الذبابة |
رائعتنا هذه الأمسية:
((
الذبابة
))
أو
((
القضاء والقدر
))
بقلم الروائي الأديب الإيطالي لويجي بيراندلو والفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1934 على هذه الرائعة. ولد لويجي بيراندلو عام 1867 وتوفي عام 1936 مشهور برواياته ومسرحياته.
|
الراوي: أخذ الشابان يتسلقان في خفة حافة الهضبة الموصلة للقرية وكانت شديدة الانحدار وما كادا يصلان قمتها حتى وجدا سرباً من الفتيات الفلاحات تجمعن حول البئر هناك.. وما أن رأيا الشابين حتى قالت إحداهما للأخرى: |
الفتاة (1): أظن أن الشابين هما الأخوان تور توريتش.. |
الفتاة (2): هما بعينهما: نلي، وساروتور توريتش.. |
الفتاة (1): ما هو يا ترى السبب الذي جعل هذين الأخوين يغذان السير إلى القرية بمثل هذه السرعة الجنونية.. |
الفتاة (2): سأسأله... |
نلي.. نلي.. ماذا أصابكما حتى تمشيان بهذه السرعة اليائسة |
نلي: الأمر يتعلق بابن عمنا ((لانو)).. |
الفتاة (1): من الذي اعتدى عليه؟ |
الراوي: وقبل أن يجيب على سؤالها كان أخوه ((سارو)) قد سحبه من يده ومضيا يغذان في سيرهما إلى طبيب القرية ((سيدرو)) وكان كهلاً أكلته السنون فسلما عليه.. فسألهما: |
الطبيب: ماذا تريدان؟ |
سارو: سيدي الدكتور.. إن المريض.. شاب مسكين هو ابن عمنا.. وقد بات قاب قوسين أو أدنى من الموت.. |
الطبيب: يا له من شاب محظوظ.. وهل قرعت الأجراس تنبىء بوفاته؟ |
سارو: كلا. إنه يعاني سكرات الموت.. وكان مرضه فجائياً وهو موجود في مزرعة ((مونتيلوزا)) مستلقياً في أحد الاسطبلات. |
الطبيب: يا إلهي.. مزرعة ((مونتيلوزا)) إنها تبعد سبعة أميال وطريقها وعر جداً.. |
سارو: نعم يا دكتور ولكني أرجوك أن تذهب معنا فقد تورّم جسم مريضنا وانتفخ وتغير لونه وأصبح أسود مرعباً كما لو كان قطعة (كبدة).. أرجوك بحق السماء.. |
الطبيب: (صارخاً) أو كيف يمكنني الذهاب مشياً في طريق وعر إنه لا بد من الحصول على بغل يحملني هيا احضر البغل هيا.. |
سارو: وأسرع سارو لإحضار البغل أما أخوه ((نلي)) فقال للدكتور: |
نلي: إلى أن يأتي أخي سأذهب فأحلق ذقني... اليوم هو الأحد يا سيدي وسأزف اليوم إلى الفتاة التي خطبتها.. |
الطبيب: إذن ستتزوج في هذا اليوم هيا أحلق وعد بسرعة.. |
الراوي: وكان (نلي) فتى جميل الصورة قوي البنية بارعاً في استعمال منجل الحصاد وفي الغناء وكانوا يطلقون عليه في القرية اسم ((الشاعر)) لمقدرته على ابتداع الأغاني وصوغها في الحال وكان مرحاً لا تفارق الابتسامة شفتيه.. وقص ((نلي)) على الحلاق حكاية مرض ابن عمه وكيف أن المرض فاجأه بينما كان نائماً في الإسطبل وأنه كان متفقاً معه على أن يتزوجا سوية في هذا اليوم وقد تأثر الحلاق من القصة حتى أنه جرح ((نلي)) في ذقنه ولكن الجرح كان بسيطاً ولم يجد نلي الوقت الكافي ليؤنب الحلاق في فعلته إذ ظهرت خطيبته ((لورا)) ومعها أمها وفتاة أخرى اسمها ((لوسيا)) هي خطيبة ((لانو)) المريض.. وما كادت ترى ((نلي)) حتى أجهشت في البكاء وهي تندب حظها العاثر ونلي يقول لها: |
نلي: لا تبكِ ((لوسيا)).. وليس من الضروري أن تذهبي لرؤية ((لانو)) فسآتيك به هذا المساء إلى القرية.. كوني مطمئنة.. |
لوسيا: شكراً.. شكراً.. |
الراوي: وجاء سارو ومعه البغل وركب الطبيب وانتهز ((نلي)) فرصة ركوب الطبيب فهتف في أذن خطيبته قائلاً: |
نلي: انتظري عودتي قبل حلول الليل فلدي أشياء كثيرة جميلة سأقولها لك.. |
لورا: سأنتظرك على أحر من الجمر - مع السلامة.. مع السلامة.. |
الراوي: وساروا وكانت الطريق وعرة جداً.. والجو شديد الحرارة وبعد مسيرة ساعتين وصلا إلى الإسطبل الذي كان ((لانو)) المريض يرقد فيه فوجدوا أن الورم قد ازداد حتى اختفت معالم وجه المريض وشفتاه أصبحت سوداء غليظة وكان النفس يتردد من بينها في شهقات تشبه الشخير الغاضب ووقفا الثلاثة أمام الإسطبل وكأنهم يخشون الدخول وأخيراً تجرأ سارو فقال: |
سارو: لانو.. ها قد أتيتك بالطبيب.. أنظر.. أنظر.. |
الراوي: وجرت محاولات لإيقاظ ((لانو)).. فتوقف عن اللهاث وانفرج جفناه قليلاً فبدت عيناه حمراوين تحيط بهما دوائر سوداء يكاد الخوف يطل منهما ثم فتح فمه الكبير وأطلق أنة بصوت خفت قبل أن يخرج من حلقه وقال: |
لانو: إنني احتضر.. أح.. تضر.. |
سارو: كلا.. كلا.. فها هو ذا الطبيب قد قدم ليراك وقد أحضرناه خصيصاً لمعالجتك.. فهل تراه..؟ |
لانو: خذ.. وني.. إلى.. القر.. ية.. |
الراوي: وأسرع نلي إليه وانحنى عليه وهو يقول: |
نلي: أستطيع أن أحملك بين ذراعي يا لانو فلا تفقد شجاعتك لأنك ستشفى وتعود صحيحاً كما كنت... |
الراوي: ولما سمع ((لانو)) صوت ((نلي)) استدار ببطء حتى واجهه وراح يحدق فيه بعينيه الحمراوين المنتفختين وبدا عليه كأنه لم يتعرف عليه في البداية ومد يديه وأمسك بحزام الحرير المخملي الأحمر الذي كان يتحزم به ابن عمه ((نلي)) وقال: |
لانو: هالو.. أهذا.. أنت.. أيها.. العجوز..؟ |
نلي: نعم.. إنني نلي.. فلتكن منشرح الصدر.. ولا تبك فالأمر جد بسيط ليس فيه ما يزعجك كثيراً فإنك ستشفى دون ريب.. |
الراوي: ووضع ((نلي)) يده فوق صدر المريض الذي كان يتنهد في حركات تشنجيه.. فهز ((لانو)) رأسه في غضب ثم مد يده فأمسك بعنق ((نلي)) وجذبه إليه وقال: |
لانو: لقد.. كنا.. سنتزوج معاً هذا اليوم.. |
نلي: ونعم وسنتزوج دون شك اليوم.. |
الراوي: ثم أفلت ((نلي)) رقبته من قبضة المريض. أما الطبيب فقد ظل طيلة الوقت يرمق المريض ويدرس حالته بعناية فقد كان المرض واضحاً لديه.. إنه مرض السَّقاوة الذي تنقله بعض ذبابات الاسطبلات وأخيراً سأل الطبيب المريض: |
الطبيب: هل تذكر أنه قد عضتك إحدى الحشرات أمس أو قبل أمس واليوم مثلاً.؟ |
الراوي: وهز ((لانو)) رأسه بالنفي بينما قال ابن عمه سارو في دهشة: |
سارو: حشرات.. حشرات؟ |
الطبيب: نعم إن بعض الحيوانات المصابة بمرض السقاوة لا بد أنها ماتت من جراء هذا المرض وألقيت جيفتها في مكان قريب أو في حفرة حيث تجمعت عليها أعداد كبيرة من الذباب ويظهر أن واحدة من هذا النوع جاءت إلى الإسطبل حيث وقعت على ((لانو)) وهو نائم فنقلت إليه هذا المرض المعدي.. |
الراوي: وبينما كان الطبيب يتكلم ((استدار))
((لانو)) بوجهه إلى الحائط.. فرأى ذبابة على الحائط المجاور كان يبدو أنها ساكنة تماماً ولكنك لو نظرت إليها في إمعان لوجدتها تمد أحياناً خرطومها الصغير تمتص به وتمتص وأحياناً تراها تنظف يديها الأماميتين فتمسحهما معاً في اغتباط ظاهر.. وتذكر ((لانو)) بعدما سمع كلام الطبيب ورأى الذبابة إنه عانى كثيراً من جراء ذبابة كانت تحوم حوله طيلة - الوقت عندما كان يحاول النوم في الإسطبل فهل هي يا ترى تلك الذبابة بعينها؟ وتابع المريض الذبابة بناظريه فرآها تطير ثم تحط على خد ((نلي)) ثم تمشي من الخد نحو الدقن وتستقر على الجرح الذي تركه موسى الحلاق في ذلك الصباح وراحت تمتص في نهم.. فقال بلهجة بدت وكأنها صادرة من القبر.. |
لانو: ذبابة.. ذبابة.. هل.. فعلت ذبابة واحدة كل.. هذا..؟ |
الراوي: ثم توقف المريض عن الكلام ومضى يراقب الذبابة التي لم يقم ((نلي)) بأي مجهود بطردها عن وجهه كان مستغرقاً في التفكير فيما يقوله الطبيب.. بينما كان ((لانو)) يشعر باغتباط حين رأى ابن عمه ((نلي)) مصغياً بكلتيه إلى ما يقوله الطبيب من دون أن يلقي بالاً للذبابة التي تمتص جرح وجهه في نهم، وفكر ((لانو)) في أن نلي ((ولورا)) سيتزوجان.. وتحركت فيه مشاعر الحسد والحقد لرؤية مظاهر الصحة وعافية الشباب تتألق في وجه ابن عمه ((نلي)).. تلك العافية.. تلك الحياة التي سيغادرها هو فجأة ولم يزل في ريعان شبابه. |
ومضى بعض الوقت قبل أن يشعر ((نلي)) بأن شيئاً يعضه فرفع يده وكش الذبابة عن وجهه ثم راح يعصر جرح ذقنه وتطلع إلى ((لانو)) فرآه يحدق النظر إليه وقد علت وجهه المشرف على الموت ابتسامة وحشية ثم التقت نظراتهما برهة قصيرة فقال ((لانو)).. |
لانو: الذبابة.. الذ..با..بة.. |
نلي: ماذا تقول؟ |
لانو: الذ..با..بة.. الذ..با.. بة.. |
نلي: (في رعب) أي ذبابة.. وأين..؟ |
الراوي: وضحك ((لانو)) في فتور واستهزاء مخيفين ثم قال: |
لانو: كانت.. هناك.. حيث.. تمسح.. ذقنك.. وإنني.. واثق.. إنها.. هي تلك.. الذ..با.. لله بعينيها.. |
الراوي: وأشار ((نلي)) إلى الجرح في ذقنه وقال للطبيب: |
نلي: إن الجرح يؤلمني يا دكتور.. فما الذي جرى؟ |
الراوي: وأخذ الطبيب ((نلي)) إلى خارج الإسطبل لكي يتسنى له رؤية الجرح بوضوح وتبعه سارو.. وبقي ((لانو)) المريض ينتظر في قلق بينما كان جسده يتشنج بأجمعه ثم سمع أصواتاً تتردد في الخارج ورأى ((سارو)) يدخل الإسطبل فجأه ومن دون أن يلقي نظرة واحدة على المريض فك البغل من رباطه واندفع به إلى الخارج وهو يقول في ألم: |
سارو: يا إلهي.. نلي.. أخي.. نلي.. أخي المسكين.. رحماك يا رباه.. |
الراوي: وأدرك.. ((لانو)) أن ((نلي)) قد أصابته العدوى وأنهم تركوه وحده ليموت في الإسطبل كالكلب الشارد فحاول أن يرفع نفسه قليلاً متكئاً على كوعيه ثم نادى: |
لانو: سارو.. سارو.. |
الراوي: ولم يكن هناك من مجيب فتهافت المريض على الأرض وأخفى وجهه بين القش لكيلا يدرك مدى الصمت المخيف الذي ران على المكان.. وطافت في ذهنه فجأة شكوك بأن كل ما جرى لم يكن سوى كابوس مزعج بسبب الحمى الفظيعة التي تملكته.. ثم استدار مرة أخرى نحو الحائط فرأى الذبابة في نفس المكان الذي شاهدها فيه لأول مرة تمد أحياناً خرطومها الصغير لتمتص وأحياناً تنظف يديها الأماميتين فتمسحهما معاً في اغتباط فأدرك أن ما جرى حقيقة لا حلماً أو خيالاً.. |
|