ذات ليلة |
وفي ليلة حالكة السواد، صافية النجم، خافتة النسيم، أحسست فجأة بضيق يكاد يخنقني، وهمٍّ مطبق يوشك أن يعصف بي، ولا أدري سبباً لذلك، بل لا أرى لماذا أنتابني وأنا في ذلك المصيف الجميل في إحدى القرى الهادئة. |
واشتد ضيقي.. وشعرت بصدري ينتفخ كأنما رئتاي تهمّان بالانفجار، فخرجت من فندقي.. لا ألوي على شيء، ولا أعلم إلى أين أسير.. وكل ما أعلم أني خرجت لأروح عن نفسي باستنشاق النسيم العليل الطلق.. لعلي أسري عنها ما اعتراها من همّ وكرب. |
وسرت تقودني خطاي إلى حيث لا أدري.. وقد هوّم الليل، ونامت القرية إلا نباح كلابها، وخفتت أنوار بيوتها، إلا أضواء متناثرة هنا وهناك في شوارعها المعبدة. |
وبينما أنا أمشي، وقد طاب لي المسير وبدأت أشعر بالارتياح يدبّ في جسمي، راعني صوت بكاء خافت، ونشيج منقطع حبيس، يقترب كلما هب النسيم، ويبتعد كلما خدرت الريح.. فتوقفت عن مسيري.. أستشرف مصدر الصوت.. وتلفت يمنة ويسرة... لأرى اين أنا.. وإذا بي في إحدى المقابر... فعرتني هزة.. وطفرت أفكاري إلى أيام الطفولة.. فتذكرت - في سرعة - ما كانت تقصه علينا جدتي - يرحمها الله - عن الأصوات التي تنبعث من القبور... ثم أبتُ إلى نفسي.. واستجمعت جلدي وشجاعتي.. وقلت - في يقين - إنه صوت إنسان لا نعيق بوم أو غربان.. |
وصممت على أن أتبين مصدر الصوت.. فسرت في حذر وحيطة.. وأنا أتعوذ.. وأبسمل.. وأحوقل.. وأتلو بعض آيات من الذكر الحكيم.. حتى اقتربت... فلاح لي شبح منحنٍ بجانب قبر.. وازداد الصوت وضوحاً.. فدنوت من الشبح، ويظهر أنه أحس بوطء قدمي، فانتصب واقفاً، وقال: |
ـ صديق... |
ـ أمن سكان هذه الدنيا.. أم من سكان هذه القبور؟ |
ـ بل من سكان هذه الدنيا الفانية.. |
ثم صعد زفرة وأردف قائلاً..: |
ـ يا ليتني كنت من سكان هذه القبور.. أدنُ مني.. لا تخف... |
فاقتربت منه، وقد أعددت نفسي لأسوأ الاحتمالات.. ثم سلمت فردَّ التحية بأحسن منها.. ومد يده مصافحاً.. فصافحته.. ثم أضاء مصباحاً إلى جانبه.. فرأيت شاباً في ريق الشباب، ونضرة العمر، نحيل الجسم.. ممشوق القوام، مديد القامة، رأسه مستدير تزينه جبهة عريضة، وشعر كستنائي، قمحي اللون.. له عينان كانا نجلاوين، لولا طول البكاء والسهد.. وأنف دقيق، وشفتان رقيقتان، وشارب أشبه في شكله بشارب.. ((كلارك جبيل)) النجم السينمائي المعروف، وعلى العموم فهو شاب لا تمل العين منه. |
وجلسنا.. وتطلع إلي طويلاً، وكان يستجمع أفكاره.. ثم قال: |
ـ يشرفني أن أعرف اسمك.. |
ـ ((فؤاد))... هل لي أن أنال شرف معرفة اسمك؟ |
ـ فوزي |
ثم أردف قائلاً: |
ـ ما جاء بك هنا؟ |
ـ همٌّ إلمَّ بي، فخرجت أستروح فقادتني خطاي إلى حيث أنت.. |
ـ أأنت من أهل هذه القرية؟ |
ـ بل غريب جاء للمصيف.. وأنت..؟ |
ـ غريب.. هجرت وطني وأهلي وجئت من أجلها هنا.. |
ثم غلبه البكاء وقد التفت نحو قبرها. فقلت.. |
ـ ومن هي التي تبكيها؟ أهي أمك أم أختك؟ |
ـ بل أعز من أمي وأختي.. |
فأدركت - في سرعة - أنه يبكي حبيبته.. فقلت على الفور.. |
ـ إذن تبكي فتاة أحلامك.. |
ـ صدقت... |
ـ أهذه أول ليلة تمضي على وفاتها، حتى جئت تبكيها؟ |
فتنهد كالمصدور وأجاب.. |
ـ هذه هي السنة الثانية تمضي على وفاتها.. |
فقلت، وقد استغربت وجود إنسان بهذا الوفاء في هذا العصر المادي... |
ـ إن عملك هذا يذكرني بالعشاق العذريين.. ولا شك أنت منهم.. واستفزني حب الاستطلاع فأردت أن أعرف قصته، فقلت: |
ـ أستحلفك بالله ألا ما رويت لي قصتها.. |
وفاجأه هذا اليمين، فحاول أن يتملص من الكلام فقال: |
ـ قصتي طويلة.. وقد آذن الفجر.. |
فزادني تمنعه رغبة - وكل ممنوع مرغوب - فقلت وقد بهأتُ به... |
ـ إن في الليل لبقية طيبة.. وقد استحلفتك بالله.. |
فلم ير فوزي بداً من الإذعان.. فقال.. |
ـ سمعاً وطاعة.. |
ثم اعتدل في جلسته، وتطلع صوب قبرها.. وشرع يروي قصة فتاة أحلامه.. قال: |
ـ ((كانت)) سوزي طالبة في إحدى الجامعات الأجنبية، وكنت أنا في عداد طلابها، ولا أذكر أني رأيت ((سوزي)) في السنتين الأوليين من دراستي الجامعية، ذلك لأنها كانت تسكن في القسم الخاص بالإناث، وهو قسم تابع للجامعة المذكورة ولكنه بعيد عن القسم الخاص المذكور.. |
وأول لقائي بـ ((سوزي)) كان في إحدى الحفلات الترفيهية الساهرة التي يقيمها طلاب الجامعة بمناسبة أو غير مناسبة.. |
وقد حضرت ((سوزي)) تتأبط ذراع إحدى صديقاتها فراعتني ملابسها البسيطة المحتشمة، قوامها المشيق، قامتها المديدة لونها الأبيض الناصع المصفى.. وقد صبغته حمرة العافية.. وشعرها الأشقر المتدلي على كتفيها.. ولا أطيل عليك.. فقد كانت الفتنة الطاغية تشيع في كل حركة من حركاتها.. |
جلست ((سوزي)) مع صديقتها إلى إحدى المناضد المنتشرة في ذلك البهو الفسيح.. فرمقتها الأعين.. وشخصت إليها الأبصار.. وحام حولها فراش من المتطفلين، فكانت ((سوزي)) تتكلف ابتسامة المجاملة ملتزمة جانب الوقار، والحشمة، فلم تترك لأحدهم فرصة تشجعهم على فتح أحاديث تتطلبها مناسبات كهذه.. وهكذا طار الفراش إلى صيد آخر هين لين.. |
وكنت وصديق لي نجلس بالقرب من خوانها وكنت أستجلي - في خشية وحذر - جمال ((سوزي)) الساحر.. وقد التقت عيناي بعينيها - عرضاً - فكسر الخجل نظراتي وانطويت على نفسي كأنما أتيت أمراً إدَّا.. |
وبدأ برنامج السهرة، فتنفست من كابوس خجلي، وكان برنامجاً حافلاً بالموسيقى والغناء والتمثيل.. وما إن انتهى البرنامج حتى دوت القاعة بالتصفيق الحاد المتواصل ((نريد قصيدة منك يا فوزي)). |
واشرأبت الأعناق.. والتفت الحاضرون إلي.. ومنهم ((سوزي)).. فنهضت وصعدت إلى منصة الخطابة، وألقيت قصيدة غزلية - والغزل يحلو في مثل هذه المناسبات - كانت تقابل بتصفيق الاستحسان واستعادة المقاطع الشعرية.. وكنت وأنا ألقي شعري، أنظر خلسة إلى ((سوزي)) لأرى مدى تأثير شعري وإلقائي عليها، فكان تصفيقها خير جواب على ما أبغي، وعدت إلى مكاني بين عاصفة من تصفيق الاستحسان والإعجاب.. |
وجاء برنامج الرقص، فانتظم شمل الراقصين والراقصات في أمواج متعاقبة ومتلاحقة، وحاول غير واحد من المتطفلين مراقصة ((سوزي)) فكانت تعتذر بجهلها للرقص، أما رفيقتها فانتظمت مع الراقصين.. وبالطبع لم أرقص أنا لأني كنت مشغولاً بالاستمتاع - عن بعد - بما هو أهم من الرقص.. |
ولاحت منها التفاتة إلي، فرأتني وحيداً، وقد ذهب صديقي مع أحد الراقصات وهي وحيدة وقد ذهبت صديقتها مع أحد الراقصين.. فابتسمت وابتسمت وكانت ابتسامتها مشجعاً لي، فلم اشعر إلا وأنا أنهض.. فأخطو في تؤدة واتزان - صوب منضدتها - فأقدم نفسي إليها.. وتمد يدها مصافحة فأصافحها وقد شعرت لأول مرة بقلبي يخفق ويدي ترتعش.. ودعتني للجلوس فجلست.. وهنأتني على القصيدة التي ألقيتها فشكرتها.. ثم سألتني: |
ـ لِمَ لَمْ ترقص؟ |
ـ لأني لم أجد صديقة تراقصني.. |
ثم اجترأتُ فسألتها: |
ـ وأنت.. لِمَ لَمْ ترقصي؟ |
ـ لأني لم أجد بين الحاضرين صديقاً أراقصه.. |
فاهتبلت هذه الفرصة وقلت في شجاعة: |
ـ أيسعدني الحظ فأنال شرف مراقصتك هذه الليلة؟ |
فابتسمت وقد صادف جوابي هوًى في نفسها وقالت: |
ـ يا لك من محدث لبق.. قم بنا.. |
وسرنا إلى حلبة الرقص فرقصنا.. وفي أثناء ذلك عرفت الشيء الكثير عنها: عرفتُ أنها من سكان إحدى القرى المنتشرة على الجبال الجميلة المحيطة بالجامعة التي تدرس فيها وأن أباها في البرازيل.. وأنها تقيم مع أمها وخالها لا أخ ولا أخت.. وعلمت فيما علمت.. أنها أكملت القسم الخاص بالإناث وانتظمت هذه السنة في القسم المختلط للتخصص في كلية الآداب.. وسألتني عن نفسي فأجبتها بما فيه الكفاية.. وانتهى الرقص وعدنا إلى منضدتها فعرفتني بصديقتها وكانت من قريتها نفسها.. |
وانفض السامر، وودعتها، ورجعت إلى غرفتي - بعد منتصف الليل - وحاولت أن أنام فلم يغمض لي جفن، فبقيت ساهراً نهب آمال وأحلام، ومخاوف وأوهام تصطرع في نفسي.. |
كان أول فكر جال في خاطري.. أنها مسيحية وأنا مسلم.. وإذا بفكر آخر يجيبني: ((الحب لا يعرف وطناً ولا ديناً)).. وتوالت جولات الأفكار والخواطر يساجل بعضها بعضاً.. ويبارز قسم منها القسم الآخر.. وما أكثر ما قتل من الأفكار والخواطر في هذا السجال والنضال.. |
ولم أخلص من هذا الصراع العنيف إلا على قرع جرس الجامعة يشعر النائمين بالقيام للإفطار، ومن ثم الانتظام في الدراسة اليومية. فنهضت على عجل. وغسلت بماء بارد. ثم أصلحت هندامي. وأفطرت أيضاً على عجل وأخذت أذرع ساحة الجامعة جيئة وذهاباً وأرقب الطلبة الآتين.. منتظراً بفارغ الصبر مجيئها مع القادمين.. ولكنها لم تأت.... |
وقرع جرس الدخول للصفوف. فانتظمت مع زملائي الطلبة، وفي فترة الاستراحة الصباحية، طفت بساحات الجامعة فلم أعثر عليها ولم أحاول وقت الغداء لأنها - لا شك - كانت تتغدى في المطعم الخاص بالطالبات.. |
وذهبت بعد الظهر - كعادتي - إلى مكتب الجامعة. فرأيتها مع صديقتها بالأمس تستذكر دروسها فحنيت رأسي مسلماً وابتسمت ثم جلستُ على أحد المقاعد القريبة منهما، وشرعت في دراستي ومطالعاتي وقمت أستخرج بعض الكتب والمراجع الدراسية من رفوف المكتبة فلحقت ((سوزي)) بي ولم أشعر بلحاقها إلا عندما بادرتني بتحيتها المشفوعة بابتسامتها وطلبت مني استخراج بعض كتب المصادر فاستخرجتها لها، وفي أثناء ذلك سألتني: |
ـ كيف قضيت بقية ليلتك البارحة؟ |
ـ ما أحلاها ليلة، لقد قضيتها - من فرحي - ساهراً حتى الصباح.. وأنت كيف؟ |
فأجابت وقد غضت طرفها خجلاً: |
ـ يظهر أن فرحنا كان مشتركاً.. |
وعادت إلى قواعدها. وخلَّفتني مكاني والدنيا لا تسع أفراحي. وعندما عدت إلى مقعدي لم أجدها، فعللت خروجها نتيجة خجلها من تصريحها غير المنتظر.. ونمت ليلة حافلة بالأحلام الجميلة.. |
وفي الصباح نهضت وكلي نشاط أستقبل يوماً سعيداً كالأمس، فانتظرت مرورها بساحة الجامعة، فأقبلت تتهادى بين سرب من زميلاتها، وتوقعت تحيتها، ولكنها لم تفعل بل تلهت بالحديث مع زميلاتها.. فتسمرت في مكاني.. وانتحلت عذراً لنفسي من نفسي.. |
وقرع جرس الدخول فانتظمت في دروسي، وفي فترة الاستراحة لم أرَها وكذلك بعد الظهر.. |
وخيم الليل فأناخ الهم بَكَلْكَلِهِِ علي وليل الهم ليس له صباح. لم أشعر بحبي الجارف، وغرامي العارم، إلا في تلك الليلة.. يا لها من ليلة ليلاء.. كنت أحاول النوم فلا أستطيعه وأستجدي النسيان فيمنحني إحسانه.. فلجأت للبكاء.. لعلّ الدموع تفثأ همي وحزني، وبكيت حتى بللت دموعي وسادتي، ولكنها كانت بترولاً يصب على نار موقدة.. |
وفي الصباح التالي رأيتها فتجاهلتني.. وتناستني على مر الأيام أو هكذا كان يخيل إلي، كأنما تلك الليلة الساهرة كانت حلماً مرَّ في غفوة الزمن.. |
وكلما زادت إمعاناً في صدها وهجرها، ازددت شوقاً وهياماً، ونحولاً وسقاماً، وتساوى الليل والنهار عندي.. ووجدت الآلام في جسمي الناحل مرتعاً خصباً فشعرت في إحدى الليالي بوطأة الحمى فاستدعيت طبيب الجامعة وبعد أن فحصني أمر بنقلي حالاً إلى المستشفى.. فنقلت أنا لا أعي من شدة الحمى وأسعفت بالعلاجات اللازمة.. |
أفقت في الصباح، وأنا أشعر بارتياح من آلامي الجسمانية، ولعلَّ للنوم والعلاج أثرهما، ولكن افكاري ما زالت قلقة على ((سوزي)).. ماذا سيكون تأثير مرضي الفجائي عليها هل تزورني؟ أو نسيتني حقاً؟.. |
سيل من الأسئلة انساب في خاطري وأنا حائر لا أستطيع الإجابة.. وهكذا بقيت بين مد وجزر من الخواطر المتضاربة والآراء المتباينة.. أتلظى على أحر من الجمر، كلما طرق باب غرفتي خفق قلبي وتطلعت إلى الطارق وأنا أتمتم: لعلَّها هي وما أكثر ما منيت بالفشل في ذلك الصباح. |
وحان وقت الظهر ولا جديد عن ((سوزي)) وعاودتني نوبة الحمى، ولم أصح من تأثيرها المضني إلا قبيل الغروب، فتحت عيني وتشهدت ثم أجلت نظري في غرفتي فرأيت في أحد أركانها باقة ورد جميلة فضغطت على زر الجرس فجاءت الممرضة فسألتها: |
ـ من أرسل هذه الباقة؟ |
ـ جاءت بها آنسة ولما وجدتك نائماً وضعت الباقة هنا.. |
ـ أذهبت الآنسة؟ وما اسمها؟ |
ـ لم تذهب بعد ولم تذكر اسمها.. بل بقيت في الصالون تنتظر الدخول فقلت على الفور. |
ـ أرجوك.. أدخليها الآن.. |
فابتسمت الممرضة ابتسامةً لها معناها ومضت لشأنها.. |
وانتظرت.. وكانت كل دقيقة أطول من سنة.. ودق باب غرفتي.. ودق قلبي معه.. واهتزت كل جانحةٍ من جوانحي.. وفتح الباب.. ودخلت هي.. ولم أتمالكْ إلا أن أقول.. |
ـ سوزي.. |
ـ فأسرعت إلي وهي تقول.. |
فوزي.. لا بأس عليك يا فوزي. |
فقلت ويدها في يدي. |
ـ الحمد لله الذي أعادك إلي بعد أن يئست من لقائك.. وها هو اليأس يوشك أن يودي بي. |
ـ فأجابت، وقد شاعت في وجهها ابتسامة ماكرة.. |
لقد كان امتحاناً قاسياً، ولكنك فزت في النتيجة.. |
فصرخت من فرحتي.. |
ـ أكان هجرك امتحاناً لحبي.. الحمد لله على نجاحي.. |
فأجابت وقد غلب عليها الجد والحزم.. |
ـ نعم... أأفتح قلبي على مصراعيه لدخيل لا أعرف شيئاً عن أخلاقه وخصاله ومبلغ حبه ووده..؟؟ أجادُّ في حبه أم هازل؟؟ أم هو من شباب اليوم الذين يصطنعون الحب حتى إذا ما وقعت الفريسة تمتعوا بها إلى حين.. ثم نبذوها نبذ النواة.. وركضوا وراء صيد آخر.. أجل. لقد درستك وأنت لا تراني.. فعرفت الكثير عن أخلاقك وعاداتك وتعمقت في دراستي فعرفت القدر الكبير عن أهلك وبلادك وقومك.. فلا تؤاخذني إن قسوت في معاملتك لأنني لا أريد أن أضحي بقلبي على مذبح حب فاشل.. |
فاعتدلت في جلستي - وقد أحسست بنشاط عجيب.. وقلت.. |
ـ والآن وقد انتهيتِ من دراسة هذا الدخيل، أتأذنين له بالدخول؟ |
فضحكت ملء شدقيها.. وأجابت.. |
ـ نعم.. وبكل سرور.. |
فقلت والكلمات تتسابق على لساني: |
ـ ما أشد فرحي وسعادتي!.. |
ولم أترك كلمة من كلمات الشكر ومرادفاتها إلا قلتها وهي تبتسم ثم نهضت وقالت: |
ـ لقد أغرقتني بمدحك وثنائك.. والآن.. |
ـ والآن ماذا؟ |
ـ أستودعك الله فقد حان المغيب وقريتي بعيدة وأخشى ألا أجد مواصلات تنقلني إليها.. فإلى اللقاء.. |
ـ ثم شدّت علي يدي.. فكررت شكري وأنا أقول.. |
ـ إلى اللقاء.. إلى اللقاء.. |
وأبللت من مرضي بسرعة فائقة وعدت أنتظم دراستي بجد وعزم لا يعرف الكلل، وكنت أرى ((سوزي)) يومياً إلا يوم الأحد الذي كانت تقضيه في قريتها هذه، ودعتني في أحد أيام الآحاد لزيارتها في قريتها للتعرف على أهلها فلبيت الدعوة ولقيت من أمها وخالها ضروب الكرم واللطف والترحاب، ولا عجب فالكرم سجية سكان قرى الجبال.. |
وجاء الامتحان السنوي، فنجحت ونجَحَت هي بتفوق واستأذنت ((سوزي)) السفر إلى بلدي ووعدتها بأن أتم بقية فرصة الصيف في قريتها.. |
وأبتُ إلى وطني، ولم أبق فيه وقتاً طويلاً ولكنه كان وقتاً - على قصره - مرهقاً ومملاً.. وكنت أكاتب ((سوزي)) وتكاتبني هي، وكل منا يشكو سأماً وضجراً لا حد لهما... |
وفي عصارى ذات يوم، دق جرس التليفون فأخذت السماعة، وإذا المتكلم هي فقلت من فرحي.. |
ـ أتتكلمين من قريتك.. صوتك واضح جداً.. |
فأجابت وهي تضحك.. |
ـ أنت ذكي ولكنك في هذه المرة - أخلفت ظني فيك... |
فقلت، والدهشة تتعثر في كلامي.. |
ـ صوتك واضح، ووضوحه يدل إلى انتظام المواصلات الهاتفية بين بلدينا وإني أستغرب ذلك.. |
ـ ولم يدر في خلدي أنها كانت تتكلم من تليفون لا يبعد بضعة كيلومترات عن داري... وازداد ضحك ((سوزي)) وسمعتها تهمس لشخص بجانبها بأني ما زلت أجهل المكان الذي تتكلم منه فقلت وأنا أتردد.. |
ـ إنك تتكلمين من مكان قريب.. |
وعلا ضحكها فقلت على الفور.. |
ـ إنك تتكلمين من هنا.. من بلدي.. |
فقاطعتني وهي تقول: |
ـ جاء ذكاؤك متأخراً.. إني هنا.. في بلدك.. وقد وصلت الآن مع خالي.. وأنا أكلمك من مكتب شركة الطيران.. |
فصرخت من فرحي.. |
ـ أهلاً وسهلاً، إني قادم إليك في سيارتي حالاً.. |
وركبت سيارتي أسابق الريح إليها.. وأخذتهما إلى بيتي وأبيتُ إلا أن أستضيفهما بالرغم من إصرارهما على النزول في أحد فنادق المدينة.. |
وكنت وحيداً لا والد ولا والدة ولا أخ ولا أخت.. ولم يكن في البيت إلا مربيتي العجوز وخادمة وخادم وطباخ.. ولا تسل عن فرحي بهذه الزيارة المفاجئة.. |
وقضينا أياماً سعيدة.. فكنت آخذهما يومياً لزيارة المدن الهامة في وطني، وأريهما ما فيه من آثار تاريخية عظيمة ومناظر جميلة خلابة.. ولقد ألمت ((سوزي)) بأحوالي واطَّلعت على دخائلي.. وعرفتني.. كما أنا لا كما يقال عني. ومن حسن حظي أنها عرفت أن ما كان يقال عني هو اقل من الحقيقة.. |
وقبيل انتهاء الصيف، عدنا معاً إلى قريتها وقد بقي على افتتاح الجامعة بضعة أيام فأبت ((سوزي)) إلا أن تستضيفني في بيتها فقبلت الدعوة، وتوطدت علاقتي ((بسوزي)) وكان حباً سَما على المادة وترفع عن الصغائر، ووثق أهلها بي واطمأنوا إلى حسن سلوكي فكنت أخرج معها للنزهة من دون رقيب.. |
وفاتحت ((سوزي)) في أمر الزواج فرحبت به.. |
ـ عليك بإقناع والدتي وخالي وسأمهد لك الطريق إليهما.. أما والدي ففي البرازيل - كما تعلم - وسأكتب إليه. وأرجو أن أوفق لإقناعه... |
وفي إحدى الليالي اختليت بأمها وخالها وفاتحتهما في موضوع الزواج فباركا ذلك وعلقا موافقتهما النهائية على موافقة والد ((سوزي)) وقال لي خالها: |
ـ لو لم نتأكد من أن علاقتك ((بسوزي)) تستهدف الزواج ما فسحنا لك المجال بيننا. فشكرتهما على حسن ظنهما بي.. |
وكاتبت ((سوزي)) والدها في أمر الزواج فجاء رده - بعد أيام قلقة قضيناها في الانتظار - بأنه لا يمانع في زواجها بمن تشاء، ولكنه رأى أن يكون الزواج بعد حصول ((سوزي)) على الشهادة الجامعية، ووعد بأنه يفعل المستحيل لحضور حفلة الشهادة وحفلة الإكليل. |
وفتحت الجامعة أبوابها وبدأنا عامنا الدراسي النهائي فيها بجد واجتهاد متواصل واستأجرت شقة محترمة خارج أسوار الجامعة لا داخلها كعادتي في السنوات الثلاث المنصرمة. |
وقبيل الامتحان السنوي النهائي جاءتني ((سوزي)) ذات صباح، وأخبرتني أنّ والدها سيصل بالطائرة مساء يوم الاثنين القادم... وترقبنا ذلك اليوم بفارغ الصبر... |
وفي مساء يوم الاثنين المحدد كنت مع ((سوزي)) وأمها وخالها ننتظر وصول الطائرة التي هبطت أرض المطار بسلام وفتح باب ركابها وأطل والدها وهرعنا لاستقباله بعد خروجه من الدائرة الجمركية.. وكان لقاء الوالد بزوجته وابنته وصهره بعد غياب خمس سنوات لقاء يعجز اللسان واليراع عن وصفه، وقدمني خال ((سوزي)) إليه فقبلني وقبلته. |
وكان يرافق والدها رجل جاوز الأربعين، أصلع الرأس أشقر اللون عريض المنكبين أقنى الأنف، ضيق العينين قصير القامة واسع الصدر منتفخ البطن، فقدمه والد ((سوزي)) إلينا وأخبرنا أنه لبناني الأصل.. برازيلي الجنسية، له تجارة وأملاك واسعة في البرازيل، وقد شعرت - لأول مرة في هذه السنة - بانقباض خانق فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.. |
ووافت أيام الامتحان السنوي وما أصعبها أياماً، كان لقائي فيها ((بسوزي)) لقاء خاطفاً ولو تفرست في وجهها لتبينت أنها كانت تعاني آلاماً مكبوتة لم تتجرأ على مفاتحتي بها خشية أن تؤثر على نتائج امتحاناتي.. |
ونجحت بتفوق.. ونجحت ((سوزي)) بأعجوبة.. ولولا رصيدها السنوي من الدرجات.. لما نجحت.. وأسرعت أزف البشرى - بشرى نجاحي من جهة ولأطمئن إلى نجاحها في جهة أخرى. |
ولما تلاقينا، بشرتها بنجاحي، فهنأتني وسألتها عن نفسها فأخبرتني أنها نجحت بمعجزة.. ثم انفجرت باكية فخلت.. لأول وهلة - أنها دموع الفرح.. بيد أن دموع الفرح لا تخفى.. فسألتها عما بها فأخبرتني بما كانت تخشى أن تخبرني به في وقت الامتحانات.. قالت: |
ـ كان والدي حين كاتبته في أمر زواجنا يخشى إن هو مانع أن نقدم على الزواج في غيابه فبعث بموافقته الصورية.. كسباً للوقت.. والآن.. |
فقاطعتها قائلاً: |
ـ والآن ماذا؟ |
ـ يقاوم والدي بشدة هذا الزواج الذي يعدّه خروجاً على التقاليد ويهدد ويتوعد بالحيلولة دونه وأنه إن فشل فسينتحر.. |
ـ وأمك وخالك ما موقفهما؟ |
ـ فأجابت: |
ـ موقف المغلوب على أمره، والأنكى من ذلك أن والدي يرغب في تزويجي من ((جوزيف)) فصعقت وقلت: |
ـ ((جوزيف)).. يا للفظاعة.. إنه في سن أبيك، يا للقذارة!! الآن أدركت مغزى كلام والدك حين عرفنا ((بجوزيف)) وأطنب في وصف تجارته وثرائه وأملاكه.. وأمنت ((سوزي)) على كلامه بهز رأسها ثم أردفت قائلاً وقد بلغ بي الانفعال مبلغه.. |
ـ وأنت؟؟ ما موقفك؟ قولي بصراحة.. |
فأجابت.. والبكاء يخنق كلامها: |
ـ أنا والله حائرة بين والد يهدد ويتوعد ويصمم على الانتحار إن فشل، وحبيب ما عرف القلب شريكاً له في حبه.. الأمر بيدك يا ((فوزي)) لا بيدي.. |
ثم ارتمت على صدري، وأجهشت بالبكاء، فأسندت رأسها إلى كتفي ومسحت دموعها بمنديلي - وما زلت أحتفظ بذلك المنديل - وقلت: |
ـ نحن الآن في موقف انفعال شديد يصعب فيه الاستقرار على رأي، وما دمت تركت الأمر لي فسأعطيك رأيي غداً وإن غداً لناظره قريب. |
وافترقنا، وبدأت أقلب الأمر على وجوهه، بالطبع لم أنم تلك الليلة، وحينما لاحت تباشير الفجر، كان رأيي قد استقر على زيارة والد ((سوزي)) ومحاولة إقناعه.. فإن أفلحت فذلك ما ابغي، وإن لم افلح فعليَّ أن أفسح الطريق لغيري وأن أتحمل نتائج التضحية.. |
وفي الصباح التالي، زرت والد ((سوزي)) فرحب بزيارتي وفاتحته في موضوع زواجي فشرح لي الظروف التي تدعوه إلى مقاومة هذا الزواج: وهي ظروف دينية واجتماعية تضطره إلى أن يضحي بحب ابنته على مذبح التقاليد والعادات. فلم أجد بدّاً بعد ذلك من مباركة زواج ((سوزي)) من ((جوزيف)) على أني رجوته ألا يحرمني مقابلة ((سوزي)) أثناء بقائها هنا وأن يدعوني إلى حفلة زفافها فوعدني بذلك.. |
وانصرفت من عنده وقد اسودت الدنيا في عيني وقابلت سوزي فابتدرتني قائلة: |
ـ وماذا قررت؟ |
فأجبت وأنا أتمالك أعصابي المحطمة: |
ـ أرجو أن تصغي إلى قراري وأن تتحملي مثلما أتحمل.. |
فقاطعتني متلهفة: |
ـ ماذا قل بربك.. |
فقلت وأنا أتجلد.. |
ـ قابلت والدك هذا الصباح محاولاً إقناعه فأخبرني أن أسباب رفضه هو أنه مدين بمبلغ ضخم لجوزيف وأنه وعده بتسديده من أملاكه في بلده، وعندما عاد معه لاستيفاء دينه وجد أن أملاكه لا تفي بنصف الدين، وكان جوزيف قد رآك فقال لأبيك: زوجني ابنتك بالباقي من الدين. فقلت لأبيك: إنّي على استعداد لتسديد الدين الباقي فشكرني وأجاب: هناك ثورة دينية من القساوسة وأهل القرية على هذا الزواج لا يمكنني تحديها والوقوف في وجهها، ثم ذكر لي أن لجوزيف علاقات قوية ببعض الشخصيات المتنفذة في بلده ولا شك أنه سيثيرها ضدي.. فاقتنعتُ برأي والدك مكرهاً، وقررت ألا أقف حجر عثرة في طريق ارتأى والدك مضطراً أن يسير فيه، وعليَّ أن أتحمل نتيجة هذه التضحية، فهذا ما يفرضه علي إخلاصي وحبي لك.. |
فصرخت ((سوزي)): |
ـ إذاً، فقد انتهى كل شيء بيننا.. |
وشهقت شهقة خلت أن روحها فاضت معها وانخرطنا في البكاء ولا ندري كم من الساعات قضيناها ونحن على هذه الحال إلى أن قرع جرس شقتي فتحاملت على نفسي، وفتحت الباب وإذ بخالها هو الطارق، فرحبت به ودلف إلى الصالون فراعه منظري وملأت عينيه الدموع وبدأ يهون علي الأمر ويؤكد لي أن قضية ((سوزي)) لو تركت له ولأمها فما فضلا أحداً علي، ولكن الزواج قسمة ونصيب؛ فشكرت له شعوره الرقيق نحو قضيتي.. ثم سألني عن ((سوزي)) فأجبته أنها هنا.. |
ودخلت ((سوزي)) باكية وارتمت على صدر خالها وهي تقول: |
ـ أرجوك يا خالي، ساعدني في التخلص من هذا الزواج.. |
فقلت على الفور.. |
ـ لقد وعدني خالك بأنه سيفعل المستحيل من أجلك.. |
وإذا ((سوزي)) تشبع خدي خالها ووجهه قبلات أشبه بقبلات الأطفال لوالديهم وقد جاءهم بالهدايا، ثم اندفعت قائلة: |
ـ أحقاً ما يقوله (فوزي) يا خالي..؟ |
وهز خالها رأسه بالإيجاب، فشاعت الفرحة في وجه ((سوزي)) ولو إلى حين.. وذهبت معه.. وبقيت وحدي نهباً لآلامي وأحزاني.. |
ورأيت ((سوزي)) في اليوم التالي وكانت تتصنع التجلد والتصبر لتخفي ما يزداد في وجهها من شحوب وهزال، وقد عرفت ولا شك أن وعد خالها لا يقوم على أساس وإنما ما قاله لم يكن إلا مداراة للموقف، وقد كانت نظراتها تنطق بذلك وإن لم ينطق لسانها.. |
وجاء يوم حفلة الشهادة، فخطت ((سوزي)) إلى المسرح وهي تجر رجليها جراً، لتتسلم شهادتها وقد تجسم الهزال في وجهها المصفر كأنما صبغ بمادة ((المصفر)) وبعد انتهاء الحفلة أسرعت إليها مهنئاً ثم سلمت على والديها وخالها و ((جوزيف)) وكان قد حضر الحفلة معهم وبعد ذلك ودعوني وذهبوا. ويعلم الله كيف قضيت ليلتي إذ لم أنم حتى لاحت تباشير الصباح.. ويظهر أني استغرقت في نومي لم أصح إلا على قرع جرس غرفتي فتطلعت إلى ساعتي فإذا هي العاشرة صباحاً، فأسرعت وفتحت الباب وإذا الطارق ((سوزي)) فرحبت بها وأجلستها على مقعدها المفضل وراعني ما اعتراها من نحول وهزال، فقلت وقد أخذ كل منا مقعده: |
ـ ((سوزي)) في نفسك أشياء تحاولين إخفاءها عني وما تعودت منك إخفاء أي شيء عني.. فهل تغيرتُ حتى تغيرتِ؟ |
فأجابت: وقد فجاءها سؤالي: |
ـ كيف عرفت ذلك؟ |
ـ شحوبك الظاهر. فكرك الشارد وأحاديثك غير المركزة.. |
فقال على الفور: |
ـ هل تنتظر مني أن أقابل هذه النتيجة بمظاهر التهليل والتكبير؟ |
فقلت أستدرجها: |
ـ لا، ولكنك تبيتين أمراً عظيماً؛ قلبي يحدثني بذلك وما كذب ايحاؤه. |
وجلست بجوارها في المقعد وعبثت أصابعي بشعرها الأشقر وإذ بها تنتفض كالعصفور بلّله القطر، وترتعد كأنما سرى بجسمها مس كهرباء، فضممتها إلي، وقلت: |
ـ ((سوزي)) حبيبتي ما بك أجيبي.. |
ورنت إليّ بعينين ذابلتين شعَّ من بؤبؤهما شعاع وهاج في يوم ما أقوى ولا أنفذ منه في تلك الساعة، وافترَّ ثغرها عن ابتسامة ترنحت نشوى على شفتيها الظامئتين فلم أطق صبراً فأهويت لثماً وتقبيلاً. وتجاوبت عواطفنا فغمرتني بقبلاتها الحارة ولم تترك في وجهي مكاناً إلا أمطرت قبلاتها منه، ثم استرخت على صدري وقد أحسست بجسمها الرخص وتضوعت أنفاسها الذكية فغلى الدم في عروقي واشتدت نبضات قلبي.. وشعرت ((سوزي)) بذلك فأدارت وجهها الوردي وقد اختفت صفرته.. وقالت والإغراء يشيع في كل لفظة من كلامها والفتنة تنطق في كل حركة من حركاتها: |
ـ أنا ملك يديك.. فاعمل بي ما تشاء.. |
ثم أغمضت عينيها وكدت أستجيب لهذا النداء الصارخ، ولكني تمالكت وهبطت علي فكرة قدسية علوية هي لا شك من وحي حبي الصادق الأمين.. فتجاهلت ما ترمي إليه عبارتها وقلت: |
ـ لو كنت حقاً ملكاً لي - كما تقولين - لأطلعتني على ما يعتمل في نفسك من سر رهيب، فندّت عن صدرها زفرة مكبوتة وأجابت: |
ـ عش ليومك.. ولا تفكر في غدك. |
فقاطعتها قائلاً.. |
ـ إني أفكر في يومي كما أفكر في غدي.. وأنتِ فكر يومي وغدي.. |
فنهضت عن صدري وعاودها شحوبها وهزالها وقالت: |
ـ ستعرف ذلك عن قريب.. |
ثم تطلعت إلى ساعتها واستأذنت وانصرفت على عجل.. وخلفتني فريسة أوهامي وقلقي. |
وفي اليوم التالي.. تلقيت بطاقة الدعوة لحضور حفلة إكليل ((سوزي)) على ((جوزيف)) وخيل إلي في سرعة - أن في هذه البطاقة ((السر الرهيب)) الذي كانت تحاول إخفاءه عني.. |
وفي أول لقاء بيننا ابتدرتني ((سوزي)) قائلة: |
ـ أعرفت ما كنت أخفيه عنك؟ |
فأجبت: |
ـ نعم.. |
وقد صعدتها وكادت روحي تصعد معها.. |
وقللت سوزي من زياراتها لي.. وكنت أعلل ذلك باستعدادها لحفلة ((الإكليل)) ولست في حاجة إلى وصف ما كنت أعاني من عذاب كي استمرىء هذا التغيير واستعد لتحمل الآلام المقبلة.. |
وفي عصارى اليوم السابق لحفلة الإكليل، وافتني ((سوزي)) في ملابس زادتها فتنة فوق فتنتها الصارخة وجمالاً على جمالها الساحر، فبدت كملاك جاء إلى هذه الأرض ليملأها بهجة وأفراحاً كما ملئت أحزاناً، وأتراحاً فسلمت علي فقلت لها.. |
ـ إنك تبدين اليوم أكثر فتنة وجمالاً وجاذبية منك في أي يوم منذ تعارفنا، ولقد سررت بما تظهرين من روح معنوية قوية تتأهب لتحمل أعظم التبعات والتضحيات، فابتسمت وقالت: |
ـ أحقاً تقول؟ أم إنها عين الرضا؟ |
فأجبت مؤكداً.. |
ـ هذا هو الواقع وأنت تعرفين أنني لا أجامل أحداً. |
فاعتدلت في جلستها وقالت: |
ـ تجملت بأحسن ثيابي وأتيت لتوديعك؛ فغداً مساءً سأكون في بيت الزوجية وبعد غد سأبحر إلى البرازيل. |
فقلت وأنا أتصنع التعبير: |
ـ أتسمحين بأن نتعشى الليلة معاً، ونخرج بعده نستجلي معاني الطبيعة في هذه الليلة المقمرة.. |
فتطلعت إلي وقالت: |
ـ كأنك تقرأ ما كان يجول بخاطري.. ليكن عشاؤنا الليلة ((العشاء السري)) من يدري؟ أنلتقي ثانية أم أن هذا هو اللقاء الأخير..؟ |
لا أدري ماذا أصابني عندما لفظت ((سوزي)) عباراتها الأخيرة، وكل ما أعلم أنني ارتميت على سريري وقد غرقت في دموعي أنشج نشيج الثكالى وأعول عويل الأيامى.. و ((سوزي)) تحاول بحنانها وقبلاتها تهدئة ما اعتراني من دون جدوى. وأخيراً تغلبت العاطفة عليها فانهمرت دموعها مدراراً على خدي وصدري وامتزجت دموعنا وسالت تسطر أروع قصة عرفها تاريخ الحب.. |
وفعلت دموعها في نفسي ما عجز عنه سحر قبلاتها، وهكذا رأيتني أكفكف دموعي وأجفف دموعها وأنهال لثماً وتقبيلاً فلم أترك مكاناً في وجهها إلا أشبعته لثماً وتقبيلاً.. |
وابتسمت ((سوزي)) فاهتز كل عضو فيها فتنة وإغراء وضمتني إليها وقد استشرت الأنوثة الطاغية فيها ورددت ما قالته أمس: |
ـ أنا ملك يديك فافعل بي ما تشاء. |
فأفلت من بين يديها وقلت: |
ـ أنت لي روح ومعنى.. أما جسدك فملك لغيري.. |
فأجابت وهي معجبة بموقفي.. |
ـ أنت مثالي في حبك. |
فقلت مندفعاً.. |
ـ إن الحب الطاهر ليسمو على المادة.. والجسد متعة مادية سهلة المنال في كل وقت ومكان، الحب للجسد وحده أحط درجات الحب، لقد كنت أطمح أن تكوني لي روحاً وجسداً ولكن... ((ما كل ما يتمنى المرء يدركه)) لا.. لا أريد أن أدنس حبي الطاهر بالمتعة الجسدية.. والله لو تأكدت أنك جادة في إغرائك أمس واليوم لأدركت بداهة أنني لست الرجل الأول الذي تستجيبين له ولحقَّ لي آنئذ أن أرمي بك عرض الطريق، ولكني أعلم علم اليقين أنك كنت تقومين بأقسى وأخطر تجربة في حياتك لتتأكدي مبلغ صدقي في حبي.. ووالله - أقولها وأنا غير حانث - لو أنك أحسست بميل مني للمتعة الجسدية - قبل أن ترتبطي برباط الزوجية المقدس - لأسقطتني من برجي العالي في نظرك إلى أسفل السافلين. |
فاعتدلت في جلستها ونظرت إليّ وقد شاع الفرح في وجهها بعدما كان مربداً عندما بدأت كلامي ثم قالت: |
ـ هذه تجربة ثانية تجتازها وأنت مرفوع الرأس عزيز الجانب ولا أدري أتصمد للتجربة الثالثة أم يجرفك تيار النسيان فتنسى من لم تنسك ولن تنساك.. فقلت معتداً: |
ـ سأصمد للتجارب مهما تكن قسوتها ومرارتها: |
فنهضت ((سوزي)) وأخذت يدي في يدها وقالت: |
ـ سطّر أيها التاريخ للأجيال القادمة قصة حبيبين سما حبهما على المادة وترفع عن الصغائر. هيا بنا يا حبيبي نتعشى عشاءنا الأخير.. |
ومرت سحابة حزن على محياها وهي تلفظ عبارتها الأخيرة.. فقلت: |
ـ إنه عشاؤنا الأول لا الأخير.. |
فأجابت بصوت منخفض: |
ـ أرجو أن يكون ذلك.. |
وتعشينا وكانت تأكل ((سوزي)) بشهية لم أعهدها فيها من قبل، وجاريتها في عشائها ومرحها وأنا ((كالطير يرقص مذبوحاً من الألم)). لقد كنت أحسّ نذر الكارثة وليس بيدي ما أدفع به القدر.. |
وامتطيت سيارتي - بعد العشاء - وهي بجانبي وخرجت للنزهة، وكانت تستوقفني كلما رأت منظراً من مناظر بلدها وتتأمَّل فيه كأنها تستودعه ثم تتنهد - وما أكثر ما تنهدت - وحاولت أن أعرف ما تنوي عمله في حياتها الجديدة المستقبلة، ولكنها كانت تتملص من الإجابة وترجوني ألا أكدر صفو هذه الليلة. |
وتطلعت لساعتها ثم قالت: |
ـ عد بنا، فقد انتصف الليل وأخشى قلق أهلي من طول غيابي. |
وعدنا، وقبل أن نصل إلى دارها بأمتار قالت: |
ـ قف هنا... |
فوقفت ورنت إلي ثم قبلتني وقبلتها قبلة طويلة أودعناها ما ندخر من عاطفة وحب.. وافترقنا وهي تقول: |
ـ إياك أن تتخلف عن حفلة الإكليل.. |
فوعدتها بالحضور.. ولما اطمأننتُ على دخولها دارها، عدت أدراجي وقد غشيت عيناي حزناً.. وكم من مرة كدت أصطدم بسيارة أو عمود أو شجرة.. |
وسار موكب العرس إلى الكنيسة وكان موكب جناز لا حفل عرس و ((سوزي)) بجانب عريسها صامتة مطرقة يعروها اصفرار شديد رهيب.. كأنما كانت تساق إلى المقصلة.. |
وقد سبقت الموكب إلى باب الكنيسة - لأستقبلها.. وأتزّود بنظرة منها ربما كانت النظرة الأخيرة... ووصل الموكب باب الكنيسة وترجلت ((سوزي)) ومشت تتأبط ذراع عريسها، ولما أبصرتني ابتسمت ووضعت إصبعين من اصابع يدها في فمها. |
ودخلت الكنيسة وتبعتها وحرصت على أن يكون جلوسي أمامها. ولما بدأ الكاهن يتلو المراسيم الدينية الخاصة بالزواج، تطلعت ((سوزي)) هنا وهناك ورأتني قبالها فابتسمت أيضاً ثم تغير وجهها وتصببت عرقاً كانت تحاول تجفيفه بمنديلها.. ولما وصل الكاهن إلى قوله ((ضعي يدك في يده)) رنت إلي وامتقع وجهها واصفرت كالجرادة وقبل أن تمد يدها للكاهن اهتزت ثم ترنحت وسقطت على الأرض. |
وساد الكنيسة هرج ومرج فمرقتُ كالسهم وحملتُ ((سوزي)) وركضت بسرعة ووضعتها في أول سيارة وجدتها بباب الكنيسة وقلت للسائق.. |
ـ أسرع إلى أقرب طبيب.. |
وانطلقت السيارة كالبرق إلى أول عيادة صادفناها فأنزلتها وحملتها إلى غرفة المعاينة، وبدأ الطبيب في إسعافها وفي أثناء ذلك وصل إلى العيادة والداها وخالها وعريسها والكاهن.. والتفت الطبيب إلينا وقال: |
ـ إنها حالة تسمم خطيرة ونجاتها منها معجزة.. يجب نقلها إلى المستشفى الكبير حالاً، ففيه الاستعدادات لمثل هذه الحالة.. |
وحملناها وهي فاقدة الوعي، إلى السيارة انطلقت بنا في سرعة الريح إلى المستشفى الكبير. وبدأ الأطباء في إسعافها وهي في غيبوبة حتى الهزيع الأخير، ونحن ننتظر على أحر من الجمر في الصالون، عندما دخل علينا الطبيب المداوي وقال: |
ـ لقد صحت ((سوزي)) ولكنها متعبة جداً وقد طلبت - بإصرار استدعاء وكيل النيابـة لتسجيل اعترافاً خطيراً بحضور والديها وخالها و ((جوزيف)) و((فوزي)) فتطلعنا في وجوه بعض، وإذا بخالها يقطع وجومنا فيقول للطبيب: |
ـ أدع من فضلك وكيل النيابة حالاً.. |
وحضر وكيل النيابة ودخلنا معه إلى غرفة ((سوزي)) فقدم نفسه إليها فتطلعت ((سوزي)) في الحاضرين ولما أبصرتني بينهم قالت بصوت خافت متقطع الكلمات: |
ـ سجل.. يا وكيل.. النيابة.. أنا التي.. سممت.. نفسي.. لأتخلص.. من.. زواج.. أكرهني.. والدي عليه.. سجل.. ظلم.. الآباء.. للأبناء.. ثم أشارت إليّ وقالت: |
ـ ((فوزي)) يا أنبل من عرفت.. أدنُ مني.. ضع.. يدك.. في.. يدي.. ولما ترددت خجلاً من عريسها قالت وهي تغالب سكرات الموت: |
ـ ((فوزي)).. تعال.. لا تخف أتخشى.. ((جوزيف)).. إني.. أكرهه.. ألعنه.. |
فانسحب ((جوزيف)) من الغرفة إثر هذه اللعنات.. ودنوت منها ووضعت يدها في يدي وقربتها من خدها.. وأنا أغالب دموعي. وأحاول كبت أحزاني من الانفجار.. ثم تطلعت سوزي إلي وقالت: |
ـ ((فوزي)) أنت.. زوجي.. الذي.. ارتضيته.. ولم يرضه.. لي.. الإنسان.. الظالم.. ((فوزي)) هذا.. هو.. السر الرهيب.. الذي.. أخفيه عنك.. ((فوزي)).. أرجو.. أن.. تص.. مد.. هذه.. التجربة.. الثالثة.. وألا.. خيره.. |
ثم فاضت روحها إلى خالقها تشكو ظلم الإنسان للإنسان... ووسدنا ((سوزي)) مثواها هذا - وأشار إلى القبر الذي وجدته عنده - وعدت إلى وطني بعدما أدخلت أباها ((مستشفى المجانين)) فقد جن المسكين من هول الفاجعة التي كان هو سببها وصفيت أملاكي وتملكت بدلاً منها في عاصمة بلد ((سوزي)) واستوطنت هذه القرية - قرية ((سوزي)) وأبت أمها وخالها إلا أن أسكن معهما فاستجبت لرغبتهما. |
واعتدت في كل ليلة أن أزور هذا القبر (قبر سوزي) عندما تنام القرية فأبكي وأبكي حتى مطلع الفجر.. |
ثم انحنى نحو قبرها يبكي.. وما يزال.. |
|