً: |
هارد موند: أجائع أنت أيها الرفيق. |
الجندي: ألا يكفيك ما تراه دليلاً على ذلك.. |
هارد موند: عذراً يا صديقي.. فلو علمت أنك شديد الجوع إلى هذا الحد لما ألقيت بكسرة الخبز في الأوحال.. |
الجندي: لا عليك في ذلك فقد تعودت مثل هذا.. وليس يضير كسرة الخبز إنْ أُلقيت في الوحل فهي لا تزال طعاماً صالحاً لا أشعر بأي اشمئزاز من أكله. |
هارد موند: كيفما كان الأمر فقد اخطأت وشعرت بأن ضميري يؤنبني على ما فعلت ورجائي إليك ألاّ تسيء بي الظن وأن تتفضل علي في أن تشاركني في شرب قدح من الشاي في (كانتين) الحصن.. |
الراوي: وكان الجندي قد التهم كسرة الخبز كلها.. فشاركه في شرب الشاي مبتهجاً مسروراً ثم سأله: |
الجندي: ما اسمك أيها الرفيق المحسن؟ |
هارد موند: اسمي (هارد موند) فما اسمك أنت؟ |
الجندي: جان فكتور.. وقد ألحقوني بهذه الفصيلة بعد أن خرجت من المستشفى المتنقل وكنت قد أصبت في معركة (شاتلون).. آه كم كنت مرتاحاً يا صاحبي في المستشفى بما يقدمه لي الممرض من حساء شهي ولحم خيل لذيذ.. وقد كانت إصابتي بسيطة فشفيت منها سريعاً.. وأمر الممرض بإخراجي.. له الله فقد حرمني تلك المآكل الطيبة اللذيذة.. وها أنذا أبدأ حياة الجوع من جديد.. صدقني يا أخي إنني قضيت حياتي كلها جائعاً.. |
الراوي: وتألم (هارد موند) الشاب المترف من العبارة الأخيرة التي تفوه بها (جان فيكتور) فشخص إليه ورانت على محياه إمارات الألم والحزن فابتسم جان ابتسامة المتألم أيضاً وظهرت - في انفراج شفتيه - أسنان بيضاء في وجه معبس قاتم تدل على أن صاحبه يريد أن يفض إليه بمكنون أمره ولم يلبث أن قال: |
فكتور: هيا بنا يا صديقي نمشي في الطريق لندفىء أقدامنا.. وسأقص عليك ما لم تألف أذنك سماعه طول عمرك.. قلت لك إن اسمي (جان فكتور) ولم أزد فليس لي لقب آخر لأنني لقيط.. ولعلّ أشهى ذكرى تهش إليها نفسي هي أيام طفولتي الأولى بملجأ اللقطاء.. |
هارد موند: قل يا للمسكين. |
فكتور: وعندما بلغت الثانية عشر من العمر بدأت أشعر بشقاء الحياة ومرارتها فقد رأت إدارة المستشفى أن تعلمني صناعة فأسلمتني إلى صانع كراسي كان هو وزوجته مثالاً عجيباً للشح والتقتير بالإضافة إلى الوجه العبوس.. كانا في كل مرة يقدمان لي كسرة من الخبز لا تسمن ولا تغنى من جوع ثم يودعان الرغيف في صندوقهما بعد أن يحكما رتاجه.. |
هارد موند: يا لله أتوجد في الكون قلوب بهذه القسوة.. |
فكتور: وظللت على هذه الحال ثلاث سنوات لم أطعم فيها غذاء كاملاً ولم أشعر خلالها بلذة الشبع مرة واحدة.. آه يا سيدي لقد أدهشتك إنني تناولت كسرة من الخبز من بين الأوحال.. إذن فاعلم إنني طالما تعودت التقاط فتات الخبز الذي آكله من صندوق القمامات.. ولكن ظفرت بكسرة يابسة من الخبز فوضعتها في وعاء مملوء بالماء طول الليل ليسهل علي أن آكلها. |
هارد موند: يا ما تحملت من شقاء وتعرضت لآلام يا صديقي.. |
فكتور: ولما انتهت مدة دراستي ولم تكن صناعتي كافية لجلب القوت الضروري تركتها وعملت مع البنائين ثم عملت مساح أحذية ثم انقطعت عن العمل أحياناً.. وأنا في طول هذه الأعوام لا أكاد أظفر بما يكفيني من القوت. |
هارد موند: لقد قطعت نياط قلبي يا صديقي آلامك وأحزانك.. |
فكتور: وما كدت أصل الثامنة عشرة من عمري حتى سلكوني في عداد الجند وقد كانت هذه فرصة لي أن أشبع ولكن سوء حظي أبى علي أن تدوم هذه النعمة الطويلة.. فقد حوصر جيشنا وهزم وحلت بنا المجاعة كما ترني واضطررت إلى التقاط الخبز من الوحل مرة أخرى.. |
هارد موند: استمع إلي يا جان.. كن على ثقة إننا إذا عدنا من الحرب سالمين ولم تخترمنا المنون فسنلتقي معاً وسأغنيك بقية حياتك.. على أنني أستطيع أن أقاسمك من اليوم نصيبي من الخبز فإنهم يعطونني منه ضعف ما أنا في حاجة إليه.. وسنعيش معاً صديقين متعاهدين على الوفاء.. هات يدك يا صديقي.. |
الراوي: ثم صافحه هارد موند بحرارة.. وما كاد يجن الليل حتى أعياهما الجهد والقتال فذهبا إلى (القاووش) الكبير وناما على كومة من القش واستسلما لنوم عميق.. ولما انتصف الليل استيقظ جان فيكتور وحده وأغلب الظن أنه شعر بالجوع وكان الهواء قد بدد الغيوم وأرسل من الأفق شعاع القمر التي اخترق ثغرة كانت في سطح (القاووش) فأضاء وجه الدوق الفتى الجميل.. فظل جان فيكتور ينظر إلى رفيقه الكريم نظرات إعجاب وتقدير.. وإنه لكذلك.. إذ فتح الضابط الباب ليدعو الجنود الخمسة الذين حقت عليهم نوبة الحراسة في تلك الليلة وكان الدوق أحد هؤلاء الخمسة فلم يستيقظ عندما نطق الضابط باسمه فقال جان فكتور للضابط: |
فكتور: اسمح يا سيدي أن أحل مكانه وأن أقوم بواجبه في هذه الليلة.. فأنا صديقه ويسرني أن ينال قسطاً وافراً من النوم. |
الراوي: فلم ير الضابط بأساً في ذلك فأخذ جان فيكتور مع الجنود الخمسة المخصصين للحراسة في تلك الليلة.. ثم نام الباقون ومرت نصف ساعة.. فدوت طلقات النار دوياً شديداً على مسافة قريبة فاستيقظ الجنود النائمون وساروا حذرين متأهبين للقتال وقد وضعوا أصابعهم على محركات بنادقهم وسأل (هاردموند) رفاقه: |
هاردموند: كم الساعة الآن؟ لقد كانت نوبة الحراسة علي في هذه الليلة.. |
أحدهم: لقد تطوع جان فكتور بالنيابة عنك. |
الراوي: وما كاد يتم هذا كلامه حتى جاء جندي يعدوا عدواً شديداً ووقف أمام الجنود وهو يلهث من التعب فسأله هارد موند: |
هارد موند: ماذا حدث؟ ما هذه الطلقات التي سمعناها.. |
الجندي: أسرعوا بالفرار.. فقد هجم علينا العدو وليس أمامنا إلاّ أن نتقهقر بسرعة. |
هارد موند: ماذا حل بزملائنا الجنود الخمسة الذين أنيطت بهم الحراسة؟ |
الجندي: لقد نجوا جميعاً ما عدا فكتور. |
الراوي: فصرخ هاردموند مذعوراً وقال: |
هاردموند: وماذا حدث لفكتور؟ |
الجندي: اخترقت رصاصة العدو رأسه فخر صريعاً في الحال. |
الراوي: وحزن هاردموند على صديقه.. وخيم الصلح على ربوع فرنسا وعادت الأمور إلى مجراها الطبيعي.. وعاد هاردموند إلى سابق أيامه وحياته المترفة بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. وفي ليلة من ليالي الشتاء كان الدوق دي هاردموند خارجاً مع جاره الكونت (دي سولن) من أحد النوادي فقال له: |
الكونت: هل لك يا صديقي دي هاردموند أن نعود إلى منزلينا سائرين على الأقدام فإنني أشعر بحاجة إلى استنشاق الهواء. |
هاردموند: كما تريد يا عزيزي.. فالطريق معبدة وسهلة. |
الراوي: وبينما هما سائران انحنى الدوق دي هاردموند فجأة والتقط شيئاً من الطريق كان قد عثر به حذاؤه.. ولم يكن ذلك الشيء سوى كسرة من الخبز مغمورة في الأوحال.. ولشدة ما كانت دهشة الكونت حين رأى الدوق دي هاردموند ينظف كسرة الخبز بمنديله الثمين بعناية فائقة ثم يضعها على مقعد صخري في الطريق تحت مصباح الشارع لتكون ظاهرة للعيان.. وقد أغرق الكونت في الضحك وقال لصاحبه ساخراً: |
الكونت: هل جننت يا صاحبي... ماذا تصنع؟ |
الراوي: فأجابه الدوق دي هاردموند بصوت متهدج ظهرت عليه رنة الانفعال والتأثر: |
هاردموند: لقد ثارت بنفسي ذكرى رجل ضحى بنفسه من أجلي.. فحذار يا صديقي أن تضحك من فعلي لأنك بهذا تسيىء إلى تلك الذكرى المقدسة. |
|