ثبَات أمَام العوَاصفْ |
لم تلن الحوادث المتلاحقة من قناة الشاب ولم تغير من نفسيته إلا قليلاًً فلم يحن رأسه أمام العواصف فكادت أن تقتلعه مراراً لولا تثبيت من الله.. ولم يتحلل من طبعه المتقبض إلا في أوقات منزورة فكاد أن يعيش متوحداً لولا غناه بمودات قليلة ممتازة.. |
وكان قد عاف طعم المجد الذي تعارف عليه الناس فلم يبال بوسائله ولم يطمح إلى غاياته فاستراح من سورته ولهابه.. وقعد في صومعته ينظر برثاء إلى الصراع المخيف الذي يدور من أجل سراب خالب.. ولم تخيب الأيام ظنه بها وبالناس فنقل من وظيفة تنفيذية ذات شأن وسلطان إلى وظيفة استشارية تقوم على الرأي ما يؤخذ به إلا إذا طابق الرغائب ونزل على المشيئات.. وكان ذا طاقة عجيبة على العمل فلم يجد لطاقته متسعاً في العمل الجديد ولا إقبالاً عليه فزاد سامه فنفسه كالقدر تغلي وهى صائرة حتماً إلى الانفجار إن لم ينفس عنها.. |
واستعان على تفريج كربته وتلطيفها بالانغماس في المطالعة، وباللياذ بصديقه (ص) يسعد برؤيته ويبثه همه اللاعج وكربه الدفين فيجد البشاشة والتأساء والمجاذبة النفسية.. |
ولم يكن يشقيه قدر أن يفهم الناس بلواه فهما معكوساً فيظنوا به الندم على منصب زال وقد كان اشد الناس كراهية له ومقتاً.. |
واستبد به سوء الظن فكان يفسر الهمسة واللفتة تفسيراً يتفق وما يصطخب في صدره من ثورة وتبرم واشمئزاز.. ولكنه كان ينطوي على نفسه فلا يسمح لعواطفه بالمجاهرة والاحتكاك.. وإنما ترتسم على وجهه خطوط حزينة وابتسامات واهنة تنبئ عما وراءها من ضيق ومرارة.. فإن غلبته هذه العواطف على أمره في لحظة من اللحظات فانفجر وثار فإن خلصاءه زعيمون بالاحتمال والتبرير وتفنيد قالة السوء ورد عادية الألسن.. وهذا الصنيع في رأيهم هو أضعف الإيمان في مشاركة صديقهم بعض أثقاله النفسية التي يرزح تحتها منذ بعيد ولا يجد إلى طرحها من سبيل.. ولولا هذا النفر الكريم الذي سما عن دنيا الناس الحقيرة بروح عظيم لكانت حياة الشاب حلقة مفرغة من العذاب والأشجان.. |
إنه يحسد نفسه عليهم فما هو بأهل لكل هذه التضحية الحفية ولا عجب فإن الصداقة الحميمة في هذه الدنيا قد أصبحت أندر من الكبريت الأحمر. |
يظهر أن الكون قائم على التعاون والموازنة سواء في المعائش والأرزاق أم في المدارك والأفهام أم في الحواس والأجسام.. فأعباء الغني ومتاعبه قد تزيد عن أعباء الفقير ومتاعبه.. وقد يتشهى الغني ما يتمتع به الفقير فما يناله ولو بذل غالي الأثمان.. الصحة السابغة والجسم المفتول والبال الخالي والأزهار النضرات من البنين والبنات.. والنعمة المتاحة منكورة على الفضل أو على الأقل بضعف إحساس صاحبها بها فما تظهر عليه بوادر حمد ولا التذاذ.. |
فبينا يكاد يطير لب الغني جزعاً من العقم مثلاً وبينما هو يجرى على جسمه من التجارب القاسية ما يصدع قلب الجماد انتجاعاً للإخصاب.. إذا بالفقير يضيق ذرعاً بالولد ويئن من تكاليفه.. |
أليس المال والبنون زينة الحياة الدنيا؟.. |
إذن فمن العدل أن يكتفي الناس بأحدها دون الآخر فلا يتطلعون إلى ما في أيدي سواهم بحسرة وتلهف -وفي أيديهم ما يتطلع إليه- لقد استطاعت الطبيعة أن تقيم ميزانها الدقيق فإذا بالمنغصات توازن المباهج فلا هضم ولا إجحاف. |
وهكذا الحال في كل المزايا.. لا بد أن تنتقص الطبيعة تلقاء ما حبت.. ولا بد أن تعوض عما حرمت.. |
لقيت يوماً أديباً موفور المواهب ذائع الصيت فبادرني بشكوى الدهر - وضرب مثلاً بمحاباته -أي الدهر- لنفر من الأغنياء الذين لا يتميزون على من عداهم إلا بصفاقتهم وأصالتهم في السخف والتفكك.. وكان يقول أن هذه قسمة ضيزى فنحن أحق منهم بهذا الترف والنفوذ ليتزاوج الذكاء والمادة فيلدا السعادة التي تحلم بها الإنسانية.. |
قلت فإنني لا أقرك على رأيك لمجافاته لروح العدالة.. فبهت وتساءل أأنت الذي تقول هذا؟ قلت نعم، أترضى أن تستبدل مواهبك بكنوز الأرض وتنقلب إلى مسخ من أولئك الأمساخ، لك عقليتهم الفجة وخيالهم المريض؟ فاستضحك وظنني هازلاً.. قلت فإنني لا أهزل بل أجد.. إن الطبيعة قد قسمت بين الناس بالقسطاس فأعطت وسلبت بعدالة.. فمن كان يريد الاستئثار بكل خيراتها فهو أناني مائق.. كن راضياً بمواهبك فقد عوضتك الطبيعة بها ونعم العوض هي - عن العرض الزائل والاستعلاء الزائف.. |
كم من غني مهيمن يود بجدع الأنف لو كان له ومضة من ومضاتك الذهنية أو شطحة من – شطحات خيالك الخصيب. |
لا تحلم بالمدينة الفاضلة التي نادى بها أفلاطون في جمهوريته فليس مكانها على هذا الكوكب.. إن الفضيلة والسعادة الكاملتين فيه هما كالنجم ترمقه ولا تطوله.. |
فمضى عني وهو يتمتم ببيت المرحوم الشاعر المصري حفني ناصف: |
انقضى معي إن حان حيني تجاربي |
... وما نلتها إلا بطول عناء |
إذا ورث المثرون غنى |
... وجاهاً فما أشقى بني الحكماء |
|
هكذا كان الشاب بعد أن تكاثر عليه العيال فتأرجح الفكر بين عقليته المتفلسفة وحاسته الشاعرة.. كان يعرف أن الذرية امتداد الشخصية وتخليدها.. وإن الأطفال رياحين البيوت وشذى الأرواح ولكنه عاد يوازن بين محاسنهم ومساوئهم بعد أن أرهقوا أعصابه فإذا لهم من السيئات ما يعادل الحسنات أو يرجح عليها في بعض الأحيان.. وما كان ليهمه الحجر على الحرية ولا تفاقم النفقات بقدر ما كان يهمه التفكير الدائب في كل صغيرة وكبيرة على الجسم المتهالك.. |
حتى المستقبل المحجب كان حسابه عنده.. ما هو مصيرهم؟ مكانتهم في المجتمع؟ هذا المقلق المستقر في خلده يؤرقه ويضنيه.. أليس له من نهاية؟ لقد كان يحمل هم نفسه وحدها فأضحى يحمل رزمة من الهموم.. إن صديقه (ص) من الذين وهبوا الإناث فله منهم ماله من ذكران.. وهؤلاء وأولئك يحتاجون إلى مزيد من الرعاية ومديد من الإنفاق حتى يستطيعوا الوقوف على ارض صلبة والاعتماد على النفس أو الرجولة المظللة.. أنهم أمام وجدانه سواء، فلتكلأهم عناية الله حتى يشبوا ويلتئم شملهم ويومئذ يهدأ باله ويستريح.. |
قال الشاب لصديقه (ص) لقد كدت أدين بنظرية تحديد النسل فإن هم الولد يقض مضجعي ويسلمني إلى أفكار سود مؤرقة ويطوح بي في متاهات مولهة مخيفة.. |
نحن -أنا وأنت- في بسطة من العيش ولكننا ننوء بمن نعول روحاً وإدراكاً فكيف بنا لو كنا معدمين؟ كيف لو تآمر علينا الويلان؟ |
إن خشية الثكل تفوق خشية الإملاق بما لا يقاس. وقد كانوا في العصور الهمجية يقتلون أولادهم خشية إملاق وحدها فكيف بمن يتوجس من الخشيتين؟ إن الشيطان ليوسوس لي أحياناً بوساوس فاجعة لولا هروبي منه إلى الله واعتصامي به.. أتحس بما أحس أم وقاك الله منه بتسليم وإيمان؟ وهلا ترى مثلي؟ أب يحيل البؤس واليأس إلى مبادئ هدامة ومزالق منكرة ليس له عنها من محيص؟ أليست محاربة الفقر هي أول ما يجب أن يعمل من أجله المصلحون حتى لا ينساق العالم كارهاً إلى الشرور والجرائم، ويتدهور إلى درك سحيق من المخازي والانحطاط؟ |
إن من عنده ذرة من عقل لا يحمل ما يطيق فكيف بمن يجر الحمل الثقيل إلى ظهره جراً؟ والمنادون بتحديد النسل لم يحوروا عن القصد حينما نادوا بنظريتهم وهم ينظرون إلى الإنسانية المعذبة في رثاء وإشفاق.. وهذه الأغلال التي يرسف فيها البائسون هي وصمة في جبين الإنسانية يجب أن تمحى وإلا أخذت من أقطاره وزلزلت زلزالاً شديداً.. |
قال (ص) فإنني أؤمن بما تطالب به المصلحين والحكومات أعمق إيمان وأحس بما تحس به وأصلى ذات النار، ولكنني أغطيها بطبقة كثيفة من الرماد حتى لا يتطاير شررها إلى مكان العقيدة من نفسي.. فأنا كما تعرف ليس لي قدرتك على رد عاديات الإغواء والفتنة، ولذلك أميل إلى إيمان العجائز فلا أمارى ولا أجادل بل أذعن وأستسلم أمام مشاكل العقيدة التي تستعصي على فهمي الكليل.. وأخرى أكابدها راجياً وما كابدها غيري إلا سخطاً وجزعاً.. ليس لي ولد ولى بنات.. وقد كان الناس منذ خلقوا يفضلون الذكر على الأنثى، والقران الكريم يقول وليس الذكر كالأنثى ويقول في ذم الجاهلين وإذا بشر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب واحسبهم كانوا يفضلون الذكر على الأنثى، ارتقاب نفع الذكر وعونه وخشية معرة الأنثى وشنارها، وهو تفكير ظالم سقيم ينبثق من الجشع وسوء التربية.. أما أنا فإنني قد وطنت النفس على أن لا تتمرد على قضاء الله وتنقم على واقعها.. فلقد يكون الخير فيما نظنه شراً مخيفاً.. ولقد يكون الشر فيما تشتهيه وتسعى إليه. وأنا -بعد- رب بنات وأنت رب أولاد وما بناتي وأولادك إلا أفلاذ هذين – الكائنين اللذين هما أنت وأنا، وقد امتزج روحانا فأصبحا روحاً واحدة تحل في جسمين أليس في كل هذا ما يحمل على الرضا والتأساء؟ قلت بلى وربى.. قليل من إيمان خير من كثير من فلسفة ورب طيبة غلبت قوة. |
|