شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الدخلاء
للأديب القاص المعروف هكتور هيو مترو الملقب (( بالساقي )) ولد مترو في أكياب ببورما عام 1870م وقضى شطراً من عمره هناك وأحب الشرق وأتقن الشعر الفارسي وخاصة رباعيات عمر الخيام فسمى نفسه (( ساقي )) أي ساقي الخيام وقد عرف بهذا اللقب أكثر من اسمه الحقيقي وتوفي عام 1916م.
المذيع: ألف عدة روايات وقصص ولعلّ قصتنا الليلة ((الدخلاء)) في مقدمتها وقد اقتضت مسرحية هذه القصة إلى إدخال بعض التعديلات والإضافات عليها.
الراوي: في ليلة من ليالي الشتاء جمع ((الريش فون جردفتز)) رجاله وقال لهم.
الريش: هيا بنا أيها الرجال إلى الغاة.. إن ((جورج زنابيم)) ما يزال.. كما كان آباؤه من قبل يسطو على صعيد الغابة وأخشابها ومنتوجاتها.
أحد الرجال: غريب أمر هذا الرجل إنه لم يرض قط بقرار المحكمة.. إنه ينتهك حرمة القانون.. إنه يشتري عداوة وبغضاً..
أحد الرجال: لقد ورث هذه الكراهية من آبائه وأجداده الذين انتزعت منهم هذه الغابة وما حولها من أراضي بحكم القانون بعد دعاوى ومنازعات وأنفس قدمت ضحايا على مذبح هذه المنازعات أليس كذلك يا الريش؟
الريش: أجل.. أجل.. وسيكون ((جورج زناييم)) آخر ضحية لهذه الخصومات.. هيا بنا.. هيا..
ربة البيت: هر الريش.. هر الريش..
الريش: ما بك يا (هاوزن).
هاوزن: أأنت أذنت لراندولف وشقيقته ((هايدا)) بالذهاب لحضور عرس آل قومبرج في القرية المجاورة..
الريش: نعم وقد كلفت الحارس ((فوختر)) بمرافقتهما... هيا بنا يا رفاق هيا..
الراوي: ووصل الجميع إلى الغابة التي يملكها ((الريش)) وكانت واسعة فسيحة الأرجاء.. وقد وضع ((الريش)) رجاله في كمين على قصة التل ودلف هو وحيداً إلى المنحدرات الزلقة التي تكتنفها الأشجار المشتبكة وهو يرقب من بين جذوع الأشجار، وينصت وسط صرير الريح في الأغصان المرتعشة لعلّ سمعه أو بصره يقع على قطاع الطريق.. وكانت أمنية وحيدة تسيطر على أفكاره تلك هي لو أنه في هذا المكان المظلم المنعزل يلقى ((جورج زناييم)) وجهاً لوجه بغير شاهد أو رقيب وبينما كان ((الريش)) حول جذع شجرة ضخمة إذ به وجهاً لوجه أمام الرجل الذي يبحث عنه.
وقف الخصمان يحدق كل منهما في الآخر فترة طويلة في صمت - وكان كلاهما يحمل غدره في يده وحقده في قلبه ونية القتل تسيطر على أفكاره وقبل أن تنتهي لحظة الصمت إلى عمل وحركة، حدث عن حركات الطبيعة ما أنزعهما معاً وعدد كيانهما.. فقد صرخت العاصفة صرخة مدوية أعقبها صوت تحطيم عنيف فوق رأسيهما وقبل أن يتمكنا من القفز بعيداً عن مركز الخطر كانت كتلة ضخمة من الشجرة المحطمة قد هوت عليهما هادرة كالرعد ووجد ((الريش)) نفسه ممدداً على الأرض وقد خدرت تحته إحدى ذراعيه بينما اشتبكت الأخرى في فرع متشابك الأغصان عاجزة عن التخلص.. وقد أنقذه حذاء السيد الثقيل من تحطيم قدميه ولكن مهما خفت إصابته عما كان يتوقع فإنه لا شك عاجز عن الحركة في موقعه الراهن حتى يحضر أحد لنجدته. وكانت الأغصان في أثناء سقوطها قد سلخت جلد وجهه، فاحتاج أن ينفض عن جفنيه بضع قطرات من الدم حتى يستطيع أن يدرك ما حوله من الأحداث.
وكان ((جورج زناييم)) على مقربة منه بحيث لو شاء - في الأحوال العادية - لاستطاع أن يلمس جسمه المضطرب الذي يصارع الأغصان الملتفة حوله - ولكنه كان مثل ((الريش)) عاجزاً عن تخليص نفسه فقد تراكمت حولهما الأغصان المحملة والجذوع المتناثرة وقد سرّ ((الريش)) أنه لم يزل حياً بينما آثر في نفسه منظر غريمه شهوة التحرش فجرى على لسانه خليط عجيب من الشكر لله واللعنات لعدوه.
أما ((جورج زناييم)) الذي كاد يعميه الدم النازف من جفنيه فقد وقف عن الصراع لحظة يستمع إلى ((الريش)) ثم ضحك ضحكة قصيرة عالية وصاح..
جورج: أنت إذن لم تمت كما كنت تستحق ولكنك حريص على أي حال ومقيد بشدة.. يا لها من نكتة بارعة.. ((الريش فون جردفتز)) يقع في حبايل الشرك في داخل غابته المسروقة.. ذلك قضاء عادل..
الراوي: وضحك جورج مرة أخرى ضحكة وحشية ساخرة فأجابه ((الريش)).
الريش: إنني مقيد في غابتي الخاصة... وعندما يحضر رجالي لفك قيودي فربما تمنيت أنك كنت في وضع أفضل من ضبطك وأنت تسرق من أرض جارك... يا للعار..
جورج: أأنت على يقين من أن رجالك سيجدون فيك ما تفك قيوده أن لي رجالاً في الغابة أيضاً وهم ورائي على مقربة مني وسيجيئون أولاً فيخلصونني.. وإذ ذاك لن يجدوا جهداً كبيراً في إلقاء ذلك الحطام المتناثر على رأسك حتى إذا جاء رجالك وجدوك ميتاً تحت شجرة هاوية وسأرسل من باب ((الشكليات)) تعزية لأسرتك... ها... ها.. ها..
الريش: فكرة مفيدة أن لدى رجالي أوامر بأن يتبعوني.. فإذا جاءوا وأخرجوني من تحت الأنقاض فسأتذكر فكرتك.. ولكن - نظراً لأنك لقيت حتفك وأنت تسرق في أرضي فلا أجد من الصواب أن أرسل أي تعزية إلى أهلك...
الراوي: فصاح ((جورج)) محتداً قائلاً:
جورج: حسناً.. حسناً.. إننا نقتتل في معركتنا تلك حتى الموت أنا وأنت ورجالنا دون أن يدخل بيننا الدخلاء. لك الموت وعليك اللعنة يا ((الريش)).
الريش: وعليك مثل ذلك يا ((جورج زناييم)) يا سارق الصيد ومقتحم الغابات.
الراوي: كان كل منهما يتكلم بمرارة من يتوقع الهزيمة فقد كان كلاهما يعلم أن رجاله ربما ابطئوا في تفقده وكان سبق أي فريق للآخر مسألة متروكة للصدفة وحدها. وقد كف كلاهما عن محاولة التخلص من ركام الأنقاض التي طرحتهما على الأرض فقد كانت محاولة عقيمة واكتفى ((الريش)) بمعاونة تقريب ذراعه الخدرة من جيب سترته الخارجي ليخرج منه زجاجة الماء وبعد جهد جهيد أخرجها وأفرغ جرعة منها في حلقه وبعد أن أرتوى نظر بشيء يشبه العطف إلى عدوه الملقى على الأرض وسأله فجأة:
الريش: جورج، أتراك تستطيع أن تصل إلى هذه الزجاجة لو ألقيتها إليك.. فأشرب ولو كان مقدوراً على أحدنا أن يموت الليلة..
جورج: لا ((لا أستطيع أن أرى شيئاً.. فالدم قد جمد على عيني.. ثم إني لا أشرب بحال من الأحوال من يد عدو لي.
الراوي: فصمت ((الريش)) بضع دقائق وأخذ ينصت ساكناً لأنَّاث الرياح الثقيلة، لقد كانت في رأسه فكرة تنمو في بطء وتزداد قوة كلما نظر إلى الرجل الذي يصارع الألم والجهد بهذا العنف وأحس ((الريش)) وسط آلامه وشعوره بضعفه أن البغضاء القديمة قد بدأت تهبط وتموت فنادى رفيقه قائلاً:
الريش: يا أيها الجار.. اصنع ما بدا لك إذا حضر رجالك أولاً. لقد كانت المعركة عادلة أما عن نفسي فقد غيرت رأيي. فإذا جاء رجالي أولاً فستكون أنت أول من تفك قيوده كأنك ضيفي لقد تصارعنا حياتنا كلها كالشياطين حول هذه القطعة من الغابة التي لا تستطيع حتى أشجارها أن تثبت في ليلة عاصفة وقد رأيت - أثناء تفكيري وأنا ملقى هنا الليلة إننا كنا في ذلك مقفلين. ففي الحياة ما هو أجمل من التقلب في معركة على قطعة أرض. يا أيها الجار إذا ساعدتني في دفن الأحقاد القديمة فإني... إني أسألك أن تكون لي صديقاً.
الراوي: ظل ((جورج زناييم)) صامتاً لحظة طويلة حتى خيل ((لألريش)) أنه ربما فقد وعيه من شدة الألم والجراح ولكنه تحدث أخيراً في بطء حديثاً متقطعاً قال:
جورج: تصوركم سيدهش الناس إذا ركبنا معاً إلى السوق.. ما من حي واحد يذكر أنه رأى أحداً من عائلتي أو عائلتك يحادث الآخر حديث صداقة.. ما أروع السلام الذي سيمتد رواقه على سكان هذه الغابة لو أننا تخلصنا الليلة من أحقادنا.. وإذا رأينا نحن أن نقيم السلام بين أسرتينا فليس هنالك من يتدخل في قرارنا هذا... ليس هناك دخلاء من الخارج ليس هناك في هذه البقعة من يستطيع أن يضعنا من إقامة السلام إذا رغبنا في إقامته.. إنني ما فكرت يوماً في أن أحس نحوك إلا البغضاء والحقد طوال حياتي.. ولكني أعتقد أنني أنا أيضاً قد غيرت رأيي في المسألة في نصف الساعة الأخيرة.. (الريش فون جردفتز) سأكون صديقك..
الراوي: وفي الوقت الذي كان فيه الرجلان العدوان سابقاً الصديقان حالياً يديران في رأسيهما التشاورات العجيبة التي سيؤدي إليها هذا الصلح كان ((راندودلف)) وشقيقته ((هايدا)) ومعهما الحارس في طويل عودتهم إلى منزل ((الريش)) إذا برجلين ملثمين يعترضانهم ويشهران في وجوههم مسدسين وأحدهما يقول:
الملثم (1): قفوا.. أي حركة تبدو منكم تقابل بالنار.. هاتوا ما لديكم من نقود وملابس.. أنزلوا عن ظهر الخيل.
الراوي: وأقترب أحد الملثمين منهم شاهراً مسدسه وما كاد يدنو من الحارس ((فوختر)) حتى انقضَّ عليه هذا وأمسك بيده فعاجله الملثم الثاني بطلقة أردته قتيلاً. ومد ((راندولف)) يده إلى مسدسه فعاجله الملثم بطلقة أصابت يده فوقع على الأرض وانكفأت أخته ((هايدا)) عليه وهي تصرخ..
هايدا: قتلتموه.. يا ويلكم أيها الأنذال.. سيعرف أبي ((الريش)) كيف ينتقم لابنه وحارسه.. أقتلوني معهم.. عجلوا أيها الجبناء.. عجلوا..
الملثم (1): خذ السلاح من الرجلين وما لديهما من نقود وأشياء ثمينة أما أنا فسأتولى أمر هذه الفتاة..
الراوي: وكانت ((هايدا)) أسرع من الملثم الأول إلى أخذ سلاح أخيها وما كادت تمسك به حتى وقفت وقالت:
هايدا: ارفعا أيديكما أيها الجبناء.. ألقيا بسلاحكما على الأرض..
الراوي: وحاول أحد الملثمين أن يطلق عليها الرصاص فكانت ((هايدا)) ((أسرع منه إذْ أطلقت عليه رصاصة أردته قتيلاً.. أما رفيقه فألقى بسلاحه وأقترب من ((هايدا)) فطلبت منه أن يحمل أخاها على ظهر الفرس وبينما هو يفعل دنت ((هايدا)) منه فإذا به يمسك بأخيها ويرمي به في وجهها وينقض عليها ويخلصها المسدس ويقول:
الملثم: الآن سأنتقم منك... هيا اخلعي جميع ملابسك..
هايدا: إنني أفضل الموت على ذلك أيها القذر.
الملثم: سأقتلك إن لم تفعلي..
هايدا: الموت خير لي أيها الجبان.. اقتلني إن كنت تقدر..
الملثم: سأنتزع ملابسك وأشياءك الثمينة بقوة يدي..
الراوي: ثم رمى بالمسدس وهجم عليها و ((هايدا)) تصارعه وتصرخ مستغيثة... وإذا بفارس يظهر فجأة ويقول:
الفارس: لبيك أيتها المستغيثة.. لبيك..
الراوي: ثم أنقض على الملثم يتعاركا عراكاً قوياً انتهى بتغلب الفارس على الملثم وخنقه حتى مات بين يديه.. ثم نهض والتفت إلى الفتاة قائلاً:
الفارس: لعلّك بخير أيتها الفتاة..
هايدا: بخير.. شكراً لك أيها الفارس النبيل..
الفارس: سأحمل الجريح على ظهر فرسي.. هيا بنا.. إلى قصر أبيك لنسعف أخاك فقد نزف كثيراً..
هايدا: يظهر أنك تعرفنا جيداً.. فمن أنت؟
الفارس: ستعرفينني حين وصولك إلى دار أبيك.
الراوي: وطال انتظار ((الريش)) و((جورج)) للرجال الذين سيحضرون لنجدتهما.. وبدأ اليأس يتسرب إلى قلبيهما... فلما سكنت الرياح قليلاً قطع ((الريش)) سكونهما قائلاً:
الريش: جورج.. لنرسل صيحاتنا طلباً للنجدة فربما استطاعت أصواتنا في هذا السكون أن تصل إلى مدى أبعد.
جورج: لن تمتد أصواتنا بعيداً بين الأشجار والأغصان الملتفة.. ومع ذلك فلنحاول معاً..
الراوي: ثم صاح الاثنان معاً صيحة طويلة ممطوطة وبقيا بضع دقائق ينتظران عبثاً صيحة الجواب فعاد الريش يقول:
الريش: فلنصح معاً مرة أخرى.
الراوي: وعاد الصمت مرة أخرى ثم صاح ((الريش)) صيحة ملؤها السرور.
الريش: أستطيع أن أرى أشباحاً آتية نحونا خلال الغابة.. إنهم قادمون من جهة التل.
الراوي: ثم صاح الرجلان صيحات أودعا فيها كل ما بقى في صوتهما من قوة.. وعاد الريش يقول:
الريش: إنهم يسمعوننا.. لقد توقفوا.. إنهم يروننا الآن.. وها هم أولاء ينحدرون نحونا.
جورج: كم من الرجال ترى؟
الريش: لا أستطيع أن أحدد يا جورج بالضبط.. تسعة أو عشرة..
جورج: إذن فهم رجالك فقد كان معي سبعة فقط.
الريش: إنهم قادمون بأقصى ما يستطيعون من قوة.. يا لهم من فتية شجعان..
جورج: أهم رجالك يا (الريش).. قل أهم من رجالك.. لماذا لا تجيب؟
الريش: لا يا جورج... لا..
جورج: من هم إذن يا (الريش)..؟
الريش: الذئاب.. يا جورج.. الذئاب..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :770  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج