توصية إلى المسؤول عن الرياضة البدنية |
تسلمت من مدير تلك الكلية المستر "ليسالي ليفت" أوراق التحاقي بالصف الأول وأوراق الكتب المقررة على مثلي، التي سأتسلمها من مكتبة الكلية، وورقة أخرى إلى المسؤول عن الرياضة البدنية في تلك الكلية، وهو الأستاذ عبد الوهاب الرفاعي، مع توصية خاصة من المدير لذلك الأستاذ عندما لاحظ نحافة جسمي يوصيه بالاعتناء بي اعتناءً رياضيًّا خاصًّا، وسأتحدث أولاً عن هذه الناحية الرياضية، فقد ذهبت إلى مكتب الأستاذ الرفاعي في ساحة ملعب الكرة الخاص بتلك الكلية، وفي طرف منه غرفة مكتبه، فدخلت عليه في أعداد كثيرة من طلاب الرياضة الذين يباشرون جميع أنواع الرياضة من كرة القدم وكرة السلة وكرة الطاولة والملاكمة والمصارعة، فشققت طريقي بينهم أحمل ورقة التوصية وسلمتها للأستاذ الرفاعي الذي رأيته طبعاً لأول مرة، وكان رجلاً رياضيّاً مرحاً قوي الروح والبدن، لم يكد يتسلم ورقتي وفيها تعريف بأنني قادم من مكة، حتى رحب بي ترحيباً حارًّا وعلى طريقته المرحة مع بقية الطلاب عند مباشرتهم للرياضة، وممازحته لهم، فقد مد قبضه يده بشبه حركة رياضية، كأنما يلاكم بطني وما كان عودي يومئذ يتحمل مثل تلك الحركة، فابتسمت وابتسم، وقال لي: إن المدير قد أوصى بأن تكون على رياضة بدنية تملأ شخصيتك حيوية ونشاطاً ومرحاً، فتفضل هذا جدول ساعات الرياضة خلال كل أسبوع، وستشترك مع الطلاب في كرة القدم وكرة السلة وكرة الطاولة، ثم مد يده إلى خزانة مجاورة له وأخرج ثلاثة بنطلونات رياضية قصيرة، مع حذاءين من المطاط وثلاث "فانلات" ملونة كتب عليها بالإنجليزي رموز الكلية وبضع كرات لكرة القدم والطاولة وغير ذلك مما يدخل في مصاريف الطالب عندما يلتحق بالكلية وقال لي: |
هذه ملابسك الرياضية تبدأ فيها من غد مزاولتك للرياضة في هذه الأقسام التي ذكرتها لك، وأن تكون جادًّا فأنت بحاجة للرياضة، والمدير قد لاحظ عليك ذلك وأوصاني بك خيراً. |
وفي لبنان يدللون كل من يبدأ اسمه بكلمة "عبد" كعبد الله وعبد الرحمن وعبد القادر باختصار الاسم إلى "عبد" فصاح بي: "يالله يا عبد!"، وزادها توكل على الله واجتهد. |
وحملت هذه الحملة إلى غرفة نومي في إحدى بنايات سكن الطلاب، ووضعتها فور دخولي على السرير وألقيت عليها نظرة حزينة، ذلك أنني كنت عزوفاً عن ممارسة أية لعبة رياضية، لا أميل إلى الرياضة ولا أحب مشاهدة المباريات التي كانت في أول بداياتها، في مكة يومئذ، وكانت مقتصرة على فريق من الشبان والطلاب يقومون بها في أرض بيضاء، في محلة جرول قريبة مما كان يسمى يومئذ "قهوة المعلم"، في مدخل مكة، للقادم إليها من جدة. |
وأخذت أفكر وأنا أنظر إلى ملابس الرياضة كيف التخلص من الالتزام بالرياضة ساعة أو ساعتين في كل يوم خلال الأسبوع، وكنت قد زرت قبل ذلك بيوم مكتبة الجامعة الأمريكية العظيمة، وهي أكبر مكتبة علمية في العالم العربي بأسره يومئذ، أخذني إليها بعض من تعرفت عليهم من طلاب الأقسام العالية في الجامعة، واستهوتني أجواء تلك المكتبة والقاعة الكبيرة المخصصة للمطالعة، حيث كانت محتوية على أشهر الصحف والمجلات الإنجليزية والإفرنسية والعربية، مع الكتب المختلفة في شتى أنواع العلوم، وكان الطلاب في الأقسام العالية يتوافدون إلى تلك المكتبة جموعاً، جموعاً، يحملون الكتب المقررة عليهم ويلتمسون في تلك القاعة الهدوء المشهور فيها، والمراجع التي يمكن لهم مراجعتها والاطلاع عليها، ولا يدخل الزائر لها إلا على أطراف قدميه، حتى لا تصدر عن "جزمته" أية حركة تستدعي أن يرفع كل قارئ رأسه ويلتفت إلى الداخل لما صدر عنه من تلك الحركة. |
وكنت قد أخذت مجموعة من الصحف وجلست على مقعد من تلك المقاعد، وغمرني شعور عظيم وأنا بين المطالعين والقارئين من الطلاب والطالبات، أحسست أن هذه الأجواء العلمية، أجواء جديرة بأن أنتهز كل فرصة خارج أوقات دراستي لأجيء إلى هذه المكتبة وأدخل بكل هدوء إلى تلك القاعة، وأجرّ كرسيًّا من كراسيها، وأجلس بدون أن تصدر مني أية حركة تقطع أو تشوش ذلك الهدوء التقليدي المتبع من كل من قصدها، وجلس حول مكاتبها. |
ولهذا فقد كنت وأنا أنظر إلى ملابس الرياضة التي لا أحبها أقول في نفسي: كيف السبيل إلى أن تعفيني الكلية من تلك الساعات المفروضة على كل طالب أن ينتظم فيها في ملعب الكرة وغيرها من أقسام الرياضة، لأقضي وقت الرياضة هذه في القراءة والمطالعة في المكتبة الواقعة في بناية "الكولج هول" أمام مدخل الجامعة، والمخصصة لطلاب الصفوف العالية وحدهم، أما أنا فكنت أدخلها بإذن خاص. |
ذهبت في اليوم التالي إلى أستاذ الرياضة عبد الوهاب الرفاعي وكان قد حفظ اسمي، فلما أقبلت عليه، ولست في ملابس الرياضة، صاح بي "يا عبد! لماذا لم تلبس ملابس الرياضة؟!" فأجبته في استحياء وأدب عرفهما من أسارير وجهي وقلت له: يا أستاذ أنا لم أتعود في مكة على القيام بألعاب الرياضة، وأنا كما ترى نحيف العود، يتعبني الإجهاد، فهل بالإمكان أن تتفضل بإعفائي من ساعات اللعب؟ أعوضها على المدرسة بالالتزام بالذهاب إلى مكتبة الجامعة وقضاء وقت الرياضة في المطالعة والقراءة؟ |
فأبدى دهشته التي التهبت بها وجنات وجهه وقال لي: يا ابني، من أجل هذا نريد منك أن تقبل الآن على الرياضة إقبالاً يعوضك جسميّاً وعقلياً عما فاتك في مستهل شبابك، والرياضة في الكلية لا يستغنى عنها حتى بالمطالعة والدرس، لأن الدرس والمطالعة التي يظهر أنك تحبها حبًّا كبيراً لا تتم فائدتهما إلا من صاحب جسم قوي رياضي، وهو ما نريد أن تكون عليه من الآن فصاعداً. |
ثم قال لي وهو يضحك: لعلك لم تقرأ في الورقة التي حملتها إلي التوصية الخاصة من المدير على أن أعتني بك رياضيًَا، ولعلك لا تعلم إن المدير المستر "ليفت" لا يوصي بمثل تلك التوصية إلا للقليل من الطلاب، وقد خصك أنت بذلك، ثم قال لي: اسمع يا عبد! ما دمت من مكة، فأنا لن أعفيك من الرياضة بل وسأزيدك إرهاقاً بها، ثم ضحك وهو يقول: لنجد الشباب في مكة قد توجهوا إلى هذه الحياة الرياضية التي تصنع الرجال وتبعد الخمول والكسل، ثم وضع يده على كتفي في لطف واضح وهو يقول لي: يالله، يالله اذهب والبس، أمامك خمس دقائق لتبدأ اليوم في كرة السلة، فلعلها أخف عليك من كرة القدم وتكون البداية تليها بعد ذلك بقية ما يجب عليك أن تقوم به من بقية الألعاب الرياضية المفروضة أدرت ظهري لأذهب وألبس الملابس الرياضية لاحقني بهذه العبارة: لولا محبتي لك، لما أصررت على ما سمعته مني. |
ذهبت ولبست بنطلون الرياضة و "الفانلة" الخاصة بي، ولبست الحذاء المطاط، وتوجهت إلى الملعب وأنا في اضطراب نفسي لا يعرفه سواي، فقد كنت أشعر كأنني قد خرجت إلى الملعب عارياً، وأقبلت على الأستاذ الرفاعي فرفع ذراعيه وهو يصيح: "برافوا.. برافو.. عبد! يالله!" وأشار إلى مجموعة من الطلاب الذين يباشرون لعبة كرة السلة، وقال: خذوا معكم عبد. وسحبوني معهم، وأخذت الكرة لأول مرة في حياتي وبدأت أجول بها في ارتباك طبيعي تعمدت ألا يظهر علي، ولكنها كانت العادة التي لا مفر من الخروج منها، وكان فرحي كبيراً عندما انتهت ساعة الرياضة تلك بصافرة الأستاذ الرفاعي، حيث ينصرف كل من في الملعب إلى مطعم الغداء لتناوله، وانتهى ذلك اليوم. |
صبرت أسبوعاً أجيء في الأوقات المحددة إلى الملعب، وأقنعت الأستاذ بأنني لا أريد كرة القدم فأعفاني منها مؤقتاً ريثما يشتد عودي في لعبتي كرة السلة وكرة الطاولة، أو في المشي والهرولة وهو ما أفضله على سواه. |
|