شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نذير الشيبْ
تطلع الشاب إلى مرآته يوماً فاستوقفه منظر جديد هز نفسه.. إنها شعرة بيضاء تلمع في رأسه بين الشعر الأسود الغزير.. وحيدة غريبة.. حاول أن يلمسها ويده ترتعش فانكمشت باستحياء وغاصت في الجعد الأثيت.. أهي ضيف ثقيل يشعر باستثقاله فيختبئ ليظهر عند سنوح الفرصة كما يفعل المهين المرذول؟ أم هي كبرياء الموغل الواثق بنفسه المستعز بطوله يأنف من اللائمين المتطفلين من أنه سيثبت أقدامه ويوسع رقعته ويتمكن مما احتل؟ أم هو النور يتسلل إلى الظلام تسلُّلاً خفياً حتى يمد رواقه ويحيل الليل بحركات (أوتوماتيكية) ما تصد ولا تطيق الفضول والتدخل..
أياً كان الأمر فإن الشاب قد ذهل لمرأى الشعرة البيضاء تباغته وتحتل من رأسه مكاناً سمياً دون استئذان ولا مبالاة..
وعجب لنفسه يستنكر هذه الشعرة ويخشاها، أليس هو الذي كان بالأمس يسخر من الذين كانوا يتشبثون بالحياة ويرتعدون من الموت فزعاً؟ أليس هو الذي كان يمج الحياة ويرحب بالموت في أبشع صوره لأنه –كما كان يقول– مفارقة لوجه الحياة الكالح، وخروج بالأحرار من العنت والاضطهاد إلى عالم ليس فيه عنت ولا اضطهاد؟
لقد كان يكرر مع أبي الطيب قوله (كفى بك داء أن ترى الموت شافياً) فماله يجزع من النذر البواكر؟
ولم يحر جواباً على هذا السؤال، وأمسى كان عقدة نفسية تنعقد داخل نفسه.. وكانت تلك الشعرة حبلاً غليظاً يشدها ويتوثق من ربطها فتضعضع كيانه من رجفة المعركة الدائرة في أعماق وجدانه وسريرته فلوي وجهه المربد عن المرآة وأهوى إلى سريره يلتمس فيه الراحة من التفكير الممض فنبا به السرير وأعاده التفكير إلى حظيرته المخيفة كارهاً فهرع إلى صديقه (ص) أسوان حائراً فما ضاقت به حياته أو ضاق هو بحياته إلا وجد عنده الصدر الرحيب ينفض إليه همومه وآلامه ويتناول منه جرعات شافية من السلْوان والتفريج..
قال الشاب.. لقد انهارت أعصابي وفقدت شجاعتي من حادث تافه بعد أن كنت حديدي الأعصاب موفور الشجاعة.. إنها شعرة واحدة هزتني كما لم تهزني أشد الأحداث والمواعظ.. شعرة تطالعني كل يوم ألوف من أمثالها في وجوه الناس، ورؤوسهم فما أدهش ولا أترنح فمالها قد طارت بلبي شعاعاً وطوحت بفكي كل مطاح.
ولم يجب (ص) صديقه المذعور بمنطق من القول بل بادر إلى رأسه فكشفها فإذا الشيب يتلألأ خيوط من الفضة في نسيج حالك. وإذا هو يبتسم لهذه الشعيرات التي تكلل، هامته ويداعبها بأنامل رقيقة.. فاستحوذ على الشاب ذهول واضح.. فقد كانت هذه اللفتة البارعة ابلغ من أي تعبير.. أن صديقه ينقص عنه في العمر بما لا يقل عن سنتين، ولم يلاق في فجر حياته ولا ضحاها معشار ما لاقاه هو من رضوض وجراح، ورغم ذلك فرأسه يلمع بالشيب وهو لا يضيق به ذرعاً ولا تكتنفه بسببه الهواجس والهموم.. أما هو.. هو الذي خاض غمار معارك الحياة الكبرى وانتظمت جسمه سهاماً حتى أمسى كالغربال.. فإنه –ويا للمذمة– يرتعد هلعاً من شعرة بيضاء واحدة جاءت في أوانها أو بعد الأوان.. لبئسما اعتز به من مواهب وإقدام.. إنه هباء في هباء وتزوير على الحقيقة وبهتان.
وبان الألم الصارخ والخزي المميت في ملامحه بشكل محزن، فبادر صديقه إلى إنقاذه مما يعتصره ويدميه.. قال له إنك لواهم فيما تظن من جبنك فما أنت بجبان ولا كنت في يوم من الأيام، كل ما في الأمر أنك توغل في مجاهل التفكير فتضل بوحي من إحساسك.. هذا الإحساس المشبوب الذي جنى عليك وآذاك.. إنه رائد خداع فلا تتابعه.. وما تعانيه من اضطراب نفسي إنما مرده إلى الشعور بالانتقال من طور في العمر إلى طور.. وهو شعور مخيف عانيته أنا وعاناه قبلي، وقبلك كل من غشيتهم الراحة.. وللنفس البشرية أطوار عجيبة.. فهي أحياناً، تخشى الهرة ولا تبالي بالأسد ولا تهتدي إلى تفسير معقول لهذه المتناقضات.. فأنت -مثلاً- دهمت بالشيب وأوجست منه وكنت لا تخاف الموت ولا تهجس به نفسك.. فما هو الشيب في أسوأ حالاته وأقبح صوره.. هل يزيد على أنه الدقة الأولى من الناقوس المنذر؟
وما كان لمن يستعجل الدقة أن يجفل من الدقة الأولى ويحذر ولكنها النفس البشرية المتأرجحة وعامل المفاجأة المثير..
ثم أليس الشيب نتيجة محتومة لمقدمات طبيعية؟ فماذا ترتقب بعد الشباب إلا المشيب وبعد القوة إلا الضعف وبعد النضارة إلا الذبول.
لا تبتئس أيها الصديق فما أنت بهياب ولا وجل وما هي إلا فورة نفسية ستهدأ عما قريب. وستعتاد بطبعك الألوف على المشيب فما ترضى به بديلاً حتى ولا الشباب الريق فأنت كما قال أبو الطيب:
خلقت أَلوفاً لو رجعت إلى الصبا
... لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
فسرى عن الشاب وانجلت عنه الغمرة الكاسحة كأنما بسحر ساحر.. وانثنى وهو يردد مع صرَّدُر قوله.
وما الشعرات البيض إلا كواكب
... مطالعها رأسي وفى القلب نورها
 
طباعة

تعليق

 القراءات :579  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 18
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .