من ذكريات رمضان..
(1)
|
تسألني (حراء) الغراء: |
1- عما هي ذكرياتي القديمة عن هذا الشهر الكريم؟ |
2- ما هي الأمنية التي أود أن أتوجه بها إلى الله تعالى في ليلة القدر؟ |
3- بماذا أوصي قراء "حراء" بهذه المناسبة الكريمة؟ |
وجوابي على السؤال الأول هو: |
أريج المسجد: |
لقد كنا قبل خمسين سنة نستروح في أروقة المسجد الحرام خلال شهر رمضان المبارك أريجا تتشذى به جميع أطرافه وجوانبه.. ولم يكن ناشئاً عن تضمخ المصلين بألوان من العطر أو الطيب.. بل كان كله - أو جله - من عبير (المصطكاه) التي تبخر بها (دوارق الزمزم) آناء الليل وأطراف النهار لنصب فوق مرافعها المسبلة.. لإفطار الصائمين.. ولتوزع بكميات كبيرة على الدور كلها في بطن مكة وضواحيها (مرتبة طيلة أيام الشهر).. أما عن طريق الوقف الجاري.. أو مقابل توصيات سنوية معتادة. |
2- التراويح: |
وكان مما يحرص عليه السكان - عامة وخاصة - شهود صلاة التراويح في العشاء.. فترى المسجد مكتظاً بصفوف القائمين.. يقتفون (إماماً) من حفاظ القرآن ويغلب أن يكون في باكورة العمر.. ويقوم بين يديه طراز من الفوانيس الشمعية ذات هياكل جميلة وزخرفة.. وإلى يمينه مرفع مزركش يحمل فوق قوائمه دورقين.. وطاساً ناصعاً ليشرب منه الإمام إذا ظمئ.. كما يوضع أمام بقية المصلين عدة دوارق أخرى لنفس الغاية. |
وهنالك كانت القراءات ترتل بأصوات رخيمة.. وتختلف الركعات طولاً وقصراً بحسب ما كـان يبقى من الأجزاء أو المقاري.. وتبدأ التراويح بإعلان المكبر المختص بكل جماعة بقوله: "صلاة القيام أثابكم الله". |
.. وأحسب أن الغرض الأصيل عند السابقين من هذه المنافسة بين النشئ إنما هو تشجيع الأطفال والفتيان على الحفظ وإغراؤهم عليه بهذه الوسائل التي تجعل كل ناشئ حريصاً على التقدم ومكتسباً بحلل الوقار والاحترام.. |
وكان آباؤهم في مقدمة المؤتمين.. ويضيفون إلى ذلك بذل كثير من المكافآت على التفوق والتبريز.. ويعدونهم بذلك لأخذ مكانتهم بين حملة القرآن الكريم وطلبة العلم الشريف.. وإكسابهم ملكة النطق السليم.. والعقيدة الصحيحة.. فكان المسجد يزدحم بهذه الجماعات ويستمر ذلك من أول شهر رمضان إلى العشر الأواخر منه.. حيث تكون حفلات الختام.. أو الختم أكثر زينة وأبهى مظهراً.. وقد أشار إلى ذلك ونوه به الرحالون القدماء منذ قرون عديدة وابن جبير في رحلتيهما.. وقد يكون من بين هذا النشئ من يرتل القرآن ترتيلاً يستهوي القلوب والأرواح.. ويختم تراويحه (بشعر) أو (مقراة) من الذكر الحكيم. |
وقد توحدت بعد ذلك صلاة التراويح في المسجد الحرام على إمام واحد. وكان ذلك أخذاً بما هو أصح شرعاً وأكبر جمعاً.. وأكرم وضعاً مما سبق.. أما الاعتبارات الأخرى فإنها تحولت إلى (المجال المدرسي) وما فيه من عوامل التقدم والتثقيف.. والتفوق والتميز.. ولا شك أن ذلك أحق بالاتباع متى عرفنا أن الغاية المتوخاة قديماً من إمامة الحفاظ الصغار هي تشجيعهم على مدارسة القرآن قد تحققت بطريقة أكثر إغراء وهي بذل المكافآت الملكية السخية لكل حافظ في كل مدينة وقرية وحاضرة وبادية.. عدا ما ارتفع عن كواهل أولياء أمور الطلبة من تكاليف باهظة كانت ترهق كواهلهم وتثقلها في إقامة تلك المهرجانات التقليدية.. "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". |
3- القراءات في المنازل: |
وقد أدركنا الناس في مكة - ولا تخلوا دار من دورهم ذات المكانة الممتازة في المجتمع التجاري أو العلمي وكل بيت له سابقة أو لاحقة في البيئة الملكية الأصلية أو حتى المجاورة - من فقيه أو أكثر.. أن (مقرئ) يتلو القرآن صباح مساء.. وذلك قبل انتشار أجهزة (الراديو).. والاستغناء بها في الأكثر عن المقرئين مباشرة.. وكان بعض الدور الموسرة لا يكتفي بالمقرئ أياً كان.. كما هي الحال في البيوت المتوسطة أو الفقيرة.. بل يتعاقد قبل حلول شهر رمضان.. وربما قبل شعبان.. مع المقرئين الممتازين الذيـن يتأثر السامعون بأصواتهم الشجية المشجية.. كالشيخ محمد عبيد - رحمه الله - والشيخ محي الدين البخاري والشيخ عبد الهادي البنداري والشيخ الحجازي وغيرهم ممن يتهافت على سماعهم الناس فيقصدون المنازل التي يرتلون فيها القرآن بعد التراويح.. ويقضون فيها فترات روحية تسمو بهم عن هموم الدنيا وتذكرهم بالله وآياته.. فترى بعضهم وقد تغشته الخشية وأخذت الدموع تذرف من عينيه.. وهكذا كانت السهرات مستغرقة في الذكر الحكيم.. تتخلله بعض الأحاديث البريئة الخالية من كل ما يذمه الشرع الحنيف من غيبة أو نميمة أو لغرض ما لا يعني وما لا يصلح.. وربما حضر المجلس بعض العلماء فيأخذ في تفسير آية أو تفصيل مجمل.. أو توضيح مبهم على نور من الله وبرهان.. |
وبينما تكون الجماعة في هذا الجو الهادئ الجميل وفي رياض الجنة ترتع.. تدور عليهم في الشتاء أكواب (السحلب) أو (القرفة).. وفي الصيف (كؤوس السوبيا) أو (بزر الريحان) وربما جمع الله لهم بين خيري الدنيا والآخرة فلا يعودون إلى بيوتهم إلا بعد أن يفرغوا من سحورهم لدى مضيفه.. أو إلا بعد أن يكونوا قد أدوا (صلاة الفجر) في المسجد الحرام وقد خلا اجتماعهم من اللهو واللغو واللعب.. وكل ما يحبط أعمالهم. |
.. ويلاحظ في هذه الأيام.. أن هذه العوائد قد أخذت في الانزواء أو الزوال بسبب الاكتفاء بهذا (الراديو).. لو أن الناس إنما يستمعون منه إلى (التلاوات) فقط ولكن أصبح - في غالب الإذاعات - مثاراً للهموم وباعثاً على الكدر والانزعاج بما فيه الشجن.. والله مع المتقين. |
|