((أنكل توتو))
|
UNCLE TOTO |
وفتياته الثلاث |
و((اونكل توتو)) اسم ((الدلع)) أطلقته فتياته الثلاث عليه، وقد عرف بهذا الاسم أكثر من اسمه الحقيقي في الأيام الأخيرة. |
أما الفتيات الثلاث، فكانت الأولى والثانية منهن من بيتين معروفين، أما الثالثة، فمجهولة الأصل مغمورة النسب. |
كانت ((سوسو)) وهي ابنة ((انكل توتو)) ربعة القامة، أقرب إلى القصر منها إلى الطول، قمحية اللون، أجمل ما فيها عيناها ((كما يقولون)). وكانت ((فوفو)) - وهي من صديقات ((سوسو)) سمراء اللون، فارعة الطول وهو أجمل ما فيها. أما ((لوسي)) أو الفتاة الثالثة، فليست بالقصيرة ولا بالطويلة لونها أبيض يشوبه اصفرار هو صدى لحياتها الأولى البائسة. |
نشأت ((سوسو)) في كنف والدها الذي استطاع بذكائه وشخصيته الطاغية أن يتدرج في وظائف الحكومة فيصبح بعد مدة الرجل الأول في بلده والحاكم بأمره فيه، وأصبح رئيس الدولة ((شرابة خرج)) في يده يوقع على ((بياض)) جميع ما يريده العم ((توتو)). |
وأول ما تفتحت عينا ((سوسو)) للحياة تفتحت على نعيم وارف وعز بازخ، ولما كانت الإبنة الوحيدة لوالدها، فقد غمرها برعايته وحنانه.. وأفرط في تدليله لها حتى شبت عن الطوق لا يردّ لها طلب ولا تنزل لها كلمة.. بيد أن تدليل والدها لم يرق لأمها - والأمهات أفقه بتربية الأولاد من الآباء - فأرادت الأم أن تحدّ من عنفوان ابنتها وتسلطها، فلم تستطع ذلك، لأن والد الفتاة كان يفسد ما تحاول الأم إصلاحه. |
وهكذا بدأ الصراع بين البنت وأمها وكان صراعاً عنيفاً، انتهى - مع الأسف - إلى الوقيعة بين الوالدين، وانتصار الفتاة على أمها، والإصرار على والدها بهجر أمها التي اضطرت إلى مغادرة ذلك البلد إلى موطنها الأصلي. وبذلك أصبحت ((سوسو)) سيدة البيت الأولى، وأصبح والدها تحت رحمتها. |
أما ((فوفو)) فلا نعرف إلا النزر اليسير عن نشأتها الأولى، وجل ما عرفناه عنها - فيما بعد - أن والدها كان تاجراً اشتهر عنه وعن أفراد عائلته اللؤم والبخل وقلة الوفاء. وقد ورثت ((فوفو)) هذه الصفات عن والدها وعائلتها.. |
كذلك ((لوسي)) لاندري شيئاً عن والديها ولا عن حياتها إلا ما كان يتناقله المنافقون عنها - بعد أن بلغت مركزاً مرموقاً في ذلك البلد - من أنها كانت الابنة الوحيدة لأبوين كريمين يمتّان إلى أصل غير عربي.. و.. إلى ما هنالك من حسب رفيع وأصل كريم..؟! |
ووقعت أحداث وفتن طاحنة متوالية في بلاد ((فوفو)) و ((لوسي)) واجتاح الغاصبون أكثر تلك البلاد، فاضطر والد ((فوفو)) إلى النزوح إلى البلد المجاور، وهاجرت ((لوسي)) أيضاً إلى نفس البلد نفسه وحيدة لا والد ولا والدة ولا أخوة ولا أقرباء. |
في ذلك البلد الطيب الذي أواهما كما آوى الكثيرين والكثيرات، اشتغلت ((فوفو)) بالتعليم في إحدى مدارس الإناث. أما ((لوسي)) فتسكعت هنا وهناك، وكان لها من خفة روحها وزلاقة لسانها، سلاح فتاك آخر، غزت به قلوب بعض شباب ذلك البلد، الذين لم يروا المرأة السافرة إلا من ثقوب الأبواب، وفجوات الشبابيك، أو من تسور الجدران و((الأسطحة)). وقد استغلت ((لوسي)) هذا الاقبال والرواج في ذلك البلد المتزمت، فاختارت أصدقاءها الشباب المرموقين أو الموظفين الذين بيدهم الحول والطول. |
وهكذا اشتغلت ((لوسي)) بالصحافة تنشر فيها مقالات يكتبها لها أحد المعجبين، وليس لها منها إلا التوقيع. وكانت تعالج في تلك المقالات حالة المرأة في ذلك البلد، وأحياناً تكتب في السياسة والأدب، وما أكثر المتطفلين على السياسة والأدب. |
وقد لاقت مقالات ((لوسي)) عن المرأة صدى عميقاً في الأوساط النسائية الحبيسة بين جدران أربعة في ذلك البلد، ففتحت لها البيوت على مصراعيها وانهالت عليها الدعوات، فولجت الدور معززة مكرمة، وتخيرت صديقاتها من ربّات تلك القصور اللائي أنست فيهن وسائل لبلوغها أهدافها ومطامعها. |
وفي الطليعة كانت ((سوسو)) و ((فوفو)). فقد وجدت فيهما ضالتها المنشودة وأملها الباسم. |
أما مقالاتها السياسية والأدبية، فقد صادفت هوى في نفوس الشباب الذين كانوا يرزحون تحت ضغط ولاة قساة غلاظ كمموا أفواه الشباب الداعين إلى الإصلاح وزجّوا ببعضهم في غياهب السجون ونفوا آخرين إلى قرى نائية، ويقال إن شاباً كان يتمتع بمركز حكومي عال هو الذي كان يدبّج لها المقالات السياسية والبحوث العلمية الأدبية. |
وفي الوقت الذي كانت فيه ((لوسي)) في ذلك البلد، كانت الثورة على أشدها في موطنها الأصلي، رأت بعض الدول المستعمرة، التي يهمها أمر الثورة المندلعة في ((لوسي)) عيناً يقظة يمكن الاستفادة منها في تلقف الأخبار.. فاتخذتها جاسوسة تنقل ما يدور في البيوت وفي الأسواق والمجتمعات والأندية. وما انتهت الثورة، وانتهت مهمة ((لوسي)) حتى وجدت أن لديها ثروة لا بأس بها تعينها على استكمال ما كان ينقصها من تعليم وتثقيف، فالتحقت بإحدى الجامعات الأجنبيّة خارج ذلك البلد. |
و ((سوسو)) هي التي أشارت على ((لوسي)) بالانتساب إلى تلك الجامعة لأنها تخرجت هي فيها.. |
وفي غياب ((لوسي)) كانت أنوثة ((سوسو)) قد اكتملت، ومفاهيمها للحياة قد تغيرت، والتفَّ الكثيرون من المعجبين والمعجبات بها وكلهم طامع في زلفى تقربهم من أبيها، وندر من كان لأنوثتها سلطان على نفسه، فليس في صلفها وعجرفتها وكبريائها وخيلائها، ما يذكي أوار الغرام. ومن المضحك أن ((سوسو)) كانت تعتقد في قرارة نفسها أن التفاف هذا النفر من المعجبين والمعجبات، إنما هو تهافت الفراش حول المصباح أو النحل حول الزهر، وكلما زاد عدد المعجبين والمعجبات، أمعنت ((سوسو)) في عنتها وزهوها.. واذا عرفنا أن الفقر والجدب هما شعار ذلك البلد، تجلت لنا أسباب هذا التهافت على ((سوسو)). |
و((فوفو)) هي التي مكنت هذه العقدة في نفس ((سوسو)) اذ كانت كثيراً ما تمتدح جمالها في وجهها أو في المجتمعات الخاصة والعامة، ورحم الله شوقي حين قال: ((والغواني يغرهن الثناء)). |
وهكذا تأصلت هذه العقدة النفسية في ((سوسو)). فوجد الغرور فيها وفي كل خلجة من خلجاتها مرتعاً خصباً، ولا عجب اذا ما رأينا ((سوسو)) لا ترى أجمل منها، ولا أفهم منها، ولا أعلم منها في ذلك البلد، فهي اذن في مرآة نفسها فتاة ذلك البلد الأولى، كما أن والدها رجله الأول، بل لقد بلغ بها الغرور مبلغاً جعلها تعتقد أن عقلها الشاب فيه من الوعى وعمق التفكير ما يعجز عنه عقل والدها الكهل... |
وشرعت ((سوسو)) تتدخل في شئون الدولة، فتولي وتعزل، وتقرب، وتبعد، ووالدها ضعيف الإرادة اذا واجهها، قويها اذا ما ابتعدت عنه.. ولقد ذهبت ((سوسو)) إلى أقصى حد في تدخلها، فكانت ترافق أباها في سفراته لحضور المؤتمرات السياسية الدولية، والمفاوضات والمباحثات، وكانت بطبيعة الحال تطلع على كل ما يدور فيها من أسرار.. |
وكانت ((فوفو)) - في غياب ((سوسو)) تقوم بمهمة الرقيب على ما يدور من همسات في ذلك البلد، وعندما تعود ((سوسو)) تقدم لها التقارير اللازمة بما حصلت عليه من معلومات.. وكم كان في هذه التقارير من مغالطات.. فتصب ((سوسو)) جام غضبها على ((المعارضين)) وتنزل رحمتها على ((الموالين)). |
ويظهر أن ((انكل توتو)) بدأ يحس بلغط الناس وسخطهم من تدخل ابنته في أمور الدولة، فأراد أن يحد من هذا التدخل ففكر ثم فكر فهداه تفكيره إلى تزويج ابنته، لعل الزواج ومستلزمات البيت تصرفها عن زج أنفها في شئون البلد. |
فاختار لها شاباً ثرياً من أعيان البلد يفضل ابنته خلقاً وخلقاً، فقربه منها وجمعها به، وقد أحست ((سوسو)) لأول مرة، بقلبها يخفق، وبالغريزة الأنثوية تصحو بعد طول سباتها. وكان الشاب ووالدها يعملان جاهدين على ايقاعها في الفخ الذي نصباه لها كل بدوره، وبما يوحيه إليه تفكيره. وكادت ((سوسو)) تقع في الشباك لولا أن ((فوفو)) فطنت لهذه المؤامرة وما تنطوي عليه من قضاء مبرم على علاقتها ((بسوسو)) فكاتبت ((لوسي)) وقصت عليها القصص.. فاجابتها بأن تعمل ما وسعها - لإحباط هذه المؤامرة وإقصاء هذا الشاب الوقح من الطريق.. |
وبدأت ((فوفو)) في رسم الخطط، ولم يأخذ ذلك من وقتها كثيراً، اذ كانت على علم بمواطن الضعف في شخصية ((سوسو)) وبدأت أول ما بدأت بمدح ذلك الشاب الثريّ ما شاء لها أن تمدح ثم قالت: |
ـ يا ليت هذا الشاب، على ما أوتي من ثراء يحمل شهادة جامعية كما تحملين.. اذن لقطعنا ألسنة الناس الذين يقولون إنك ستتزوجينه طمعاً في ماله. |
قنبلة ذرية زلزلت كيان ((سوسو)) وعصفت بأحلامها، بأطواد أمانيها، ولم تصح من ذهولها إلا على صوت الغرور، وقد انطلق من أساره يقول لها: |
((سوسو)) معبودة الشعب.. زهرة المجتمعات - ملاك الرحمة.. نصيرة البؤساء.. أية جريمة أنت مقدمة عليها؟ أية قيود وأصفاد تكبلين نفسك بها، وأنت التي خلقت لتملئي هذا الوجود مرحاً وأنساً وأفراحاً.. ما الحب؟ ما الزواج؟ سلاسل وأغلال، رق، واستعباد، ذل وهوان.. لمن؟ شاب لا يماثلك في أخلاقك وصفاتك، وخصالك، ومروءتك.. اطرحي عنك هذه الأوهام وتعالي.. تعالي.. تعالي.. |
مر كل ذلك بخاطر ((سوسو)) كلمح البصر، واذ بها تعتدل في جلستها تخاطب ((فوفو)). |
ـ أختاه! أنت ملاك رحمة، أرسله الله ليكشف عني هذه الغمة، ويزيل عن بصري هذه الغشاوة.. لقد كاد الحب يجرفني.. ولولا أنك انقذتني لابتلعتني أمواجه، ولظللت عمري هدفاً لسخرية الناس وتهكمهم، وتسلية لهم في مجتمعاتهم.. |
واهتبلت ((فوفو)) الفرصة فأردفت تقول: |
ـ كم كان يحزنني وأنا أراك تنساقين إلى الهاوية، وكلما فكرت في انقاذك.. كنت أقدّم رجلاً وأؤخر أخرى خشية أن تصدمني عواطفك العارمة، ولكن وقد رأيتك وشيكة التردي، صارحتك من دون أن أحسب للنتائج حساباً يحفزني إلى ذلك إخلاصي ووفائي لك. ويسرني أن أضيف إلى ما قدمت، من حديث الناس عن ذلك الشاب - أن أسرته محافظة جداً أو متعصبة إلى أبعد حدود التزمت والتعصب الديني. |
وما كادت تنتهي ((فوفو)) من حديثها حتى ابتدرتها ((سوسو)) قائلة بحزم: |
ـ لا زواج بعد اليوم، سأبعد هذا الشاب عن طريقي، وسأعرف كيف أحبط مؤامرة والدي.. |
ما أقدر المرأة على التخلص من العقبات.. لقد أبعدت ((سوسو)) الشاب من طريقها، وأحبطت مؤامرة والدها، وكانت صدمة قاسية له، مرض على اثرها مرضاً كاد يودي بحياته، ولولا لطف الله به وعناية الأطباء لكان في عداد الهالكين. |
وعادت ((لوسي)) تحمل شهادة جامعية، يعلم الله كم أراقت من مالها وجسدها في سبيلها، وانتظم شمل مثل ((الثالوث)) وبدأ تدخله في شئون الدولة تدخلا منظماً سافراً استهدف جميع مرافق الحياة في ذلك البلد.. |
ولما كانت حياة ((لوسي)) الأولى - كما اسلفنا - حياة بؤس وشقاء، وفقر مدقع، فقد آلت على نفسها أن تمحو تلك الصفحة السوداء من حياتها، فأشارت على ((سوسو)) و ((فوفو)) بدور ((مستشار الرأي))، و ((سوسو)) بدور المنفذ، وقد انهالت عليهن الثروة بحساب وغير حساب، حتى أصبحن في عداد المليونيرات.. |
وتشاء الظروف مساعدة هذا ((الثراء المحرم)) فيغرم ((انكل توتو)) بـ ((لوسي)) غراماً عارماً يذكرنا ((برجوع الشيخ إلى صباه)) ويصبح هذا الحب حديث الناس في ذلك البلد الطيب، يتندرّون به في مجالسهم وأنديتهم. |
ومن الغرابة بمكان أن تنمي ((سوسو)) هذا الحب وتباركه، وكانت تضحك ملء شدقيها عندما ترى والدها الكهل يرقص، و ((لوسي)) بين ذراعيه، وهي فرحة بهذا التطور الجديد في حياة والدها، فتغمز ((فوفو)) قائلة: |
ـ والدي أصبح مودرن يا ((فوفو)) إني بحاجة إلى الحب الذي فقده بزواجه من والدتي، فقد أذاقته الأمرين بمعاملتها الشاذة وعقلها الرجعى. |
ـ يا للفظاعة! يا للعقوق! |
ورأى الشاب الواعي في هذا البلد أن السيل قد بلغ الزبى، وأن الكيل قد طفح، فتوالت اجتماعاتهم بعقلائهم واستقر رأيهم على تبصير رئيس الدولة بما يجري في بلده، وانتظمت اجتماعاتهم واتصالاتهم السرية برئيس الدولة وهم يشجعونه ويضعون أرواحهم وأموالهم في سبيل إنقاذ البلد. |
ولما أحس رئيس الدولة بالتفاف المخلصين من أبناء بلده وتأييده له تأييداً مطلقاً، أمر بالقبض على ((انكل توتو)) وتشكيل محكمة خاصة لمحاكمته، بيد أن الأجل وافاه قبل موعد المحاكمة.. أما الفتيات الثلاث فقد اختفين وطواهن الظلام. |
|