اعترافات خادم خاص |
|
للروائي البرازيلي الشهير يواكيم ماريا ثادودسيس
|
|
ولد في ريودي جانيرو عام 1839م وتوفي عام 1908م احترف الأدب والكتابة منذ لدونة عمره وبرع حتى أصبح رائد الأدب البرازيلي الحديث ألف روايات وقصصاً قصيرة خالدة ورائعة..
|
الراوي: كان (بروكوبيو وولا نغو) يدرس اللاهوت في إحدى الكليات عندما تلقى عميد هذه الكلية رسالة من قسيس صديق له في إحدى القرى الداخلية يطلب منه ايجاد خادم خاص ذكي حصيف صبور ليشرف على العناية برجل مريض هو الكولونيل (فالسبرت) بأجر مغر جداً.. وقد اقترح عميد الجامعة على (بروكوبيو) أن يقوم بهذه المهمة الإنسانية، فلبى هذه الرغبة حالاً، ذلك لأنه كان مرهقاً من نسخ الكتب اللاتينية والتراتيل الدينية. |
وعرج (بروكوبيو) على (ريو دي جانيرو) لزيارة أخيه ومن ثم سافر إلى قرية الكولونيل المريض.. وعندما وصلها قصد توا إلى القسيس الذي أرسل في طلبه ولما قابله قال له: |
القسيس: أهلاً بك يا بني.. |
بروكوبيو: شكراً لك يا أبي.. |
القسيس: يا بني - عليك أن تتذرع بالصبر.. فالكولونيل (فالسبرت) رجل طيب القلب ولكن الموقف الذي يصوره يجعل منه في بعض الأحايين رجلاً فظاً شديد القسوة لا يتورع عن ضرب خادمه بأي شيء أمامه.. لقد شج خادمين قبلك في وجهيهما... |
بروكوبيو: أنني لا أخشى من أصحاء الأبدان.. فكيف أخاف المعلولين. |
القسيس: الصبر يا بني.. الصبر.. إن الكولونيل يستبدل خدمه كما يستبدل أدويته.. فإذا استعنت بالصبر واستعملت الحكمة فإنك ستفوز بالسعادة في خدمتك الإنسانية وفي مكافأتك المغرية. |
بر وكوبيو: سأتحمل يا أبي... فادع لي... |
القسيس: بورك فيك... بورك فيك... |
الراوي: وذهب (بروكوبيو) إلى منزل الكولونيل فوجده مستلقياً على كرسي طويل في البلكون والألم ظاهر بشدة على محياه وقد تلقاه بقول حسن وجعل يتفرس في وجه خادمه ثم يبتسم ابتسامة خبيثة وأخيراً قال له: |
الكولونيل: اسمع... إن جميع الذين استخدمتهم عندي كانوا تافهين... كانوا ينامون كثيراً.. ووقحين.. وكان اثنان منهم لصين - فهل أنت لص مثلهم؟. |
بروكيو: لا يا سيدي... |
الكولونيل: ما اسمك يا هذا؟؟؟ |
بروكوبيو: بروكوبيو جوس وولونغو. |
الراوي: وضحك الكولونيل بشكل هيستيري ثم قال باستهزاء وسخرية. |
الكولونيل: اسمك كولومبو. |
بروكوبيو: لا يا سيدي.. اسمي بروكوبيو.. جوس وولونغو. |
الكولونيل: (ضاحكاً) سأدعوك إذن، بروكوبيو. |
الراوي: ويظهر أن جواب الخادم الصارم قد ترك أثراً طيباً في نفس الكولونيل فعاش (بروكوبيو) في نعمة هذا التأثير أسبوعاً كاملاً وفي فجر اليوم الثامن بدأ (بروكوبيو) يعرف حياة الكلاب التي كان يحياها أسلافه من الخدم - فلم يعد يعرف للنوم طعماً ولا لتفكيره وزناً - فقد طفق الكولونيل يمطره بوابل من الشتائم التي كان يقابلها (بروكوبيو) بالابتسام من وقت إلى آخر وبروح الخضوع والولاء لأنه اكتشف منذ البداية أن هذه الطريقة ترضي الكولونيل وتخفف حدة غضبه كما أدرك (بروكوبيو) إن مرد كل هذه الأمور إلى إصابة الكولونيل بأمراض متعددة منها: مرض الأعصاب والروماتيزم وأمراض أخرى موروثة بالإضافة إلى الشيخوخة، فقد كان الكولونيل يبلغ الستين من العمر وكان منذ طفولته معتاداً على ألا يرد له طلب وكان (بروكوبيو) كثيراً ما يقول لنفسه: |
بروكوبيو: يا إلهي... يا إلهي... أعنِّى بالصبر.. يا إلهي إني لأرثى لهذا الكولونيل المريض واتجاوز عن سبابه المقذع ولكن لا يمكن أن أتحمل ابتسامة الخبت التي تعلو محياه وهو يرى أحزان الآخرين وتعاستهم. |
الراوي: وبعد ثلاثة شهور لم يعد (بروكوبيو) قادراً على تحمل أعباء هذه الخدمة فصمم على الانفصال ولكن كانت تنقصه المناسبة وجاء (بروكوبيو) يوم الخلاص حين ضربه الكولونيل بالخيزران ثلاث مرات لأنه تأخر قليلاً في تسليمه رسالة وصلته.. وعند هذا الحد قال له (بروكوبيو). |
بروكوبيو: أعفني من الخدمة يا سيدي الكولونيل... |
الراوي: ثم أدار (بروكوبيو) ظهره وذهب يحزم حقائبه وإذا الكولونيل يدخل إلى غرفة (بروكوبيو) ويطلب منه أن يبقى ويسمح عن طبعه السيء الناجم عن شيخوخته.. وظل الكولونيل يصر على (بروكوبيو) حتى استحى هذا ورضي أن يبقى وفي ذلك المساء قال له الكولونيل. |
الكولونيل: إنني مشرف على النهاية يا بروكوبيو.. لن أعمر طويلاً... إنني على حافة القبر وستمشي في جنازتي يا بروكوبيو... ولن اعذرك مهما كانت الظروف ستمشي وستصلي علي وإذا لم تفعل سيزورك طيفي في تلك الليلة ويسحبك من ساقيك.. هل تعتقد في الأشباح يا بروكوبيو؟ |
بروكوبيو: إنها خرافة يا سيدي الكولونيل. |
الكولونيل: ولماذا يا أصلب الرأس؟ |
الراوي: ولم يضرب الكولونيل بعد تلك المرة (بروكوبيو).. على أن شتائمه بقيت على حالها بل كانت تزداد في بعض الأحيان ولكن (بروكوبيو) كان يفعل كما يقول المثل ((إذن من طينه وإذن من عجينه)) ولئن ساورته نفسه أكثر من مرة أن يترك الخدمة ولكنه عندما يفاتح قسيس القرية كان يترجاه هذا أن يصبر ويتحمل ومع ذلك فقد كانت العلاقات بين الكولونيل وخادمه تزداد توتراً وسوءاً كل يوم... إذْ لم يعد الخادم يطيق ذرعاً بالحياة في هذه القرية النائية التي كانت منقطعة عن العالم فلا جرائد تصلها ولا وسائل تسلية بريئة فيها وفوق هذا كله سيل الشتائم الذي ينصب على رأسه صباح ومساء.. |
وعندما علم طبيب الكولونيل وقسيس القرية بعزم الخادم المغادرة جاء إليه ورجواه أن يبقى شهر واحداً ريثما يتدبرا بديلاً عنه فقبل بهذا الشرط. |
الراوي: وفي مساء يوم 14 أغسطس أصيب الكولونيل بنوبة حادة من الغضب فانهال بالضرب على الخادم وكال له أقذع الشتائم ورماه بصحن الحلو على وجهه فتكسر الصحن إلى مئات القطع الصغيرة على الأرض ونهض الكولونيل وصرخ في الخادم قائلاً: |
الكولونيل: ستدفع أيها اللص ثمن هذا الصحن. خذ أيها اللعين خذ... |
الراوي: ثم انهال بالضرب على الخادم الذي كان يجيب على هذه الكلمات بقوله: |
الخادم: اهدأ يا سيدي الكولونيل.. اهدأ.. صحتك فوق كل شيء. |
الكولونيل: خذ أيها اللعين.. خذ أيها اللص القذر.. خذ. |
الراوي: وعندما كلت يداه من الضرب جلس على حافة السرير ثم أخذ يزمجر يتهدد ويتوعد.. والخادم يهدئ من غضبه حتى غلب النوم على الكولونيل فنام فغطاه وأخذ كرسياً وكتاباً وجلس بالقرب من سرير الكولونيل يقرأ حتى لا ينام لأن عليه أن يوقظ سيده الكولونيل عند منتصف الليل ليسقيه بعض الأدوية في منتصف الليل كعادته كل ليلة ويظهر أن (بروكوبيو) غفا من شدة التعب أو القراءة ولم يصح إلا على صراخ الكولونيل الذي تناول زجاجة الماء وقذف بها في وجه (بروكوبيو) الذي لم يستطع أن يتفاداها فأصابت خده الشمال فأحس بألم حاد أفقده شعوره فإذا به ينقض على الكولونيل المريض ويضغط بكلتا يديه على عنقه لبضع دقائق حتى مات خنقاً. وعندما انقطعت أنفاس الكولونيل قفز الخادم إلى الخلف وقد أخذ منه الهلع كل مأخذ وظل يهذي ويصرخ ولكن أحداً لم يسمعه ثم آب إلى صوابه وندم حين لا ينفع الندم ثم غسل جروح وجهه وربط خده وفكر في الهرب ولكنه تذكر أن ذلك معناه الاعتراف بالجريمة.. وظل بين جزر ومد من القلق والاضطراب وأخيراً ترك الحل للظروف.. وعندما لاح الصباح دعا بواب القصر وقال له وهو يتصنع الحزن والبكاء... |
الخادم: انطونيو.. لقد مات الكولونيل فاذهب واخبر الدكتور والقسيس. |
البواب: مسكين سيدي الكولونيل لقد راح واستراح. |
الرواي: وخطر على بال الخادم أن يتذرع بمرض أخيه ويذهب قبل إجراءات دفن الكولونيل ولكنه عاد فتذكر أن ذهابه بهذه السرعة سيفتح عليه العيون فمحا هذا الخاطر من باله وبقي في غرفة الميت مع خادم زنجي يستقبل القادمين ثم قاما معاً بتكفين الميت وهنا لم يتمالك الخادم أعصابه فظلت يداه ترتجفان وهو يقوم بعملية التكفين حتى أشفق عليه أحد الحاضرين فقال: |
أحدهم: مسكين بروكوبيو.. مسكين.. إنه حزين على الكولونيل على الرغم مما قاسى من الآلام على يديه. وجرت مراسيم الدفن.. وقام (بروكوبيو) بتمثيل دور الحزين خير قيام فما قصر في الدعاء ولا في التصدق عن روح الفقيد وبعد انتهاء أيام العزاء ذهب إلى ريو دي جانيرو.. وظل متقمصاً دور الحزين حتى أشفق عليه أقرباؤه.. وفي يوم من الأيام تلقى رسالة من قسيس قرية الكولونيل ففتحها وقرأها وإذا بالقسيس يبلغه أنه حين فتحت وصية الكولونيل وجد أنه أوصى بكل ثروته لخادمه الخاص.. فلم يصدق (بروكوبيو) أنه أصبح الوارث الوحيد للكولونيل وأعاد قراءة الرسالة عشرات المرات ثم سلمها إلى أخيه فقرأها هذا وقال له: |
الأخ: كم تبلغ ثروة الكولونيل..؟ |
بروكوبيو: لا أعرف.. لكن أعرف أنه كان غنياً جداً.. |
الأخ: لقد برهن الكولونيل على أنه صديق حميم لك يا بروكوبيو.. |
بروكوبيو: بكل تأكيد.. بكل تأكيد.. |
الراوي: وعاد (بروكوبيو) إلى قرية الكولونيل حيث قابل القسيس وباشر معه في تنفيذ الوصية وشعر (بروكوبيو) أن كل من في القرية كان يذكرون بالسوء أعمال الكولونيل لتغطية موقفه.. وكان هم (بروكوبيو) منصباً على تسلم ما في الوصية بعد أن بيت في نفسه أنه سيقوم بتوزيع ثروة الكولونيل تدريجياً على الفقراء والمعوزين والمؤسسات الخيرية لعلّه يخلص من تأنيب ضميره ويكفر عن جريمته.. |
وعاد (بروكوبيو) إلى ريو دي جانيرو بعد أن تسلم تركة الكولونيل وبعد ستة أشهر بدأ في توزيع هذه التركة شيئاً فشيئاً على الجهات الخيرية محاولاً تعزية نفسه عما ارتكب ولكن هيهات له أن يرتاح من عذاب ضميره. لقد ظل على هذه الحال حتى فاجأته بعد أن سجل اعترافه هذه في رسالة بعث بها إلى صديق له... |
|