شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الرّحْـلَة الممتِـعَة
بعد عودته من رحلته التي شمِلتْ مصر والشام والتي صاد فيها أكثر من عصفورين حيث ظفِرَ بلقاء أئمة الأدب وفحول شعراء العربية في مصر والشام ووضع اللبنات الأولى في بناء صرح العلاقات الأدبية بينه وبينهم وعمل على تقوية الوشائج الصادقة التي كان يعتز بها، لكثير من الأدباء الذين كان شغوفاً بقراءة حصاد جهادهم الأدبي، وإبداعاتهم الشعرية والنقدية، ثم استطاع خلال إقامته في مصر والشام، أن يعمد إلى زيارة المكتبات، التي تمتلئ رفوفها بأمهات الكتب العلمية والثقافية والمعاجم والمراجع، واختار منها ما كان يشتاق إلى اقتنائه، وكان بوده أن يعود بعدد كبير من الصناديق المعبأة بالكتب، لكن هيهاتَ له أن يحقق كل مطامحه، ومدخراتُه من النقود أو بالأصح ما حمله معه من نقود لا تفي بتحقيق رغباته، لكنه كان حريصاً أن تكون نتيجة رحلته التوفيق والربح فحقق الله له ذلك.
ولما استقر به المقام، وألقى عصا التَرحال، أخذ يُعِدُّ العدةَ للقيام برحلة هامة، رحلة داخلية لا يحتاج فيها إلى تجهيز تذكرة إركاب بالطائرة أو إعداد سيارة فارهة أو غير فارهة ليدير مقودها وينطلق من مقر سكناه إلى موطن رحلته لأنه لا يملك في ذلك الوقت سيارة بل لا يوجد من السيارات إلا عدد قليل جداً ثم إن الرحلة لا تحتاج إلى تسخير سيارة أو أية وسيلة إركاب لإنجاز المهمة.
إنها رحلة ممتعة وجميلة حقاً تأخر قيامه بها لظروف خارجة عن إرادته، لقد كان يتمنى أن يقوم بها قبل ذلك ويرضى بتحقيقها رغبة أمه وأخته، لكنه كان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى فالقيام بتلك الرحلة يتطلب إعداداً مالياً يغطي نفقات كثيرة تساير عادات أهل مكة، وأهل مكة أدرى بشِعابها، ولذلك وجد أن القيام بالرحلة إلى مصر والشام أقل كلفة وقد لا تحقق بسرعة لو أنه بادر بهذه الرحلة التي لم نفصح حتى الآن عنها ليس ذلك في أن نجعل منها لغزاً يحير الألباب ولكن لنبين مدى حَصافة رأي عبد العزيز الرفاعي وسلامة تقديراته فقد فاضل بين السفر إلى الخارج وبلوغ آماله وأحلامه التي كان يتطلع إليها منذ شبابه حين كان يشارك زملاءه في قراءة الكتب والصحف الأدبية، التي ترد من مصر والشام وقد ذكر بعض البيوتات التي كان يرتادها في تلك الفترة من عمره ليظفر بما يضفي على نفسه لوناً من الهدوء ومقداراً من المنفعة الأدبية بما يقرأ من تلك الكتب التي يستوردها أصحاب تلك البيوتات ومنهم بيت آل العظمة.
لقد فاضل بين السفر إلى الخارج وبين الرحلة من العزوبية إلى عش الزوجية، فوجد أن السفر إلى الخارج في تلكَ المرحلةِ من حياته أسهلُ وأيسرُ لسببين:
1- لأنه لا يملك المال الكافي لتغطية نفقات الزواج، فراتُبه الذي يتقاضاه، وإن ارتفع نسبياً، ليس قادراً على تلبية طلبات تكاليف المعيشة.
2- إن الإقدام على الزواج قد يحرمه سنوات من أن يفتح له نافذة أو بالأصح نوافذ على العالم الخارجي ليطل منها ويتعرف من خلالها على الينابيع الثرة ويطرق أبواب المعرفة التي تعتبر منابر إشعاع ومنائر إرشاد يتزود منها الطامحون ويهتدي بها السائرون إلى ذرا المجد والحضارة والتقدم.
لهذين السببين نراه قد عقد العزم على القيام برحلته إلى مصر والشام ولمَّا عاد مطمئناً من تحقيق ما كان يصبو إليه من نجاح ورباح تلك الرحلة رسم خطوط رحلته الثانية "من صحراء العزوبية إلى روضة الزوجية" وجعل يواصل تنقيحها بين فينة وأخرى.
وما إن أعرب عن عزمه في تحقيق أمنيته الثانية، وهي رحلة السعادة، رحلة الاستقرار، رحلة الطمأنينة، حتى عمّت الفرحة قلوبَ أفراد الأسرة، وهم أمه وأختاه، بدؤوا البحثَ عن العروس التي وضعن لها في ذاكرة كل منهن سمات معينة من حيثُ الجمال والأخلاق والمنشأُ الحسن، واتبعت الأساليب التي كانت سائدة في تلك الحقبة من الزمن والتي تتحمل الأم النصيبَ الأوفى في تقرير النتيجة، ولقد وفقت في اختيار الزوجة المناسبة لابنها البار، وعندما تقدم لخطبتها من أبيها سئلت عن رأيها في فارس أحلامها ورفيق دربها في المستقبل فتركت الأمر لوليها، وحين بحث الأمر بين أفراد أسرة العروس تحدث جد العروس لأمها (عثمان قزاز) فزكَّى العريس وامتدحه وأثنى عليه بما هو أهله كما امتدحه خالها (بكر قزاز)، وقد وصفاه بأنه رجل يندر في الرجال نظيره، ولقد قالت بعد وفاته مجيبة عن سؤال وجه إليها: ولقد وجدته بعد الزواج نعم الرجل ونعم الزوج ونعم الشريك والعشير - رحمه الله رحمه واسعة-.
ثم بدأ بعد ذلك العدُّ التنازلي لبداية الرحلة السعيدة التي اشرأبت إليها قلوب أفراد الأسرة جميعاً وتطلعت إلى رؤيتها والاحتفاء بها احتفاءً يليق بعظم مناسبتها وبشمائل العروسين وموقعهما من حب أهلهما ومعارفهما.
وهلَّ عام 1374هـ وهو العام الذي زفت فيه كريمة السيد عبد الحميد خوجة شقيقة الدكتور عبد العزيز خوجة سفير المملكة العربية السعودية بروسيا الاتحادية إلى الشاب عبد العزيز الرفاعي وكان يوم زفافها يوماً في تاريخ أسرتيهما مضيئاً بمصابيح الفرح والسرور والابتهاج، رقصت على زغاريد المحتفيات بهما قلوب المحتفين بهما، وعلى رأس الجميع أبوا كل منهما.
لقد كان ذلك اليوم في حياة عبد العزيز يوماً مشهوداً بما حفل به من شعور بالطمأنينة والحب الذي أحس به الجميع وقرأ فصوله المدعوون في عيون بعضهم بعضاً، ورسمته مشاعرهم لوحاتٍ رائعةً في حناياهم لتبقى ذكرى سعيد لحفل عظيم لعظم المناسبة. ولقد قيل: المكان بالمكين. وسارت السفينة بالعروسين تحرسها وتحرسهما عناية الله ورعايته، وظلت تمخر عُبابَ الحياة، وشراعُها الحبُّ وصاريها الوفاءُ وزادها الإخلاصُ والتعاونُ والتضحيةُ والتسامحُ، حتى شاءت إرادة الله وقدره، فاختار الله ربان السفينة إلى جواره وترك أمرها لشريكة حياته لتدير دفتها بما عرفت به من حنكة ودراية وحس مرهف وحسن تدبير، وقد دامت قيادته لتلك السفينة خلال الرحلة السعيدة أربعين عاماً عبر بها البحار والمحيطات، وطاف بها حول الجزر والخلجان غير عابئ بما تبتلى به السفن في كثير من الأحايين بالزوابع واضطراب المياه وثورة الأمواج؛ لأنه خبر بهدوئه وسكينته كيف يجنح بسفينته إلى بَر الأمان ولا يعرضها إلى مواطن الخطر، ويعكف على إصلاح ما يصيبها من الخلل أولاً بأول، أي قبل أن يستفحل ويصعب التغلب عليه.
وإذا كان لكل رحلة نتائج، وأن المرء لا يقدم على القيام برحلة ما إلا إذا اقتنع بالمكاسب التي يطمح إلى تحقيقها، فلقد حقق عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله- من هذه الرحلة مكاسبَ جمةً منها على سبيل المثال:
1- ابتغاء مرضاة الله ورسوله، إذ النكاح من السنن الإسلامية التي حث عليها ديننا الحنيف، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وقال تعالى في سورة النساء: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشرَ الشباب من استطاع منكم الباءةَ فليتزوجْ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء. وقال عليه الصلاة والسلام: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة.
2- طلب الغنى من الله الذي وعد به عباده حيث اختتمت الآية الثانية والثلاثون من سورة النور بقوله: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ولقد حقق الله له طلبه حيث ارتفع راتبه من 700 ريال إلى ألف وستمئة ريال، وعين رئيس قسم الشؤون السياسية في السنة التي تَلَت سنة زواجه.
3- الأمل في أن يمنحه الله ولداً باراً يكون سنداً له في حياته وداعياً له بالرحمة والمغفرة بعد مماته، والبنون من نعم الله على عباده وهم زينة الحياة الدنيا، هكذا وصفهم الله في كتابه العزيز حيث قال عز من قائل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وهم من زينة الله التي أخرجها لعباده وقد لام مَن حَرَّمها فقال تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ولعل من الكفر بنعم الله وزينته وأد البنات الذي دأب عليه في الجاهلية كثير من الناس خشية العار وكذلك قتل البنين خشيةََ الإملاق فقد جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى: وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وقال تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وقال سبحانه عز وجل: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم وقال أيضاً: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم.
ولقد رويَ عن سيدنا أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبحه وتذكره، وقال أيضاً: أكثروا من العيال فإنكم لا تدرون بمن ترزقون والأولاد ثمار القلوب وبهجة النفوس وهم عماد أهليهم، بهم يصولون ويجولون، وعليهم يعتمدون في جليلات الأمور، ولقد حقق الله لعبد العزيز الرفاعي أمنيته، ورزقه بابنين هما عمار وعلاء وابنتين هما عزة وعبير وكانوا نعم الأولاد بررة بأمهم وأبيهم وتوفي وهو راض عنهم.
4- طلب الحصول على المودة والرحمة اللتين أشار الله إليهما في الآية الحادية والعشرين من سورة الروم قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وقال تعالى في سورة الأعراف وفي بداية الآية الواحدة والخمسين بعد المئة: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها وبفضلٍ من الله وبتوفيقه نال عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - ما تمنى، وظفر بالزوجة الودود الولود، التي كانت نعم الزوجة، والتي وجد فيها كل الصفات الحميدة، التي كان يحلم بأن يمن الله عليه بالظفر بها ونشأت بينهما المودة والرحمة والسكن المطمئن والراحة النفسية وكان كل منهما للآخر نعم الساعد المعين يخفف عنه أعباء الحياة ما تيسر له من أسباب الراحة، ولقد وضع بين يديها كل ما يمكنها من تسيير أمورها المنزلية بحيث لا يجد ما يعوقه عن إدارة أعماله الوظيفية على الوجه المرضي إذ كفلت عنه ما يهيئ له السبل السليمة التي حققت له النجاح العظيم والذي برزت دلائله من رضاء المسؤولين في الدولة عنه، ومنحوه التقدير والاحترام، لما لمسوه فيه من رغبة أكيدة وإخلاص نادر المثال في تأدية واجباته المنوطة به. ولم تقتصر واجباتها خلال رحلتهما التي دامت أربعين عاماً، على القيام بشؤون المنزل ومتطلباته وإنما شمِلت أيضاً فض المنازعات وحل المشكلات التربوية التي تنشأ بين الأبناء والبنات داخل البيت والتي لا يكاد منزل يخلو منها، ولم يكن تكليفه لها بهذه المهمة عن عجز وإنما ثقة منه باستعدادها وقدرتها على الإصلاح بالطرق الكفيلة بتحقيق الأهداف المرجوة، والأولاد بطبعهم ميالون إلى الإصغاء إلى الأم والسمع والطاعة لها طالما كانت لديها الكفاءة في معالجة الأمور بأسلوب يستميل إليها قلوبهم، وتتعلق بها نفوسهم، فلا يجدون مناصاً من الاستماع إلى نصحها وتلبية طلباتها وتحقيق رغباتها، على أن هناك جانباً آخر تحرص على القيام به وهو مشاركته قلباً وقالباً في أفراحه وأتراحه، تحمل بيديها أمامه المصباح السحري الذي يجلو ظلمة الحزن، وتغسل عن نفسه شوائب الكروب وتقدم له باقة من الورود الملونة العطرة الندية التي تعبر عن بسماته المشرقة وآماله التي يتطلع إليها وقد أضفت عليها من حنانها ورقتها وطهارة نفسها ما ترك أريجها يضوع في حناياهما معاً ويسري في شرايينهما لغة للحب مضيئة بضياء رباني تغشاهما بركاته.
لقد حقق عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - في هذه الرحلة بتوفيق الله له ما كان يصبو إلى تحقيقه، ولقد كانت زوجته نعم العشير والأنيس له والمواسي في محنته المَرَضِية، فقد جلست بجواره سفراً وحلاً تخفف عنه آلامه، تبذل في سبيل ذلك كل شيء تستطيع أن تبذله مع علمها بأن إيمانه بربه قوي لا تتطاول إليه الوساوس والشكوك، وهيهات للشكوك والوساوس أن تجد منفذاً إلى قلبه لتنزع منه إيمانه أو لتعبث به فتزعزع جذوره، فإيمانه راسخ الجذور قوي الثبات لم يسمح لرياح المبادئ الهدامة أو الدعايات المضللة أن تنال منه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :678  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.