شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نداء الطبيعة
فجع ((خالد)) في أول حب له، إذ اختطفت يد المنون فتاة أحلامه، فبرم بالحياة، وقد برمت به، وتنكر لها، وقد تنكرت له، فكانت هي حيث لا يكون، وكان هو حيث لا تكون.
وصدمت ((هالة)) في أول حب لها، وكان حباً عارماً، إذ سرعان ما اكتشفت أن من أحبت كان طامعاً في ثرائها لا في شخصها وما امتازت به من جمال وخصال ومؤهلات.
واستحكمت الصدمة في ((هالة)) واستبدت بها فأصبحت تحتقر جنس الرجال، وتستريب منهم، وتتجنّب الاختلاط بهم أو الجلوس إليهم إلا بقدر ما تتطلبه ضرورات الاتصال اليومي ومقتضيات الحياة.
ونشأ ((خالد)) نشأة عصامية، فبعد حصوله على ((ليسانس الحقوق))، افتتح مكتباً للمحاماة، وخطا خطوات ثابتة، وجال جولات موفقة، فأصبح مرموقاً بين هذه الطبقة من الناس..
وكان ((خالد)) وحيداً لأبويه اللذين أبى الدهر الخؤون إلا أن يحرمه منهما ومن عطفهما وحنانهما.. فقد احتسبهما - بعد تخرجه في الجامعة.
وهكذا جابه ((خالد)) أعباء الحياة وحيداً لا قائد ولا مرشد إلا ما زوّده به والده من تربية عالية، وغرس فيه من أخلاق متينة فاضلة.
أما ((هالة)) فقد ولدت وفي فمها ملعقة ذهب، فوالدها كان من سراة قومه وأعيانهم، له جاه عريض، ومكان رفيع في مجتمعه وبيئته.. فنشأت - وكانت وحيدة والديها، نشأة ((بنات الذوات)) وكاد تيار النعمة واليسار يجرفها إلى المصير الذي كثيراً ما يتعرض له أبناء هذه الطبقة المترفة، لولا أن القدر تدخل فغيّر مجرى حياتها، فقد توفي والدها - في فترات متقاربة - وهي في الثامنة من عمرها، فكفلتها جدتها، وكانت صلبة العود، شديدة المراس، يجري في عروقها دم الشركس، والشركس قوم عرفوا بالبأس والشدة وقوة الشكيمة.
وطفقت الجدة تروض حفيدتها على حياة جديدة غير التي كانت ((هالة)) قد ألفتها، وقد لاقت في أول الأمر صعوبة في ترويض هذه ((الطفلة المدللة)) بيد أن سياسة الشدة واللين، والترغيب والترهيب - مع الأيام - قلبت أوضاع هذه الطفلة رأساً على عقب، فاخشوشنت ((هالة)) ومارست حياتها الجديدة واستمرأتها.
ودخلت ((هالة)) المدرسة، وانتظمت بين طالباتها فكانت مثلاً عالياً لزميلاتها.. والتحقت بعدها بالجامعة وحصلت بتفوق على دبلوم التربية والتعليم.
واستقبلت حياتها الجديدة بالتدريس في إحدى مدارس البنات الحكومية، واشتركت في الجمعيات النسائية للبر والاحسان، فكان لها فيها جميعها نشاط محسوس، وخدمات إنسانية جليلة، رددتها المجتمعات بالشكر، وتحدثت عنها الصحف بالثناء.
وأول لقاء ((خالد)) بهالة كان في إحدى حفلات ((البازار)) الخيري التي أقامتها إحدى الجمعيات التي تنتسب إليها ((هالة)) فقد رآها وهي تعرض قسماً من مصنوعات هذه الجمعية، فتسمر في مكانه، وطفرت أفكاره إلى الماضي البعيد، فإذا ((هالة)) صورة حية لفتاة أحلامه، بعثت من مرقدها لتبعث فيه حباً مات في مهده، ولكنه كان مسجى في قلبه، يطوف به في غدوه ورواحه، وحله وترحاله، في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه.
وقف ((خالد)) يتأملها مشدوها، فتمثلت له الذكريات، حلوها ومرها، وصلها وهجرها، وإذا بقلبه يخفق في سرعة زائدة، وإذ بالدموع تغشى عينيه.
وقد لاحظت ((هالة)) ما اعتراه فسألته:
ـ ما بك أيها السيد.. أتشكو من شيء..؟؟
فصحا - على كلامها - من حلمه الجميل، وأصابه ارتباك، على أنه - أخيراً تماسك فابتسم وقال:
ـ اسمي ((خالد)) أشكرك يا آنسة..
وتوقف ليعرف اسمها فأجابته.
ـ ((هالة))..
فقال على الفور:
ـ تشرفنا يا آنسة ((هالة)): إني أشعر بصداع..
فأخرجت من درج منضدة العرض حبة اسبرين وأعطته إياها، فابتلعها وشكرها، ثم اشترى مما كانت تعرض وانصرف يتابع طوافه ((بالبازار)) ويختلس النظر إلى ((هالة)) كلما وجد إلى ذلك سبيلا..
وجرى ((مزاد)) على سجادة اثرية نفيسة، تولت ((هالة)) الاشراف عليه، فتنافس المتنافسون، وتبارز الرأسماليون.. وقد كان لجمال ((هالة)) الفضل الأول في هذا الصراع.. وارتفع رقم المزايدة، و((خالد)) في الطليعة.. وأخيراً رست عليه، فصعد إلى المسرح ليتسلم السجادة، فأخرج دفتر ((الشيكات)) وحرر القيمة، ثم تبرع بالسجادة للجمعية، فصفق له الحاضرون، وشكرته ((هالة)).. ونزل وعيناها تشيعانه..
وعاد ((خالد)) إلى بيته، وماضيه يتراءى له، عن يمينه، عن شماله، وقدامه، وخلفه، ولا محيد له عنه.. وحاول أن ينام فلم يستطع إلا عندما شقشق الفجر.
وعادت ((هالة)) إلى دارها، وقد بدأ نداء الطبيعة يستيقظ فيها بعد طول سباته، كانت أفكارها نهباً لخواطر يزحم بعضها البعض الآخر.. منها ما هو ثائر على مبدأ كره الرجال ومقتهم، ومنها ما هو متزمت شديد التمسك بتلك السياسة.. ومنها ما هو حائر تائه في دوامة تلك الخواطر..
وشقي كل بماضيه، ((فخالد)) وفاء لحبه الأول حرص على أن لا ينساق لعاطفته الجديدة، و((هالة)) استمساكاً بمبدئها الجديد، وتجنب التعرض لآلام فشل آخر في حب جديد، آثرت وأد العاطفة الوليدة في مهدها..
وهكذا ترك كل منهما مصير عاطفته للزمن..
ومرت أيام وليال عصيبة على كليهما، وهما إذ يتظاهران بالجلد والكبت لإخفاء شعورهما لا يستطيعان تعليل لقائهما في الأماكن التي اعتاد كل منهما ارتيادها، ترى هل يستطيع هذا ((الكوموفلاج)) كتمان ((نداء الطبيعة)) الداوي في قلبيهما.
وانتخب ((خالد)) سكرتيراً عاماً لنقابة المحامين، وشق طريقه للمستقبل، وانتخبت ((هالة)) رئيسة للحزب النسائي الجديد، وجاهدت عن طريق الصحافة، والمذكرات، ومنابر الخطابة، ووسائل الإعلام أسماع ذوي الشأن مطالبة المرأة بحق الانتخاب.. ووظائف السلك القضائي والدبلوماسي.
وهكذا اصبح كل منهما شخصية مرموقة في حقله ودائرة اختصاصه، ولكن جهاد كل منهما فيما اختطه لنفسه لم يخمد نداء الطبيعة، بل زاده على كر الأيام وتعاقب الليل والنهار قوة وتمكينا كانت أولى ومضاته وبروقه دفاع المحامي ((خالد)) عن حقوق المرأة في سلسلة مقالات نشرتها له أمهات الصحف، فأحدثت ضجة وتأثيراً عميقاً في الرأي العام، واستطاع ((خالد)) بحججه الدامغة وأسلوبه الرائع المقنع أن يؤلب جيشاً من الانصار المنافحين عن قضية المرأة وعدالتها.
ورأى الاستعمار الأجنبي البغيض الجاثم على صدر ذلك البلد، أن حركة ((خالد)) و ((هالة)) نذير انتفاضة ضده وكسر لقيوده وأغلاله، فلفق ((لخالد)) تهمة بواسطة عملائه، وما أكثرهم، في كل بلد، وهكذا نفي الى بلد وضع فيه تحت الرقابة الشديدة، وحل الحزب النسائي وأقصيت ((هالة)) وحدّدت إقامتها.
وأثارت الاجراءات التعسفية التي اتخذها المستعمر ثائرة الرأي العام في ذلك البلد، وكانت سبباً في توحيد صفوفهم وحل خلافاتهم والمطالبة بالاستقلال..
وجاءت الحرب العالمية الثانية وهزمت جبهة حلفاء ذلك المستعمر ونال ذلك البلد استقلاله. ودخل ((خالد)) و ((هالة)) قاعة برلمان العهد الجديد ويده في يدها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1733  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.