شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حكمة فتاة
كان ((سليمان)) والد ((فريدة)) فظاً غليظ القلب، حاد المزاج، يغضب لأتفه الأسباب، قاسياً في معاملته لزوجته وابنته لا يتورع عن ضرب ابنته بسبب أو بدون بسبب. وكان إذا دخل البيت ارتجفت أركانه، وارتجفت الزوجة والابنة من صوته الأجش.
وفي يوم من الأيام دخل الدار ونادى ابنته ويظهر أنها لم تسمع فرفع عقيرته صارخاً:
ـ فريده.. فريده..
وتدخل فريده وهي ترتجف وتقول:
ـ نعم يا بابا...
ويتطلع إليها بعينين حمراوين ثم يقول بغلظة:
ـ تعالي.. يا بنت البومة.. يا وش النحس والشوم.. وشك زي وش أمك يقطع الخميره من البيت.. نشفت ريقي.. وأنا أزهم.. فريده.. فريده.. خذي يا ملعونة..
وينهال عليها ضرباً ولطماً فتركض وهي تبكي وتصرخ:
ـ ماما.. إلحقيني يا ماما..
وتسرع إليها والدتها ((زينب)) قائلة:
ـ مين ضربك يا روحي.. ضربه تكسر يدو.
ـ بابا يا ماما...
ـ وضربك ليش.. سويتي حاجه...
ـ لا يا ماما...
ـ يعني أبوكي ضربك شطر بطر مو معقول...
ـ احلف لك يا ماما إني ما عملت أي ذنب استحق عليه الضرب... إلا...
ـ إلاّ ماذا.. قولي يا بنت...
ـ إلاّ أني بنتك...
وتغضب زينب وتحتد وتقول:
ـ وهوّه مستعر منك.. ليش.. أنا جايباك من الحاره وإلاّ بطريق الاستيراد من بلاد الواق.. الواق..
ـ لا يا ماما.. مو زي ما تتصوري.. يمكن بابا زعلان من حاجه قام فش خلقه فيّ...
ـ بس.. أنت قلت إن ذنبك هو لأنك ابنتي..
ـ يمكن قلتها من حرّ الغضب وألم الضرب...
وتضحك والدتها بتهكم...
ـ لا.. لا.. أنا أعرف أن والدك يكرهني ولا يستبعد أن يكون سبني ولعن سنسفيل جدودي.
ـ بابا يحبك يا ماما...
ـ يخي حبو برص..
هل هذا جزاؤه على حبه لك..؟!
ـ إنك تحاولين التستر على أبوك.. أنت شايفك معاه ضدي..
ـ ليش أوقف ضدك أو ضده.. ما أنتما إلاّ عينان في رأس واحد...
ـ أبوك خاين نيته غير صافية من جهتي...
ـ مسكين بابا يا ماما.. سوء الظن حرام...
ـ يخي حرمت عليه عيشته.. لن أتدخل في أمورك حتى لو شفته يكسر رقبتك داهيه عليك وعليه...
ـ حرام عليك بابا نيتو صافيه زي اللّبن...
ـ زي الزفت.. أبوكي ناوي يتجوز وحدة ثانيه.. حتى يخلف منها ولد لأنّو يكره البنات..
ـ أنت تهولي الأمر وتتصوري يا ماما أشياء مستحيلة...
ـ ما في شيء مستحيل عند أبوكي.
ـ ويأتي صوت ((سليمان)) مدوياً ثانية وهو يقول:
فريده، فريده،
وتلبي النداء مسرعة قائلة:
ـ نعم يا بابا...
ـ إنزلي إن شاء الله نزلة صدرية وحمى شوكية...
وتسمع لعناته ودعاءه ((زينب)) فتقول لنفسها:
ـ إن شاء الله حمى مالطيه في دماغه...
وتقاطعها فريدة قائلة:
ـ لماذا الدعاء يا ماما؟
ـ تقولين لماذا.. وأبوكي يدعو عليك دعاء يقصف سعف النخل...
ـ يا ماما لا بد وإن بابا يشكو من سوء في حالته المادية حتى ارتفعت حرارة مزاجه، وزادت سلاطة لسانه...
من يومك يا زبيبه وانتي بدي المصيبه...
ـ لازم يا ماما تحني رأسك للعاصفة وتسامحي والدي فهو بحاجة إلى حنانك وعطفك...
ويغضب ((زينب)) جوابها فتدفعها بيدها وتقول لها:
ـ قومي روحي لأبوكي قبل ما ياخذ روحك...
((فريده)) مسرعة فيبتدرها والدها قائلاً بغضب:
ـ كل مرة أناديكي فيها تتأخري.. فين كنت...
ـ في الحمام يا بابا...
ـ وأمك فين هيه.
ـ في المطبخ.
ـ إن شاء الله بوتاجاز ينفجر في وشها...
ـ مشيئة الله يا بابا للخير وليست للشر...
ـ ربنا يخلصنا من أمك...
ـ وايش سوّت أمي حتى تدعو عليها؟.
ويحتد ((سليمان)) من جوابها فيقول وقد أمسك بخناقها:
ـ تدافعين عن أمك يا ملعونه.. وتتجرأين على الكلام أمامي.. هادي وقاحه لازم أربيك حتى لا تعودي إلى مثلها... خدي...
وينهال عليها ضرباً ولطماً فتبكي وتصرخ فتهرع والدتها إليها وهي تقول:
ـ ايش سوّت لك البنت.. نازل فيها ضرب ولطم.. ما تخاف من ربك لك يوم يا ظالم أسود من شعر رأسك...
وينفجر غاضباً صارخاً في وجهها:
ـ برّه.. برّه.. أخرجي من بيتي.
وتجيبه ((زينب)) بكل هدوء:
ـ لن أخرج إلا على أسنة الحراب كما قال ((ميرابو)) خطيب الثورة الفرنسية..
ويضحك ((سليمان)) متهكماً:
ـ ما شاء الله.. ما شاء الله.. أمتي طلعت القصر...
ـ أمس العصر.. اسمع..
ـ قولي يا وش المصايب...
ـ وتحتد عندئذ ((زينب)) وتجيبه:
ـ أنا ما اسمح لك تهينني.. إذا كنت ما تبغاني فالله تعالى يقول: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (النساء: 130)..
ـ أطلقك مستعد...
ـ أتفضل.. طلع الجوهرة من فمك الحلو..
وتصرخ ((فريدة))...
ـ ماما.. ماما بالله عليكي.. روحي لبيت جدي.. رحمة لي وإشفاقاً علي...
ـ حاضر.. وإكراماً لعينيك يا روحي...
ويقاطعها ((سليمان)) قائلاً:
ـ إن شاء الله تطلع روحك.. برّه.. يا الله برّه...
وتخرج ((زينب)) وهي تردد:
ـ لك يوم يا ظالم ((وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون))..
وتذهب ((زينب)) إلى دار أبيها الشيخ مصطفى حيث تراه في مكتبه وهو يتمتم:
ـ يا أرحم الراحمين ارحمنا وأنت خير الراحمين...
ـ ويقرع جرس تليفونه فيمسك بالسماعة ويقول:
ـ هلو.. مين.. فريده.. صباح الخير يا بنتي...
ـ صباح الخير يا جدي...
ـ فين أمك...
وتجيبه والدموع تخنق عباراتها...
ـ ماما خرجت من البيت...
ـ ما لك تبكين.. ماما خرجت.. فين راحت...
ـ في طريقها إليك...
ـ ولكنها لم تصل حتى الآن...
ـ لعلَّها وصلت ولكنها لم تشأ إزعاجك وأنت في مكتب عملك...
ـ خير إن شاء الله.. ليش خرجت...
ـ بابا..
ـ طردها ولاّ طلقها؟...
ـ طردها يا جدي...
ـ ريته طلقها.. هذا جزاء من يزوج بنته من دون أن يتقصى أحوال طالب الزواج وأخلاقه..
ـ بابا يا جدي.. كان في ساعة غضب.. والشيطان دخل في النصّ والأمور ستتعدل بحكمتك يا جدي..
ـ يا ريت ربنا أنعم على والدك بمثل ما أنعم عليك من عقل وحكمة.. وتقول بلهفة وفزع:
ـ جدي.. أسمع صرير الباب.. يمكن والدي جا.. مع السلامة...
ويدخل والدها والعنف يغلف كلامه حين يقول:
ـ إسمعي يا بنت.. لا مدرسة بعد اليوم.. فهمتي...
ـ ليش يا أبويا.. هل أنا كسلانة...
ـ أنا ما عندي بنات يروحوا للمدرسة...
ـ وتجيبه مستعطفة ومسترحمة...
ـ باقي ثلاثة شهور على امتحان التوجيهي.. اسمح لي أدخلو وبعدين سأكون لك وللزوجة التي ستختارها بدلاً من أمي...
ـ لا لزوم للتوجيهي.. تنفعك بإيش.. تبغي تكوني موظفة...
ـ لا يا بابا أبغي أكون متعلمة لا جاهلة...
ـ أنا قلت ما في مدرسة يعني ما في مدرسة...
ـ حرام عليك يا بابا حرمتني من أمي وتبغي اليوم تحرمني من دراستي.. ويحتد من جوابها ويقول:
ـ ما شاء الله لسانك أصبح أطول من لسان أمك بدّو قص...
وينهال عليها ضرباً ولطماً كالعادة فتبكي وتقول:
ـ اضرب يا بابا.. اضربني.. اشف غليلك لعلَّ الله يلين قلبك علي.. أنا صابره.. صابره.. راضيه بقضاء الله وقدره.
ـ صبر حضرمي.. أنا رايح أوضتي.. أنام..
ـ نوم العافيه يا بابا...
ويذهب ((سليمان)) إلى غرفته وفي خلال ذلك يدق جرس التليفون فترد عليه فريدة:
ـ ماما.. روحي يا ماما.
ـ حبيبتي روحي.. كيف حالك...
وتكتم فريدة عبراتها وهي تقول:
ـ بخير يا ماما.. بخير.. وأنتي.
ـ بخير جدك شايلني على أكف الراحة.. بس فكري وأحاسيسي محبوسة عندك...
ـ كوني مطمنئة يا ماما.. ماما...
وتقاطعها والدتها قائلة:
ـ بابا.. بو ينفخ كرشه.. اش بو...
ـ ليش تقولي كدا يا ماما.. الحق على جدي لازم ينمّي فيك فضيلة الصبر واحتمال المكاره...
ـ صبرت كثير على أبوكي فكان جزائي الطرد... من يدري يمكن أرسل ورقة طلاقي..
ـ دوام الحال من المحال.. وكل شيء يتعدل...
ـ إلاّ والدك فهو كما يقول الشاعر: وهل يستقيم الظّل والعود أعوج..
ـ هدئي أعصابك يا ماما.. ضعيها في ثلاجة فالأبوة مهما قست في ظاهرها ففي الحنايا من شغاف أفئدتها حنين يبكنّها على قسوتها.. وسيأتي اليوم الذي يتغلب فيه الحنان على القسوة والرحمة على الشدة..
ـ والمدرسة.. ألا يزال أبوكي مصراً على منعك منها...
ـ أجل يا ماما...
ـ أبوكي يبغاكي تطلعي جاهله زي أمه وأخته...
ـ ماما.. هوني عليك.. هي زوبعة في فنجان.. بابا.. إنسان عاقل واسع الاطلاع والمعرفة.. إنه يعلم علم اليقين أن عجلة الزمن لا تدور إلى الوراء.
ـ ما دمت مرتاحة يا بنتي فهذا كل ما أتمناه.. ربنا يهدي والدك.. ويدخل والدها سليمان فجأة فتضطرب فريدة وتقول وهي ترتجف:
ـ بابا...
ويربت ((سليمان)) على كتف فريدة ويقول:
ـ سمعت كل شيء.. لا ترتجفي.. لا تخافي.. ففي شغاف قلبي حنان مبرح لك وندم شديد على ما فعلته مع أمك.. هات السماعة...
ـ خذ..
ـ ثم تقول:
ـ ماما...
ـ نعم يا بنتي.. جرى لك حاجة.. هل ضربك ابوكي...
ـ لا.. يا ماما.. خدي.. أتكلمي مع بابا...
ـ سامحيني يا زينب.. أنا ندمت على كل شيء.. وإني قادم إليك ومعي فريده.. الشفيع الذي لا ترد شفاعته...
صوت صادر من مكان بعيد:
بسم الله الرحمن الرحيم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ صدق الله العظيم (الروم: 21).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1108  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 43 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.