حياة زاخرة بقوة الشباب |
لعل من محاسن الصدف، أن أعثر –أثناء البحث– على هذه الكلمة البليغة، لأديب من الرعيل الأول، يكشف لنا فيها عن ملامح مضيئة في حياة الأديب الراحل محمد سعيد عبد المقصود، تؤكد مكانته الرفيعة في ذلك الوسط الاجتماعي، الذي كان يزخر بالرواد من الأدباء، والشعراء، ورجالات الدولة المخلصين لوطنهم وأمتهم. |
فقد طلب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري من الأديب السعودي (محمد عمر عرب)
(1)
، كتابه نبذة عن حياة الفقيد (محمد سعيد عبد المقصود) للعدد الممتاز من مجلة المنهل، الصادر في (ذو القعدة والحجة 1367هـ) فكتب المقالي التالي: |
(لا يكفي صاحب المنهل الأغر أن يستكتبني لعدده الممتاز، رغم معرفته بمشاغلي الكثيرة، ونواحي متاعبي المتعددة، بل هو يفرض عليَّ أن أكتب في موضوع معين بالذات. فقد رغب إليَّ أن أكتب هذه المرة - نبذة عن حياة الفقيد "محمد سعيد عبد المقصود" وهذا الطلب وإن كان فيه تسجيل لبعض حوادث التاريخ القريب إلا أنه مبعث أسى، وحسرة في النفس لفقدان ذلك النشاط المتوثب، وتلك الحيوية المتدفقة. |
ولد –رحمه الله– عام 1324هـ، وتوفي في 12 ربيع الأول عام 1360هـ، وكان والده الخوجه عبد المقصود، وهو من أصل مصري
(2)
، هاجر إلى هذا البلد الأمين، وتوطن بها واختلط بأهلها، وصار واحداً منهم. |
وكان حاسباً قديراً، شغل في عهد حكومة الأشراف أمانة الخزانة العامة للدولة. وكان للفقيد أحد أولاده، وقد ورث عنه كثيراً من سماته الخلقية، كان طويلاً، ناحلاً، صغير الرأس، عريض الجبهة، دقيق الأنف، واسع العينين والفم، في لونه صفرة باهتة، وتعلم بمدرسة الفلاح ولكنه لم يكمل دراسته وخرج منها، واشتغل ببعض الأعمال، ثم عين موظفاً صغيراً بإدارة جريدة أم القرى، وكان يديرها ويحررها الشيخ يوسف ياسين، فلمس فيه ذكاءً فطرياً لماحاً، فغذى فيه هذه الروح، وأتاح له أكثر من فرصة فرقي إلى أكبر وظائفها وأصبح مديراً للمطبعة والجريدة. |
ومنذ أن تولى إدارتهما عكف على إصلاحهما بكل ما أوتي من جهد، وبحرارة الشباب المتوثب الطموح حتى وصل إلى ما وصل إليه من نجاح ملموس نشاهده في آلات الطباعة وما يتبعها من آلات للقص والتخريم، والتجليد وغير ذلك. والحق أنه لو أمدَّ الله في عمره لكان للمطبعة شأن غير هذا، ولكانت تضارع نظائرها في العالم الخارجي. |
ولقد كان –رحمه الله– ذا حس مرهف جداً يبلغ لحد العصبية المفرطة عاطفياً بكل ما في الكلمة من معنى وقوة، فتراه ميالاً لشيء أو صديق وقتاً ما ثم إذا هو ينصرف عنه كلياً، وكان شعلة وطنية متأججة يجاهر بآرائه ولا يبالي بالنتائج مهما كانت. وقد اشتغل بتشجيع الشركات الوطنية، والمساهمة فيها والدعوة إلى إحيائها ونشرها، كما كان خير عامل لنشر مبادئ النهضة الفكرية، ونشر معالم الأدب الحديث في هذه الربوع. وقد أصدر –مع زميله عبد الله بلخير– كتاب (وحي الصحراء). وله مخطوط عن سيول مكة، ومؤلف مخطوط لم يتم عن بعض نواحي معالمها. |
وكان رحمه الله شعلة متَّقدة من الذكاء، ذا عزيمة جبارة، وذهنية لماحة، وليس هذا مديحاً مرسلاً لصفاته وأخلاقه، ولكنها حقيقة واقعة يعرفها الخاص والعام من أصدقائه ومعارفه، سعى في بناء دار للمطبعة في ساحة جرول بلغ من فخامتها وسعتها أن ظنها الناس ثكنة عسكرية، وأراد أن يخطط أمامها مدينة للعمال. |
ولكن القدر عاجله قبل إتمام مشروع البناية، وبعد أن قطع شوطاً واسعاً، قبل البدء في مشروع المدينة التي أرادها أو فكر فيها. |
لقد كانت آماله كباراً رغم نحافة جسمه فحينما ناء جسمه الضئيل بأماني نفسه الكبيرة تلاشى هذا الجسم واضمحل كما يقول الشاعر: |
وإذا كانت النفوس كباراً |
تعبت في مرادها الأجسام |
|
أما أخلاقه مع موظفيه فأحسبني لا أتجاوز الحقيقة؛ حينما أقول: إن موظفيه من أصدقائه، من الموظف الكبير حتى العامل الصغير، بل هم من خيرة أصدقائه، فمنهم من صادقه بعد التوظف، ومنهم من تتصل به صداقته قبل الوظيفة، ولكن معاملته معهم في أعمال الوظيفة، وأثناء أدائها كانت تتسم بالرسمية المتمكنة، فقد كان يعاقب الموظف الكبير كما يعاقب الموظف الصغير على أي تأخر منه أو قصور، وكان مفرطاً في الرقابة والتدقيق والتنسيق في الأعمال، ولكنه خارج الوظيفة كان أخاً كريماً وصديقاً حميماً. يعامل الصغير منهم قبل الكبير بروح وعاطفة كريمة وأخلاق عالية. |
كان كريم النفس، كريم اليد، كريم المعاملة، لو ادخر ما كسبته يداه من أموال لمات وهو من أغنى الرجال، إن لم يكن في المال ففي الأخلاق والأعمال. |
لقد طوت يد القدر بموته صفحة مشرقة من صفحات العمل المجدي والجهد المتواصل والحياة الزاخرة بقوة الشباب، وتوقد الذهن. |
وإني بعد كل هذا لا أستطيع أن أزعم أنه كان كاتباً فحلاً أو شاعراً مجيداً، إذ كان محصوله العلمي قليلاً، وثقافته محدودة –كما أسلفت– ولكني أستطيع أن أقول: أنه بحيويته القوية ونضوج عقليته، استطاع أن يكون لنفسه مكانة مرموقة قل أن يستطيع الحصول عليها من كان في مثل ثقافته وسنه. |
ولئن ذرفنا الدموع حزناً على وفاته؛ ألماً لذكراه فإن عزاءنا الوحيد في ذلك أن الموت هو نهاية كل حي، أو هو خاتمة المطاف، وقد قال المتنبي: |
يمـوت راعـي الضأن في سربـه |
ميتـة جـالينـوس فـي طِبِّـه |
|
فرحم الله تلك النفس النبيلة، وتلك الأخلاق الكريمة وعوضه عن هذه الحياة الدنيا الفانية جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)
(3)
. |
|