ولا يزال قديم "الغربال" جديداً |
كتب الأستاذ عبد الغني بن ناجي القش مقالين متتاليين عن (اللباس) في صفحة المدينة المنورة، بهذه الجريدة الغراء، انتقد فيهما بعض الملابس الحديثة التي تطرح في الأسواق ويرتديها بعض شبابنا ممن أغرتهم بهارج الحياة العصرية، فراحوا يقلدون معطياتها السلبية بلا وعي، وذكر أقسام تلك الألبسة وما تحمله من صور وعبارات غير لائقة ولا تليق بقيمنا وعاداتنا. |
ثم وجه الكاتب شباب المجتمع وفتياته إلى ضرورة (الالتزام باللباس الذي حددت ضوابطه وشروط الشريعة الإسلامية الغراء، وعدم الانسياق وراء كل جديد). |
تذكرت أثناء قراءة مقالي الأستاذ القش ما كتبه الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه يرحمه الله، منذ أكثر من ستين عاماً عن الأزياء واختلافها في المجتمع آنذاك، فكأن المشكلة لا تزال قائمة رغم مرور الأعوام، مع اختلاف في بعض مظهرها وأسلوب ممارستها. |
لقد كان الأديب (محمد سعيد عبد المقصود) في زمانه، من أبرز الكتّاب الذين تناولوا قضايا المجتمع بالطرح والتحليل ووصف العلاج. اتخذ (الغربال) ليكون الاسم المستعار الذي يوقع تحته. ورأى أن موضوع أدبه هو قضايا مجتمعه، وطريقة تفكيره ما يملي عليه مجتمعه ووطنه، لذا فإنه لجأ إلى الجريدة لأنه وجد فيها (النافذة التي يطل منها على الحياة من حوله، فيرى العالم من خلالها ويرى نفسه ومجتمعه من خلالها كذلك)، وعرف دور الصحافة حين تهتم بمعالجة مشكلات البيئة الاجتماعية، يطرحها للنقاش، واستقطاب الأذهان المفكرة لتداول الآراء حولها، كان يرحمه الله، يملك رؤية ثاقبة تستكشف زوايا الحاضر، فيعرض ما يجد فيه من شوائب يحس بخطورتها على مجتمعه، ثم يبدي الرأي حولها، ويناقش بسعة صدر الرأي الآخر الذي قد يعارضه. |
وقد كشفت الأيام والأعوام صدق حسه، وبعد نظره في استشراق آفاق المستقبل البعيد. |
تحدث عن مسائل تربوية تتعلق بالمعلم وضرورة تأهيله علمياً وتربوياً ليكون قدوة في كل ما يأتي به. |
وكان من أوائل من نبه إلى واجب الاهتمام بالجانب التربوي للطفل حيث قال: "إن هذه المدارس عليها واجب عظيم في تربية الأطفال وتثقيفهم، وأن ما تغرسه المدارس في نفسية الأطفال وما تلقنه إياهم، وتحسنه لهم، وتحببه إليهم يقدسونه ويعظمونه، وينشأون عليه، وأن ما لها من التأثير في قلوب الأطفال والسلطة على نفسيتهم يجعلها تتخذ كل الوسائل والطرق التي تفيدهم". |
وتناول عادات اجتماعية شعر بأنها كانت مغايرة للعرف والتقاليد، أو أنها تتنافى والقيم الإسلامية، وكانت له نظرة فاحصة حول تقاليد الزواج التي كانت سائدة، وانتقد عدم إجراء الفحص الطبي على الزوجين للتأكد من سلامتهما من الأمراض قبل عقد القران، وذلك ما تنادي به المجتمعات المتحضرة إلى اليوم. |
وتأتي مسألة (اللباس) التي تثار الآن لتؤكد مصداقية الطروحات التي كان (الغربال) ينادي بها، ولا يزال صداها يسري في وقتنا الحاضر. |
فقد كتب (الغربال) مقالين نشرهما في جريدة (صوت الحجاز) في شهر ربيع الأول 1356هـ وفي مقاله الذي جاء بعنوان (أما آن لمشكلة الأزياء أن تحل؟) صدره برجاء إلى مديرية المعارف –آنذاك- قال فيه: "إن توحيد الزي من مظاهر حياة الشعوب، وأن شعبنا من الشعوب التي يجب أن يكون له من مظاهر الحياة كما لغيره). |
وحيث أن للأزياء من ذوقيات الفن وجماله وخطورته ما نشاهده في الموديلات الجديدة، فإن أصالة المجتمع تتمثل في تمسكه للمظهر الملائم لبيئته وعاداته. |
وقد وجد (الغربال) أن المشكلة التي كان يتحدث عنها هي فقدان وحدة الزي في مجتمعه السعودي - آنذاك: (فلكل مدينة من مدن المملكة زي خاص، بل ولكل مدينة أزياء مختلفة. قف في أي شارع يصادفك، ثم استعرض المارة، فلا تلبث أن ترى أزياء مختلفة متنوعة، وكلهم عرب سعوديون، الحقيقة المرة أن مشكلة الزي في بلادنا من أعقد المشاكل، وأن توحيدها من أهم الأشياء التي يجب أن نعتني بها، لأنها مظهر من مظاهر قوتنا ووحدتنا، وإن بقاء هذه المشكلة معلّقة يزيدها تعقيداً ويزيدنا تنوعاً..). |
إذاً ما هو الحل الذي يراه الغربال، لهذه المشكلة؟ |
(إن الجهة التي تسيطر على مراحل مشكلة الأزياء هي مديرية المعارف العامة -الموقرة-، إذ حل هذه المشكلة لا يكون إلا عن طريق المدارس بتوحيد زي أبنائها من جهة، وببث فكرة حب توحيد الزي وضرورته للأمم والشعوب بين التلامذة، واستعدادهم لقبول ذلك أكثر من غيرهم من جهة أخرى، وإدارة المعارف الموقرة هي الهيئة التي تسيطر على المدارس، وهي التي بيدها وحدها حل المشكلة، ولنا في حكمة مديرها الحازم، وثاقب فكره أمل كبير في السعي لحل هذه المشكلة، وانتقاء الزي الذي يتلاءم مع حياتنا وجونا وعروبتنا وماليتنا). |
قلت في كتابي (الغربال): لقد رأى الغربال بأن حل المشكلة في يد الهيئة المشرفة، وهذا في اعتقادي هو الرأي السليم، فالغربال نظر إلى المسألة بمنظار دقيق يستوعب قضايا الحاضر والمستقبل معاً، فالأمر يتطلب في البدء تأصيل العادة على قاعدة راسخة وقوية، إذ لا بد أن تكون المدرسة هي الأساس (فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر) كما يقال، والأطفال في المدرسة وفي البيت يمثلون نصف الحاضر وكل المستقبل). |
فلماذا لا نعودهم على التقاليد والعادات الحسنة مبكراً ليشبوا عليها؟! |
ولئن كانت نظرة (الغربال) إلى مسألة توحيد اللباس قديمة.. فإنها تظل (جديدة) في حاضرنا، إذا ما وجدنا نفس المعاناة، وذلك حين تنظر إلى صفوف التلاميذ في المدارس الابتدائية أثناء طابور الصباح، لتفاجأ بالتباين الملحوظ في اختلاف الزي، فهذا يلبس البنطال والقميص، وذاك يرتدي الثوب بلا غطاء على الرأس، وآخرون اكتفوا بالزي الرياضي. وتظهر القمصان التي يرتدونها في أشكال غير لائقة لما يبدو عليها من رسوم وصور وكتابات باللغة الإنجليزية يحمل بعضها عبارات غير مناسبة. |
ورغم التعليمات الصادرة من وزارة المعارف والتي تحث على ظهور التلاميذ في المظهر اللائق لطلبة العلم، إلا أن التطبيق الفعلي يظل في يد الأسرة المنزلية التي يتوجب عليها العناية بلباس الابن ومظهره وتعويده على القيم والعادات الاجتماعية المحببة، والتعاون مع المدرسة في كل ما تراه مألوفاً وملائماً للبيئة الاجتماعية. والله ولي التوفيق... |
|
|
|
العدد (13374) وتاريخ 23/8/1420هـ |
|
|