شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من السابق إلى هذا الخلق الكريم؟ (1)
الشرق أم الغرب
قرأت في حداثتي - وأول عهدي بالأدب - بيتين من شعر "الحماسة لأبي تمام" ما يزال لهما دوي في سمعي، وتغلغل في أعماقي منذ عهد الصبا وبلهنيّة الشباب وهما:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
واضطراب القوم اضطراب الأرشية
وشد فوق بعضهم بالأرويه
هناك أوصيني، ولا توصي بيه
نعم أكبرت في هذا القائل هذه الروح الحية القوية التي يعبر عنها "العصريون" بالاعتماد على النفس أو الثقة أو الاعتداد..
وما برح هذا المعنى عالقاً بذهني أتمنى أن أظفر بتحقيقه أو تمثله في كل ناشئ وكل شاب.. فما أثلج للقلب، وأقر للعين أن ينشأ الطفل على الرجولة.. وأن يملك العزيمة والرشد والبصيرة ما يعنيه على اقتحام هذه الحياة وأن لا يكون عالة أو كلالة على غيره.. أو موصى عليه - كالبريد المسجل.
.. وما أشد وأنكى أن يحسب البعض أن السابق إلى ذلك أو المجبول عليه إنسان (الغرب) أو أجياله القريبة أو البعيدة.. والمتحضرة أو المتمدنة.. فقد سبقهم إليه وضرب لهم عنها أروع الأمثال هذا الشرق العربي الحافل بالتراث العظيم من الفضائل والأخلاق؟
إن كثيراً من مثقفي القرن العشرين.. ومن الناطقين بالضاد لم يجشموا أنفسهم عناء البحث في الأدب العربي القديم ولم يتوفروا على درسه أو التعمق فيه ليجدوا أنه زاخر بالمبادئ المركزة الأصيلة والقواعد الصحيحة النبيلة، لتكون حياة الإنسان أدنى إلى العزة والكرامة والعظمة والمجد لقد فتنهم ما يرونه في الشعوب المكافحة الأخرى من كدح وأدب.. وكد ونصب، وخدعهم ما يقال من أن الكلل والملل والتذمر والضجر والعجز والكسل تكاد تكون من السمات الغالبة في الأمم الشرقية عامة وفي كل شعب منها خاصة؟.. اللَّهم إلا من حملهم منها حملاً على احترامه وإعظامه طوعاً أو قهراً، على تغيير وجهة نظرهم إليه من هذه الشعوب التي تأبى أن تكون غير ما هي.. تحفزاً وتوثباً وطموحاً.. وإلا الأمم الجادة التي أخذت مكانها.. بما لها من حرث ونسل وصناعة وزراعة وجد ونشاط واسعة في الحضارة والعمران والتقدم والعرفان.
أذكر أنني كنت شديد الشغف قبل أربعين سنة أو تزيد بقراءة فصول كانت (مجلة المنار) تنشرها تباعاً في كل شهر بعنوان (التربية الاستقلالية).. وكنت أعجب كل العجب من أبناء الغرب وهم يخوضون أمواج البحار والمحيطات ويضربون في الفيافي والمجاهل والقفاز إلى أقاصي المعمورة جماعات أو أفراداً، كباراً أو صغاراً.. وكيف راضهم على ذلك أباؤهم.. وعودوهم على المشقة والصبر والاحتمال؟ وكيف يشوق المرء منهم أن يتعرض للأخطار.. وأن يستبدل الشظف بالترف والوحشة بالإنس؟.. وكيف اضطر كل واحد منهم أن يكابد ويعاني من واقع الحياة وتصاريفها ما جعله خبيراً بها محيطاً بأسرارها ودقائقها متمكناً من تطويعها بما أوتيه من خبرة وتجارب وما ثَقفَهُ من معلومات وتجارب، فلم يبال بالموج تهدر به اللجج والعواصف ولا "الوحدة" في "القفر الموحِش" ولا الأحداث الكارثة ولا الخطوب النازلة، وإنما هو "الرجل" المكافح خُلق على هذا الكوكب المزدحم وفي هذا الكون المتكاتف الملتحم ليدافع ويناضل وينافس ويفاضل ولا يقبل بحال أن يكون (إمّعة) لراكب أو راجل وحال أو عاطل، وعلى ذلك تأصلت قواعد التربية فيهم واختلطت باللحم والدم منهم، فهم يأنفون أن يكلفوا أباءهم وأولياءهم أكثر من مدة (الحضانة) ونفقات (التربية) و (التثقيف) إلى القدر الذي يجعلهم في مجتمعهم أعضاء عاملين.. ثم هم بعد ذلك مسؤولون مباشرة عن اتجاهاتهم طولاً أو عرضاً وسماءاً أو أرضاً فما يعرفون تذليلاً ولا تعويلاً.. في شتى الصور والصنوف والطبقات يتسابقون ويتنافسون جنوداً وضباطاً ومشاة ومدفعيين بحاره وطيارين تجاراً ومهندسين، زراعاً وصانعين، أطباء وصيدليين، أدباء وباحثين شعراء وفنانين، مدرسين ومعلمين، راحلين ومقيمين، الخ.. لا يأبهون بكل ما عسى أن يتهوله غيرهم ممن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين.. ذلك ما أطلق ألسنة شعرائهم بالفخر والكبرياء، وذلك ما سول لشاعر الإنكليز (كبلينغ) أن يرسل قولته المشهورة: الشرق (2) شرق والغرب غرب ولن يجتمعا..
فهل أصبح هذا الخلق وقفاً على الغربيين؟ أم أنهم الذين اقتبسوه من العرب قبل عصر النهضة في أوروبا يوم كان عنوان التقدم والتبريز تلكُم الأجيال العربية التي دكت المعاقل وفتحت الأمصـار ما بـين مشرق الشمس ومغربها؟..
الجواب لا يحتاج إلى فكر طويل ولا جدال قصير.. فإن المنصفين من الناس أجمعين يدركون لأول وهلة أن العربي لم يتح له أن يتسلق شوامخ المجد ويرفع في أيمانه رايات الظفر والعز والمجد والهداية والنور والحق والجمال، يدعو إليها شعوب الأرض من كل جنس وقبيل.. حتى كان من العزم والإباء وقوة الشكيمة و (العصامية) والثقة بالله والإيمان بما يدعو إليه ويحرص عليه بالمكان الذي مكن له أن يسدد ويقود.. ويظفر ويقهر، وفي بطون التاريخ وصحائفه الخالدة ما يبرهن على ذلك دون جحود أو مكابرة وما أبين الشواهد فيه على ما كان يعتز يه السلف من شهامة وشمم.. انحدر إليه من خصائص القومية العربية العريقة المتوارثة.. تلك التي أقرها الإسلام وأشاد بها ودعمها وقواها في كل عمل صالح وخلق كريم..
و (هل يُنْبِتُ الخَطَّى إلاّ وشيجُهُ (3)
وتُغْرَسُ إلا في منابِتَها النَّخْلُ)؟
فما على أجيالنا الصاعدة إلا أن تواصل السير وتواكب الأمم والشعوب في كفاحها للبقاء واحتفاظها بالعزة والكرامة والإباء.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنينَ (4) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :443  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 651 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.