شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رحلة الوفاء
الوفاء عند عبد العزيز الرفاعي ليس خلقاً فحسب، ولكنه مبدأ وديدن اتخذه سلوكاً ومنهجاً منذ نعومة أظفاره منذ أبصر والده يحزم حقائبه بعد أن طلق والدته ويرحل تاركه وأمه وأختيه في العراء لا عائل لهم ولا مأوى منذ تلك اللحظة التي كشرت الدنيا عن أنيابها وشحذت أظافرها لتمزق بها أحلام طفولته وتطلعات أمه وأخته لأمه وتبدد براءة طفولة شقيقته الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها حينذاك السنتين.. في غمرة تلك الظروف القاسية أبصر عبد العزيز الرفاعي من يمد يديه وينتزعهم من براثن الغربة والتشرد وينزلهم منزلاً يسكنون به يخفف عنهم البحث عن دار تؤويهم من صفعات الأيام، وضحكات الليالي، وسخرية الدقائق والثواني، وكان لأمه وأخته الفضل الأكبر بعد الله في توفير ما يسدّ الرمق بما يصنعانه من مخيطات يدوية ويبيعانها في الأسواق، ولقد شاركهما عبد العزيز في فترة من الزمن بيع تلك المنسوجات، وكان لتلك المعاناة التي قاستها تلك الأسرة وتحمل أشدها ألماً الطفل عبد العزيز الرفاعي، إذ وجد نفسه رغم صغر سنه الرجل الذي تنظر إليه أفراد أسرته بعيون يقرأ في أحداقها تطلعاتها وأحلامها مرسومة بحنانها وأشواقها وعطفها وافتخارها فلم يجد إلا أن يعترف لكل من أسدى إليه معروفاً بالفضل وآلى على نفسه أن يبذل قصارى جهده وفاء منه لهؤلاء الذين قدموا له من المكارم ما ألجم لسانه صغيراً وأنطق قلبه يافعاً وحرك قلمه كبيراً فعرف الوفاء وأيقن أن كثيراً من الناس مدينون بالوفـاء لغيرهـم لكنهـم ينسونـه أو يتناسونه وهم بذلك يشوهون الصور الحسنة التي تعلمها الأطفال في أيامهم الأولى والتي أخذوا يرددونها أناشيد سلوكية في خلجات أعمالهم وعلى صفحات مسيرة حياتهم.
وعبد العزيز الرفاعي لم يقتصر وفاؤه على أمه وأخته ولا على أولئك الذين مدوا إليه يد المساعدة وساهموا معه في تهيئة السبل الصحيحة لاكتساب تكاليف حياته المعيشية من عرق جبينه وكده لا تصدقاً عليه لأنه من أسرة لا يصح لها أن تقبل الصدقة وإنما امتد وفاؤه إلى أبيه الذي تركه طفلاً تحملق عيناه إليه وهما مُغرَوْرِقتان بالدموع ولا يكاد يفصح عما يحس به في ذلك الموقف وسنحاول الإفاضة حول هذا الموضوع في فصل آخر من هذا الكتاب.
أما هذه الرحلة التي أطلقنا عليها مسمى "رحلة الوفاء" فقد جاءت بعد "رحلة السعادة" تلبية لرغبة جامحة من أمه التي أحبها وأحبته وضحت من أجله ويرى أن من واجبه أن يلبي رغباتها، ويضحي من أجلها، ولن يستطيع أن يكافئها مهما قدم لها ولو معشار ما قدمت له.. لقد رغبت نفيسة بنت أحمد الرشيدي - رحمها الله - أن يقوم ابنها البار عبد العزيز الرفاعي برحلة إلى أندونيسيا يزور فيها خالته التي رحلت إلى هناك بصحبة زوجها الذي كان يشغل سفير إندونيسيا بالمملكة في الفترة التي كان فيها عبد العزيز طفلاً رضيعاً أو طفلاً صغيراً لم يتجاوز السادسة من عمره ينتقل حيث ينتقل عمل أبيه بين أملج والليث والقنفذة وينبع ولم ير خالته عند قدومه إلى جده مع أمه وأختيه وهم في طريقهم من ينبع إلى مكة المكرمة.
عقد العزم وكانت نيته معقودة على أن يصطحب أمه معه لتظفر برؤية أختها التي فارقتها منذ فترة طويلة ليحقق بذلك قول الشاعر قيس بن ذريح حيث يقول:
وقد يجمـع الله الشتيتين بعدمـا
يظنان كـل الظـن ألا تلاقيـا
لكن أمه قد وهن العظم منها، وأنهكها المرض، وكان يسعدها أن تصحبه لكنها لا تقوى على تحمل أعباء السفر والتنقل فأوصت ابنها أن ينوب عنها في زيارة أختها وأن يطمئنها عن صحتها.
وهنا وجد ألا مناص في اختيار رفيق له في هذه الرحلة وحبذا أن يكون من يقع عليه الاختيار زميلاً له ليس من زملاء الدراسة ولكن من زملاء الحرف والقلم ومن الذين يستطيعون الدفاع عن إخوانهم وأصدقائهم باليد واللسان ويرون صدق المثل القائل "العصا لمن عصى" فوقع اختياره على السيد علي حسن فدعق وهو فلاحي في حين أن عبد العزيز الرفاعي معهدي وتحمل كلمة معهدي معنى "خريج المعهد العلمي السعودي"، في حين تحمل كلمة فلاحي أي "خريج مدرسة الفلاح" لكنهما زميلان تجمعهما حرفة الأدب والشعر وهذا ما يقوى ما نراه طبيعة حسنة عند عبد العزيز الرفاعي حيث يأنس إلى مرافقة غيره في رحلاته المحلية والخارجية أي أنه لا يحب العزلة فقد علمنا أنه في طفولته وفي شبابه يحاول أن يجد له أنداداً ولداة ينهلون من نفس المنهل الذي يرد إليه ويستقي منه علاًّ ونَهلاً.
وتمت الرحلة وقابل خالته وتعرف على أبنائها ونقل إليهم تحيات أمه وأشواقها لرؤيتهم وأنها بعثته إليهم ليبلغهم حبها لهم ورغبتها في أن تكحل عينيها برؤيتهم وأنها لو لم تكن تقاسي وطأة المرض لأسرعت على جناح الشوق إليها، فحمَّلوه تحياتهم إليها وتطلُّعهم إلى اليوم الذي يسعدون فيه برؤياها وكلَّفوه أن ينقل إليها ما يتمتعون به من صحة طيبة وعيشة هنيئة مريئة لا ينقصها إلا رؤية محياها الكريم، ولقد استغل زيارته لأندونيسيا فتعرف على بعض الشخصيات الأدبية المسلمة التي تنتمي إلى أسر عربية، ولقد عاد من هناك بعد أن اطمأن على نجاح رحلته وأنها حققت كل الأهداف التي رسمها ودوَّنها في مذكرته الصغيرة وكان من أهمها زرع بذور الإخاء والتأليف بينه وبين عدد غير قليل من عشاق الكلمة والحرف الذي أحس بحاسته السادسة أنهم يتلاقون جميعاً معه في كثير من الصفات والسمات والميول والطبائع، وكان من نتائج تلك الرحلة كتيَّبٌ عنوانه "خمسة أيام في ماليزيا".
وحينما رجع إلى أمه الصغرى التي حملته في بطنها وأرضعته لبنها وأدفأته بحضنها وجعلت سهرها سراجاً له في ظلماته وفتحت قلبها ملهى ومغنى، وشقيت من أجله حتى استقام عوده، واشتد ساعده، وبدأ عطاؤه، حمدت الله وسجدت له شكراً أن منحها الله ابناً باراً بها، ورجع إلى أمه الكبرى تلك الأرض التي احتضنته منذ ولادته تحنو عليه وتشتاق إليه كل لحظة حتى روي من زلالها، وشبع من خيراتها ونعمائها، وتقلب على صدرها، وغذته من رياض العلوم، وجلت أخلاقه وسلوكياته بنور الحب، وسلحته بسلاح الإيمان، ونشأته في مدارس الأخيار، فاحتفلتا بعودته احتفلاً مادياً ومعنوياً.
ولقد سعدت أمه نفيسة سعادة بالغة إذ حمل إليها أنفاس أختها "عيشة" وطمأنها على تمام صحتها فقبلته بين عينيه وقبل يديها ظاهراً وباطناً وقبل رأسها اعترافاً منه بفضلها عليه، وإنه لفضل عظيم، ظل يبذل قُصَارى جهده في أن يفيَها بعض ما تستحقه، ولقد سبقته إلى الدار الآخرة بعام وهي راضية عنه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :590  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .