موقف عصيبْ |
كان انفصام صلة الشاب برئاسة تحرير الصحيفة واشتغاله بالعمل الحكومي انقطاعاً طبيعياً عن التدريس الحر بالمدرسة.. فكتب استقالة منها تتقطع حسرات.. |
لقد صرم بين جدران هذه المدرسة اسعد أيام صباه، وسعد في أكنافها حيناً من الدهر فما فراقها عليه باليسير وهو الألوف الشفيق الذي يقيم لليوم الواحد حساباً في ميزان المعاشرة.. |
إنه يودع هذه الدار العلمية وهو يودع شوطاً من عمره الزاهي كأنه كائن محسِّ مجيب.. |
ويودع زملاء أوفياء كانوا له في ساعة العسرة أكرم وأوفى ما يكون الزملاء البررة وهم -بعد- زملاء الصبا والدراسة وهي زمالة لن تنسى ولن يمحو الدهر آثارها المتعمقة في النفوس.. |
وواجه الموقف العصيب -موقف الوداع- وهو موقف كان يتفادى مواجهته طيلة حياته لأنه يهز كيانه ويرعش خوالجه ويسفح دموعه.. ولكنها الضرورة التي لا ترحم.. وودع زملاءه وتلاميذه وغادر المدرسة وهو ينتفض جزعاً.. وودعوه وهم يبادلونه الود والتأثر.. |
وغادر المدرسة وهو يضرع إلى الله أن يكون رائده ومعينه في هذا الخضم الطامي الذي سيقطع لججه وحيداً غير متأهب إلا بالعزيمة والإيمان.. |
وركب اللجة. وتقلبت به المناصب. وشاهد من الناس الزائف والصحيح.. وكان يرى الازدلاف من الصغير للكبير، والرياء من التافه للعظيم، والنفاق اللئيم بضاعة مزجاة يربح صاحبها من المادة والجاه ما لا يربحه صاحب الصراحة الكريمة.. |
ويرى الزعانف وهم يتسلمون المراكز الرفيعة، ويغرقون في التعليم العقيم.. والأحرار وهم يسامون الخسف تتدهور بهم الأحوال ويرتفعون إلى أسفل باستمرار.. |
ويرى الكفاءات وهي تتمرغ تحت أقدام الجهالات تناشدها الرحمة والإحسان فتثار للكرامة المهدورة والحق الموؤود.. وظن أنه يستطيع الإنكار والمخالفة فحيل بينه وبين أضعف الإيمان، وقيل له مكانك وإلا هلكت.. وخال أنهم يهددونه ويهزلون ولا يجدون.. فلما أحس منهم الجد الفعال تخاذل وانهار ككومة من الخرق البالية.. |
ويحه.. ماذا يصنع. لقد سدت في وجهه السبل. ترك عمله الصحفي وهو يظن أنه سيجد في عمله الحكومي متسعاً لطاقته الحيوية ونشاطه.. وأرضاً طيبة يبذر فيها آراءه وأفكاره فتنبت نباتاً حسناً فخاب فاله وارتكست آماله.. فلئن ضاق ذرعاً بعمله الجديد ليقولون الناس عنه إنه مخبول طائش.. وليضيقن به أهله وذووه، فما عليه إلا أن يعتصم بالصبر ويترقب ما تأتي به الظروف.. |
وعاش ردحاً من الزمان كالآلة المسخرة تؤدي أعمالها "أوتوماتيكياً" وتكتفي من الوظيفة بالراتب والميسور من العمل.. |
وكان يمضي جل وقته بعد الخروج من عمله الرسمي مع صفيِّه "ص" فيستشعر من الصفاء والنشوة ما لم يستشعره قط في غابر أيامه ويحس بأنه في جو فردوسي بعيد عن العالم الزاخر بالاستيجاش والمدانس. فكأنه "كروبيِّ" "يخالط كروبياً" لا إنسان يخالط إنساناً.. |
كانا قلبين متجاوبين وفكرين متقاربين فامتزجا وأصبح كلاهما يتمم الآخر فلا غنى له عنه ولا اصطبار.. |
واعترفا بلؤم الطوية المسيطر على أخلاق الكثيرين فابتعدا عن المجتمعات الصاخبة ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً.. واصطفيا قليلاً من الخلان وقليلاً من المطارح يغشيانها إذا ما ضاق الصدر وحنَّت النفس إلى رذاذ من اللهو المباح ينعشها ويُخضِّر جفيفها.. فأما ما عدا ذلك فهما في ريِّ هانئ بهذا النبع الصافي العذب الذي لا ينضب معينه من حب وإيثار.. |
وعجب الأهل واللدات لهذه الصلة المستحكمة واستعجبوا منها وما دروا أنها صلة روحية علوية لا يستطيع أهل الأرض كلهم ولو تظاهروا اصطفاءها أو قطعها.. |
لقد حاولوا التفريق بين هذين القلبين بالأساليب اللينة الماكرة ثم بالأساليب الفظة المتوعدة فلم يجنوا من كل محاولاتهم إلا مضاعفة الثقة وتقوية الروابط بينهما.. |
ولقد تحيروا في مسالة إجابتهم عليها الأيام.. وإجابة الأيام صادقة باتره لا تعرف مواربة ولا مداجاة.. |
فالعلاقات التي تقوم على زيف وخداع لا يمكن أن تدوم.. وديمومة العلاقات هي برهان صدقها وسُموها الذي لا يكذب.. |
وهكذا استحال اللدد والخصومة بين أولئك الذين لم ترقهم هذه الوشيجة الوثيقة بادئ الأمر إلى مباركة وتأييد. |
وقامت صلة خالصة لم تستطع قوة بشرية أن تنال منها أو تزعزعها طوال ثلاث وعشرين سنة.. وما زالت قائمة باذخة كالطود الشامخ تتحدى البشر وتضرب لهم الأمثال.. وقد يتشاجر هذان الصديقان وقد تقع بينهما الجفوة والنَّبوة وقد تفتر علاقتهما ولكنهما لا يسمحان للجفوة أن تطول، ولا للفتور أن يتعمق، ولا للناس أن يتدخلوا.. بل يعودان إلى بعضهما وهما أشد ما يكون الخليل لهفة إلى خليله وبراً وحنواً عليه.. |
وما يقع من تلك الشوائب العارضة إنما هو نتيجة طبيعية للاختلاف البسيط بين الطبقتين والفكرين، وما يضطرب في كليهما من خوالج.. فلن يكون على سطح هذه المعمورة من نفسين متماثلتين تمام التماثل وحسبنا من هذه الصداقة فضيلة وفخراً.. |
وطبيعة الشاب الحزينة ومزاجه الشديد الحساسية وفكره المتشائم قد يكون لها مجتمعة أو منفردة عظيم دخل في تجسيم الحوادث بل في تطورها وانتكاسها.. والشاب نفسه هو أول من لا تخفى عليه نقائض طبعه -وهو لا ريب الدارس- فهو يندفع ويتألم ويثور ويسخط وما يملك من أمره شيئاً.. إنه مسخر لطبعه.. عبد له.. يحز على أسنانه ويَجْترُّ أشجانه.. ويقرُّ في نفسه أنه غير مظلوم.. ولكنه يتظلم لأنه يتألم فلا يستطيع إلا أن يتظلم.. |
وتخور قواه أحياناً من هذا الصراع النفسي المحتوم.. وتبين معالم هذا الصراع على وجهه فيرثى له أصحابه ويطالع في وجوههم آيات فيفزع منهم ويهرع إلى داره ينشد السلوان في الوحدة والتأمل حتى يعود إلى نفسه الهدوء والسلام.. |
وصديقه "ص" كان أشد أصدقائه مواساة وأعظمهم احتمالاً وتضحية.. وما ينكر عليه هو هذه الخلال.. وإنما يكبرها ويدين لها بوفاء وإيثار.. |
هذه صفحة من قليل سنعود إليه بعد حين.. |
ومات عم الشاب بعد مرور حين طويل.. وكان هو الملاذ الذي ينشد في رحابه العطف الأبوي بعد أبيه.. وهو أقرب أقربائه إليه قربى الدم والنسب والمجاورة.. ولكلمة المجاورة هنا مناسبة قوية فإن للشاب عماً هو أصغر أعمامه سافر إلى مصر مع شقيقة له والشاب ما زال جنيناً ببطن أمه.. وما برح بها يعمل بالتجارة، وما قُدِّر لهما أن يعودا إلى الحجاز ولم يرهما ابن أخيهما إلا حينما سافر إلى مصر أولى سفراته ولنستمع إلى الشاب وهو يتحدث عن هذا اللقاء العائلي الظريف.. قال.. رأيت عمي أولاً ثم رأيت عمتي فأخجلتني نفسي خجلاً فظيعاً.. فقد لاقياني لقاء حاراً ولاقيتهما لقاء فاتراً.. ولولا جاذبية من الدم وحنينه لحسبت أنهما غريبان لا ينتميان إلي بهذه الصلة التي تناكب الأبوة.. |
وحاولت أن أعلل هذا الفتور فلم اهتد إلى تعليل مقبول.. واضطررت أخيراً أن أرجع إلى الغيبة والتنائي فإن للقرب والمعاشرة دخلاً كبيراً في توحيد الميول وتقوية الأواصر ونُموِّ الألفة.. |
وتذكرت بهذه المناسبة تلك القصة التي روتها الصحف عن طفلة أنجبها أبوان هولنديان بإندونيسيا ثم تركاها -لظروف قاهرة- في رعاية مربية اندونيسية مسلمة وغادرا أندونيسيا إلى موطنهما الأصلي.. وشبت الطفلة وهي لا تعرف إلا مربيتها الإندونيسية التي كانت تحسبها أمها.. وعاد الأبوان إلى إندونيسيا وطالبا بابنتهما فرفضت الفتاة -لا المربية- أن ترجع إلى أبويها، وتشبثت بإصرار بمربيتها الإندونيسية رغم اكتشافها أبويها الحقيقيين.. |
إن الدم يقوي الألفة ولكنه يتضاءل أمامها إذا تواجد ونافسته.. |
مات -إذن- عم الشاب وخلف له أرملة وبنين وبنات ليس لهم عائل سواه.. قبل الشاب هذا العبء الجديد بنفس راضية وأغدق على العائلة الثاكلة من برِّه وحدبه ما أطاق.. وكان راتبه -على ضخامته- لا يكاد يفي بمطالب عائلته وحدها إلى أن اشتدت به ضراوة الغلاء بشكل غير مألوف.. فاضطر إلى تشغيل جزء من النقد المورث في عمل تجاري بواسطة بعض أصدقاء أبيه.. ودر عليه ذلك ربحاً طيباً استعان به على التوسعة والترفيه.. ومنذ ذلك اليوم وهو لأبناء عمومته بمثابة الكالئ العطوف وهم لا يعدلون بها كالئاً.. |
|