مأساة البحر |
قصتنا هذه الأمسية: الرائعة الأسبانية المشهورة
((
مأساة البحر
))
للكاتب السياسي والقاص الإسباني الكبير
((
بلاسكو أيمانيز فيسنت
))
. ولد بلاسكو أيمانيز في مدينة بلنسية في شهر يناير من عام 1897 وتوفي في 28 يناير 1928، لم تشغله حياته السياسية ولا أهوال المنفى والتشرد الذي تعرض له عن نظم الشعر وبالتالي الانصراف بكليته للقصة فقد وضع أكثر من عشرين رواية وقصة قصيرة. ورائعة هذه الليلة مأساة البحر تكاد تكون من أحسن ما كتب.
|
الراوي: كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وكان السكون الشامل يغمر تلك المنطقة عندما سمعت دقات خفيفة على باب الكوخ أعقبها نداء صوت عالي شأن من يحاول أن يوقظ نائماً: |
الصياد: أنطون.. أنطون.. حان الموعد.. قم.. الصيادون سارعوا إلى البحر.. |
أنطون: أنا قادم.. انتظر.. انتظر.. |
الراوي: لم يكن ((أنطون)) قد أخذ كفايته من النوم فقد ظل ساهراً يستمع إلى زوجه ((روفينا)) تجأر بالشكوى من تلك الحال السيئة التي آلت حياتهم البيتية إليها.. كانت معيشتهم في العام المنصرم على كثير من الهدوء، وبعض من السعادة.. فقد كان البحر قليل الاضطراب مليئاً بالسمك وكان الصيادون يرجعون آخر اليوم وقد امتلأت مكاتلهم بالسمك. ولقلة عددهم كان مصير الواحد منهم يملأ جيوبه بالنقود. أما في هذا العام فقد تغيرت الحال كثيراً وليس السبب في ذلك كثرة عدد الصيادين فحسب بل أن السمك - على ما يظهر - قد حوّل طريقه إلى منطقة أخرى، واتجه وجهة منارة، فأصبح لا يمكن صياداً منه. |
وكانت ((روفينا)) تتحدث بقلب موجع حينما أخذت تعدد ما تجمع عليهم من دين للخباز والطحان والقصاب، والبدال، ولذلك اليهودي القذر ((كوهين)) صاحب قوارب الصيد الذي أضحى يملك ثلثي أراضي البلدة الزراعية ومنازلها برباه الفاحش. |
وعندما هب ((أنطون)) من نومه وشرع يرتدي ملابسه أيقظ ابنه الصغير الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره والذي كان يرافقه دائماً ويشاركه في عمله كرجل.. وأحست ((روفينا)) بزوجها يوقظ ابنها فقالت: |
روفينا: أرجو أن يبتسم لكما الحظ هذا اليوم، فقد طال عبوسه.. أما حكما في المطابخ شيء من الخبز (الحاف) استخلصته من الخباز بعد شجار عنيف وإلحاح قاتل، وقد توعدنا هو الآخر.. فإن دينه عندنا قد تضخم إلى حد كبير.. يا لصيد السمك من مهنة حقيرة.. |
أنطون: وماذا نملك يا ((روفينا)) أمام حكم القدر.. لسنا ندري ولا يزعم أحد أنه يدري ماذا قسم الله له في يومه.. لقد سمعت من الذين عادوا من الشاطىء متأخرين ليلة أمس أن نوعاً كبيراً من السمك قد ظهر بكثرة قريباً من الساحل.. وأن أصغر سمكة منه لا تقل قيمتها عن جنيهين.. |
وإني أسأل الله أن يكتب لنا التوفيق في هذا اليوم فيجعل من نصيبنا واحدة منه نفرج بثمنها كربنا ونسدد بعض ديننا.. |
الراوي: وحمل ابن ((أنطون)) حقيبة الخبز وطعام السمك على ظهره وأمسك بيده الشباك واتخذا طريقهما إلى البحر يرافقهما ذلك الصياد بكر لإيقاظهما.. وأسرع الثلاثة إلى قاربهم وأصلحوا شراعه، وأقلعوا به إلى داخل البحر.. وكانت الرياح تعبث بالشراع وتدفعه بقوة فينساب القارب تحته بسرعة بالغة.. بينما كانت الأمواج تتلاطم بشدة وتحدث دوياً مزعجاً يضيف إلى ظلمة الليل وسكونه وحشة ورهبة ولولا الأنوار التي تنبعث من بعض المنازل الواقعة على الشاطىء فتنعكس على الماء وتلوح على ضوئها أشرعة القوارب كأنها أطيار بيضاء تحلق في الجو ما استطاع صيَّاد أن يخاطر بحياته ويخرج في مثل تلك الظلمة الحالكة. |
واشتد تلاطم الأمواج وزفير الريح وقال رفيقه الصياد: |
الصياد: يلوح لي من منظر الجو يا ((أنطون)) أن الريح ستصير عواصف. |
أنطون: نعم أن ذلك يتراءى لي أنا الآخر.. |
الصياد: سيضطرب البحر اليوم إذن ويشتد هياجه. |
أنطون: ليس في ذلك بأس، وإنما علينا أن نتقدم عن الصيادين ونمضي في البعد إلى الداخل، فخير لنا وأجدى ألا يعلم إنسان ماذا كان حظنا في الصيد حتى لا يشمت بنا أو يحسدنا أحد. |
الراوي: وأوغلوا في جوف البحر وكان لسان الصبح قد امتد إلى صفحة الكون يمحو مدار الظلام.. ولما أوشك أن يأتي عليها اصطبغ بحمرة تقدمت موكب الشمس الذي أخذ يدنو رويداً رويداً في الأرجاء ويبدد ما تخلف من ظلمات في أطراف السماء.. |
كانت الشباك الملقاة في البحر لا تأتي إلا بأسماك صغيرة وكانت الساعات تنقضي سراعاً والحال لما يتبدل.. وكان قارب ((أنطون)) ورفيقه يتقدم في سرعة ملموسة إلى داخل البحر حتى انطمس أثر الشاطىء عن عيونهم وتراءت لهم القوارب الأخرى - من بعيد. وكأنها أسماك تسبح فوق سطح الماء.. وحينئذ قال الصياد لأنطون: |
الصياد: من الخير أن نرجع فأكبر الظن أن السمك لن يظهر بعد، ومن الحمق والجنون أن نتوغل إلى أبعد من هذا والموج مرتفع والبحر على وشك الاضطراب. |
أنطون: خير لنا من كلامك أن نستمتع بنصيب من الطعام.. هات يا بني غداءنا ولندع للسمك مطلق الحرية في اختيار الوقت الذي يظهر فيه فلن تقنع إلا بملء قاربنا منه. |
الراوي: وأخرج الغلام الخبز.. وأمسك ((أنطون)) بالمدية وقسمه أقساماً متناسبة وناول كل واحد نصيبه وأعطاه بصلة ثم وضع كل منهم بصلته على حافة القارب وأهوى بقبضته عليها فتكسرت وبينما كان الغلام يعالج كسر بصلته - وأبوه وزميله يشرعان في تناول الأكل - إذا به يصيح بصوت عالٍ قائلاً: |
الغلام: والدي: والدي.. سمك.. سمك.. كبير.. كبير.. جداً. |
الراوي: نعم: كان هناك سمك كبير يظهر تارة ويختفي أخرى، يضرب الماء بذيله ضربات قوية وهو يدور حول القارب من ناحية إلى ناحية وقد أعجب ((أنطون)) هذا المنظر وتضاعف سروره به فلم يضع الوقت سدى وجهز الشباك بالغداء المغري للسمك ثم ألقى بها في البحر فاضطرب الماء واهتز القارب وخيل إليه أن قوة جبارة تجذب بهم بالقارب صوب قاع البحر مما حمل الصيادين على جذب الحبل بقوة فانقطع في أيديهم بالرغم من غلظه ومتانة نسيجه. وأسف زميل ((أنطون)) لما حدث وفرك إحدى يديه بالأخرى وقال: |
الصياد: إن هذا الحيوان قوي جداً يا ((أنطون)) ومن الأفضل أن نخلي سبيله بعد أن نجانا الله منه فقد كاد يجرنا إلى أعماق البحر.. |
أنطون: نخلي سبيله؟ أنك لا تدري كم يبلغ ثمنه.. سنسعى لاصطياده مهما لاقينا من عنف ومشقة.. |
الراوي: ووجه ((أنطون)) القارب إلى ناحية السمك فأخرج شباكاً جديدة وجهزها بالغذاء الكافي ثم ألقى بها في صوت الواثق من نجاح عمله. وأخذ الحبل ينجذب نحو الماء رويداً رويداً، ثم اشتد الجذب وأخذ القارب الصغير يتمايل ويتأرجح مع الحبل بمن فيه ثم انجذب فجأة بقوة، فاضطرب القارب، وشرع يهتز في عنف وقوة، وقَبْل أن يعد الصيادون للأمر عدته فوجئوا بانقلاب القارب في ناحية السمك وما هي إلا ثواني معدودة حتى اعتدل القارب بعد أن أغترف من الماء ما ملأه إلى نصفه، وكاد ((أنطون)) يذهب مع الموج طعمة للأسماك.. وانقطع حبل الشباك مرة أخرى ولكن لاحت لهم سمكة كبيرة طافية على سطح الماء كأنها قارب يوشك أن يغرق فنزع ((أنطون)) المدية من خاصرته وطعن بها السمكة عدة طعنات في حنق وغيظ ثم جذبها ووضعها في القارب بعد أن أفرغه من الماء واصطبغت جوانبه وصفحة الماء من حوليه بالدماء التي تفجرت غزيرة من طعنات السمك بالسكين. ولما انتهى ((أنطون)) من هذا العمل فاض وجهه بشراً وسروراً ورمى القارب بنظرة فاحصة فرأى زميله واقفاً وقد تسمر في مكانه وعلت وجهه صفرة الأموات وهو يقول بصوت ضعيف: |
الصياد: لقد شربت مقداراً من ماء البحر وأكاد أفقد كل أمل لي في الحياة.. |
أنطون: لا عليك من بأس.. أين الولد.. أين الولد؟ إني لا أراه. لقد كان هنا منذ قليل. الولد.. إنه لا يظهر على القارب.. إني لم أراه منذ نشبت المعركة بيننا وبين السمكة، وكدنا نهوي إلى القاع. |
الراوي: وفتش ((أنطون)) في جوف القارب من جميع أركانه ولما لم يعثر لابنه على أثر، أقترب من زميله وجذبه من طوقه بقوة وقال له في صوت أشبه بضجيج الأفعى: |
أنطون: ابني.. حياتي.. روحي.. |
الراوي: وهز رفيقه رأسه في أسى وحسرة، وأيقن ((أنطون)) أن ابنه قد سقط ولا شك في قاع البحر حيث لا نجاة ولا خلاص. ولاح لهما عن بعد شيء يطفو على سطح الماء فاعتقد ((أنطون)) أن ابنه يصارع الأمواج ويغالب الموت.. وانطلق إليه انطلاق السهم إلى الرمية.. وأخذ يدافع المياه المضطربة بقوة جبارة بينما اشتغل زميله بإصلاح الشراع وتحويل القارب إلى الناحية التي سبح نحوها وجعل كل منهما يجد فيما هو فيه إلى أن وصل ((أنطون)) أخيراً - بعد تعب وجهد. إلى الشيء الذي يطفو فإذا به قطعة من خشب مجداف مكسور تعبث به الأمواج. ولا تسل عن ((أنطون)) وحزنه وأخذ ((أنطون)) يطفو سابحاً في أرجاء المنطقة التي طاردوا فيها السمك وهو يتحسس بيديه ورجليه تحت سطح الماء عساه يلمس إحدى يدي ابنه أو رجليه الناعمتين ولكن هذا العمل لم يجده نفعاً فأصر على البقاء في الماء إلى أن يجد ابنه أو يهلك دون ذلك ولاحقه زميله الصياد وأخذ يتوسل إليه ألا يدع سلطان الحزن يسيطر على قلبه وطفق يذكره بمصرع آبائهم وأجدادهم الصيادين الذين تقرر مصيرهم في هذا البحر وما زال به حتى لان جانبه وأخذه بيده وهيأ له مكاناً فوق السمك الذي ازدحم به جوف القارب وأنساب القارب إلى الشاطىء في سرعة وأخذت القرية تلوح من بعد بمنازلها البيضاء.. وقد حرّك شيخ القرية أشجان ((أنطون)) فجعل يتأوه في جزع ويقول: |
أنطون: كيف تتلقى ((روغينا)) المسكينة ذلك النبأ الأليم؟ ماذا ستقول تلك الأم الثكلى؟ يا لها من منكودة سيئة الطالع؟ ماذا أصنع عندما أقابلها وليس معي وحيدها.. وماذا أجيبها عندما تسألني عن ابنها؟ لا أستطيع أن أتصور كيف أقابلها؟ |
الراوي: وجعل أنطون يكرر هذه العبارة الأخيرة في حركات هسترية بينما كانت أنغام ((الفالس)) تنبعث من حدائق القصور المطلة على البحر ومن ((شاليهات)) المصطافين المنتشرين على الشاطىء يتذوقون أقاويل السعادة تحت النخيل على الساحل وفي جوف المظلات الحريرية والتبلية المتناثرة هنا وهناك والكل في شغل بأنفسهم لا يحسون بمن حولهم من الصيادين الذين تذوب نفوسهم مرارة وأسى سعياً وراء شظف العيش وكفاف الرزق. |
وتجمع الصيادون على الشاطىء ينتظرون في لهفة ذلك القارب الذي توغل داخل البحر بقيادة ((أنطون)) ليقفوا على مقدار الغنيمة، ولكن ((أنطون)) لم يحس بهم بل كان بصره عالقاً بسيدة سمراء طويلة وقفت بجوار حجر قريب من الماء ونظرها لا يتحول عن قاربهم وهو يدنو من الشاطىء. إنها ((روفينا)) تنتظر عودة ابنها وزوجها. ورسا القارب وهرع الصيادون إليه ليروا مقدار ما حمل من السمك وأخذوا يتطلعون إليه بعين ملؤها الحقد والحسد يتغامسون في الماء حول القارب ليلمسوا بأيديهم ذيل السمكة الذي لم تسبق لهم رؤية مثله.. |
واقتربت ((روفينا)) من القارب.. وتلفتت يمنة ويسرة وأمعنت النظر فلما لم تر ابنها ارتاعت وصاحت قائلة: |
روفينا: أين الولد يا ((أنطون)) أين ابننا الوحيد؟ لم أره معك؟ أجبني أين هو؟ |
الراوي: وأنفجر ((أنطون)) باكياً.. ولم يستطع أن ينظر إليها حتى خيل بمن يراه أنه يفضل لو أن البحر ابتلعه هو أيضاً ولا يرى نظرة ((روفينا)) الخائرة ولهفتها الجارفة.. وعاودت ((روفينا)). سؤالها في مزيد من اللوعة: |
روفينا: كيف سولت لك نفسك أن تعود بدونه إن حياً وإن ميتاً؟ ألا تسمع؟ قل لي أين تركت الولد؟ |
الراوي: ولما أحست ((روفينا)) بالنهاية التي صار إليها ابنها، رفعت يديها إلى السماء وصرخت صرخة عالية مدوية روعت جميع الواقفين وقالت: |
روفينا: إبني غرق.. وحيدي.. حبيبي.. ألهمني الصبر يا رب الصبر.. الصبر.. يا إلهي.. |
أنطون: نعم يا ((روفينا)) لقد غرق وحيدنا إنه الآن يرقد حيث رقد آباؤنا وأجدادنا من قبل وسنرقد نحن حيث رقد هو.. البحر.. البحر.. يا ((روفينا)) فيه تربينا ومن خيراته نسترزق.. وفي قاعته أخيراً نثوى.. ومن ذا يستطيع يا زوجتي أن يدفع القضاء أو يغلب القدر.. |
الراوي: بينما كان الصيادون ونساؤهم منصرفين إلى مواساة ((أنطون)) وزوجته ((وقف إلى جوارهم قريباً منهم زميله في تلك الرحلة يتحدث - إلى الصبيان، ومن قست قلوبهم من زملائهم الصيادين - في نشوة من الفرح والسرور عن الغنيمة التي وقعت في شباكهم وحسب بالأرقام - كأن لم يكن في الأمر شيء غير عادي مقدار ما سيعود عليه من الربح في هذا الصيد الثمين، وصوت ((روفينا)) المسكينة كان لا يزال صداه يقرع الأسماع ويذيب أقسى القلوب. والمصطافون على الشاطىء، وبعيد عن المرسى ينعمون بألوان النعيم كأنهم لم يروا ولم يسمعوا أن مأساة وقعت بين سمعهم وأبصارهم، فقوضت أركان كوخ وحطمت قلوب أسرة فقد كانت نغمات (الفالس) توزع السرور هنا وهناك تنقسم بين أسماعهم وبين صراخ ((روفينا)) عجاباً وألماً، وكانت أشعة الشمس الحمراء تصافح صفحة الماء التي طلت على مسرحية تلك المأساة.. |
|