على هامش ملاحظات حرة: |
إلى الصديق السباعي |
ما أحوجنا -أيها الصديق– إلى النقد البريء، وما أحوجنا إلى تتبع مواطن الضعف ومعالجتها في حكمة وروية، وما أحوجنا إلى تجنب المياعة في القول وإرضاء النفوس الضعيفة بتسويد الصحف، وما أحوجنا إلى التشجيع والتعضيد. |
ما أحوجنا –أيها الصديق– إلى كل هذا، وما أجدرنا بتحويل أفكارنا إلى معالجة أشياء كثيرة لا تزال تنتظر منا المعالجة. |
أنت أيها الصديق - أحد حملة الأقلام في هذا الوطن العزيز، وأحد الذين ينقمون على الكثير من عوائدنا السيئة فيحاربونها، وأحد الذين يتابعون أدواءها ويعالجونها. أنت أحدهم، وقد شكرنا لك ذلك وشجعناك عليه - إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نناقشك الحساب، إذا احتاج الأمر إلى مناقشتك الحساب. |
أنت تعرف –أيها الصديق– أني أنقم عليك أسلوبك في الكتابة، ومياعتك في الأسلوب، وأتمنى لو فكرت فقدرت فعدلت عن هذه المياعة في الأسلوب، وذاك الأسلوب في الكتابة إلى ما يتفق وروحك إن لم يكن إلى أبعد حد فإلى حد ما؛ ولكنك أبيت وأصررت فلك رأيك. |
ثم أنت تعرف أني أنقم عليك طرقك بعض الأبحاث والملاحظة عليها، لأنها لا تستحق ذلك، ولأن لدينا ما هو أجد منها بالبحث والملاحظة، وطالما ناقشتك الحساب ولكنك كنت تقول: "هي الفرص أوجدت ذلك". |
وأنا لا أنقم عليك هذا أو ذاك إلا لكونك صديقاً عزيزاً تربطني وإياك أقوى الروابط وأقربها، ثم أنت وطني تدفعك وطنيتك إلى مثل هذه المواقف في أكثر الأحايين، فيغفر لك إخلاصك زلاتك إن وجدت. |
وما كنت أود أن أتنازل وإياك في صحيفة سيارة على مثل هذا النوع من الخلاف؛ ولكنك تجاوزت الحد فوجب الرد، وليس هذا شفقة علي وإياك، وإنما شفقة على ما لدينا من أمور يجدر بك تناولها، لأنها منا في الصميم، وإلى أشغال متراكمة تنتظرنا في عجل. |
قرأت أيها الصديق ملاحظاتك الأخيرة عن اليوبيل الفضي لمدرسة الفلاح، كما قرأت قبلها ملاحظاتك على تشجيع الطيران، وصدقني أيها العزيز بأنك لم توفق فيهما، لأنك قفزت، وفي المثل: "من قفز وقع". |
تقول في ملاحظاتك على تشجيع الطيران: "ويأتي على أثر هذا دور العاملين في شبابنا المتحفز فيهولك أعمالهم، وتود لو أخذت سوطاً تلهب به جوانحهم (هكذا) لتثير كامن حرارتهم، فيندفعون تحت تأثيرها، وهو قول لا يتفق وآداب الكتابة، كما أنه لا يتفق وطرق النقد، وإذا كان النقد حقاً من حقوق الناس جميعاً –كما يقول الأستاذ أحمد أمين– وعلى حسابه قلت ما قلت؛ فإن حقوق الناس محمودة، وإذا لاحظت أن رغبتك في صبغ أسلوبك بصبغة فكاهية - لسبب ما - أدركنا أن هذه الرغبة زجت بك إلى مثل هذا الموقف، وإلا فما أظنك قصدت إهانة لجنة أنت أحد أعضائها المتخلفين –إن صح أنها تخلفت– ثم ما أظنك أيها الصديق تعمل مع من يتحركون بالسوط وأنت تعرف لمن السوط؟! |
إني أجلك عن هذا أيها الصديق، ثم ما دمت اضطررت إلى طرق هذا الموضوع فأحب أن يعرف كل واحد أن ليست ملاحظتك هي التي أهابت باللجنة ودفعتها للعمل بعدما توقفت عدة أيام، ولكن كانت هناك ظروف وملابسات أنت تعرفها، بانتهائها عادت اللجنة إلى أعمالها. |
أنا لست من الذين يحثهم خوف الانتقاد من العمل، ولكنا من الذين يحثهم الواجب على العمل، ثم لسنا من الذين يلهب السوط جلودهما، ولكنا من الذين يناديهم الواجب فيلبونه. كنت أود –أيها الصديق– أن ترفق بنفسك وبإخوانك الشباب عن مثل ما ذهبت، وأنت أدرى بظروفهم وملابساتهم، ثم إذا كان لا بد من الملاحظة فكان الواجب يقضي أن تكون في غير هذا الوضع من القول. |
أما ملاحظاتك على اليوبيل فسامحني –يا صديقي– إذا قلت لك أنها لم تك سوى رصف جمل ليس إلا؛ أعد نظراً وأقرأ مقالك من أوله وحتى قولك: "أما أنا ودعني أبداً" فإنك تجد هذه الفقرة مضطربة، ثم لا محل لذكرها في المقال، إلا إن كان لإشباع غرض في نفسك، أعرفه فيك من التعميم فلربما، وهذا ما أجلك عنه، ثم أقرأ ما بعدها تماماً فإنك واجد ما يكفي لتنبيهك إليه. |
تنقم -أيها الصديق- على خطبائنا التحضير الحرفي، وتطلب منهم اقتحام المواقف مرتجلين خطاباتهم. جميل جداً لو كان في خطبائنا هذا الاستعداد، أما وهم خلو الوفاض فإن هذا طفرة والطفرة محال. |
أخلق لي المواقف لأخلق لك الخطباء، أوجد لي المدارس التي تعتني بهذا الفن لأوجد لك الخطباء، وأن اللائمة في مثل هذا يجب أن توجه إلى المدارس لا إلى الخطباء، إن خطبائنا كونوا أنفسهم بأنفسهم، وهم لا يزالون يمرنون أنفسهم على هذا التحضير الحرفي حتى الآن، فكيف تطلب إليهم القفز وهم لم يحبوا بعد، قد يكون هذا في المستقبل، وأتمنى أن يكون هذا المستقبل قريباً، أما مطالبتك بأن يتخذوا من مثل هذا الحفل طريقاً لما أردت فهذا لا أظنه من المنطق في شيء، ولو اقترحت فتح نادٍ لذلك لأكبرنا الفكرة وعضدناها - فكِّر أيها الصديق، ثم قدر - ثم اعتدل، ثم قل قول الحق، وأنا للحق من التابعين. |
والآن اسمح لي –يا صديقي– أن أعود بك إلى جملة حشوتها حشواً في ملاحظاتك وهي قولك: "أعوذ بالله من قولة أنا" أن مثل هذه الجملة اعتدنا سماعها من النساء في بيوتهن، فما بالك قلدتهن فيها، وليس فيها من الطلاوة ومن العذوبة ومن الرقة ما يدعوك إلى تقليدهن! صدقني –يا صديقي– إنها ضاعت الروعة التي قد توجد في تلك الفقرة لو جردت منها. |
أما انتقادك –أيها الصديق– تخلف كثير من شبابنا عن الخطابة وإنابة بعضهم في بعض المواقف، فهذا ما أضم صوتي إلى صوتك في المطالبة به إلا أني أعود فأنفي بشدة وجود شيء من هذا في حفلة اليوبيل، وأؤكد لك أن كل الذين أنابوا عنهم في الإلقاء معذورون، وإني مع نظريتك في كون بعض الخطب "ألقت بوداعة الفن في أجواء مشبعة بالأدب، فجاءت على المنبر فاترة لا أثر فيها للروح الخطابي" وأضيف إلى ما ذهبت، عدم وجود الاستعداد الخطابي في بعض الخطباء أنفسهم، وأظن أن هذا العامل الأول في ذلك الفتور، وأنت تعرف أن الخطابة هي الإلقاء يا أيها العزيز. وبعد أن وصلت معك إلى هذه النقطة فلا يفوتني أن أهمس في أذنك بأني لا أريد مناقشتك فيما قلته عن مقدم الخطباء، وقد تركت فيه الحكم لحاضري الحفل. وسامحني -يا صديقي- إذا قلت أنك عدوت الحقيقة. وختاماً لك السعادة والتوفيق. |
|
مكة المكرمة - ابن عبد المقصود |
|
|
|
10 ربيع الثاني سنة 1355هـ |
|
|
|