صرَاعات فكر |
أوغل ركب الحياة بالشاب في حياته الزوجية.. وامتزجت أفراحه بالأتراح.. وراض نفسه على الاحتمال والتجلد.. لقد أنضجته التجارب والصروف على نار لينته.. وخض الزمن من أحزانه المفترسة فهدأت وانزوت في ركن قصيٍّ من أركان نفسه تهجع وتستيقظ ولكنها لا تزعزع ولا تمضى إلا بمقدار وتفتحت روحه لولا أن جديدة من الأشجان والمتاعب.. كان مخصباً فكثر ولده.. وللولد، تكاليف وشواغل وأعباء تنقض الظهر وتفرى الكبد ما يعرفها إلا من ابتلى بها وذاق مرارتها.. |
كان يسهر لنفسه لاهية ومغرية بالمجد والخلود، وكادحة في سبيل العيش فأمسى يسهر أرقاًً وقلقاًً وخشية مما عساه أن يقع لأطفاله، وفيما يقع لهم بالفعل من داء وأسقام.. |
وكان متلافاً للمال لا يبالي ما انفق منه.. فغدا ممسكاً له حريصاً عليه لطوارئ الضد وأحداث الزمان.. |
وكان ليله ملكه الخالص يصرفه كيف يشاء.. فلم يعد له ليل يتصرف فيه إلا بجدل واستئذان.. |
وترنح تحت وطأة العبء فحاول التخفيف عن كاهله والتنفيس عن صدره.. وحار أي سبيليه يسلك.. أسبيل الهداية اللاحب أم سبيل الغواية المتعرج؟ |
إنه يجد السلوان ويستشعر برد الراحة في ظل صديقه "ص" وإذا انغمس في عباب الكتب والأقلام دبت في أوصاله نشوة يغيب فيها عما حوله ومن حوله فترات طويلة وقصيرة.. |
ولكن النفس الأمارة بالسوء تلح عليه أن يغسل همومه بغسول جديد فيه طرافة وإنعاش.. وتغريه بالليالي الحمر ما تبقى من المكاره وما تذر.. وما زالت تلح عليه وتعاود الإلحاح حتى استجاب لها وانقاد.. |
وارتعش من الخطيئة وفارقها منكراً متهيباً.. وقرعه ضميره بمقارع من حديد وتراءت له أشباح أسلافه من حماة الفضيلة فارتاع وانكمش.. وخالطت نومه أحلام مرعبة منذرة فهاله ما تورط فيه.. وذاق مرارة الإثم التي تعقب الحلاوة.. ودار رأسه من الخمار الذي يتلو النشوة وتبدت له مقايح وهوان ما خاله بادئ الأمر جمالا وسمواً واستيأس من كلمة "أوسكار وايد" القائلة بان خير وسيلة للتخلص من الرذيلة هو الانغماس فيها.. |
فانجابت عنه الغاشية الوبيلة وصحت سماؤه بعد تلبد.. ورجع إلى قواعده سالماً إلا من آثار وندوب هي ذكريات تلك المعركة الرهيبة بين الهوى والضمير.. |
لم يعد قديساً.. ولكن الخطيئة لم تعد تستهويه وتجذبه إلى خطير إتيانها إلا في فترات متباعدة تتلاشى بحكم السن ومرارة العِبَرِ ومشيئة الله الهادية إلى صراط مستقيم.. |
وترعرع أولاده.. وغدوا أفلاذاً من كبده تمشى على الأرض -كما يقول الشاعر- ودلف بخطى سراع إلى الثلاثين من عمره.. وهى سن فيها من الحكمة أكثر مما فيها من الطيش ومن التريث أكثر مما فيها من العجلة والنزق.. |
قال الشاب لصديقه "ص" ذات ليلة وقد ضمهما السامر الذي لا يتغير ولا يحول.. لقد أدخلت ولدي "ف" إلى المدرسة التحضيرية اليوم ليلحق بأخيه "م".. وكم كنت أتمنى أن تشاركني فرحتي حينما قرأ "م" لي من صحيفة كانت في يده قراءة جيدة فاستمعت إليه لأول مرة وكأنني أستمع إلى عزف "كمنجة" أو تغريد بلبل.. يا إلهي، شد ما نحب أولادنا ونحب أن ينجبوا ولو على حساب أعصابنا وشبابنا.. |
واستمع إليه "ص" متهللاً.. وزف إليه بشرى مماثلة.. فإن ابنته الكبرى – إذا صح هذا التعبير عن طفلة لم تبلغ العاشرة – لم تقصر عن ولده "م" فهي أيضاًً قد بدأت تقرأ وتمارس ضروباً أولية من الكتابة.. وستلحق بها أختها عما قريب.. |
إذن فقد أنجب الزوجان الكبيران أرواحاً صغيرة متحابة.. ستكون في مستأنف الأيام أسرة واحدة تربطها رابطة هي أقوى بكثير من روابط النسب والقربى إنها رابطة الحب الخالد الذي يستشف الغيب من وراء حجبه الصفيقة.. |
قال الشاب لصاحبه.. أتدري أننا نفكر في مستقبل أولادنا وسعادتهم بأكثر مما نفكر في أنفسنا.. لقد بدأت أغار من هذا الحب الجارف وهذا الإيثار الصموت.. |
قال له مداعباً.. أو تحبني بنفس القوة التي تحب بها أولادك؟.. قال أو تصدقني؟ وأعمق مما أحبهم.. |
واكتشفا أن كليهما يحب الآخر حباً لا نهاية له ولا حدود.. حباً قد أصبح ضرورة لازمة لحياتهم كضرورة الهواء للأحياء.. لا أزل له ولا أبد وحيد لأنه من روح الله الأبدي القديم.. |
واغرورقت عيناهما بالدمع وهما يتعانقان ويبتهلان إلى الله أن لا يبتليها، بقطيعة ولا فراق.. |
|