في بلاط الصحَافة |
ساهم فتانا في النهضة الأدبية التي جاءت نتيجة للتفاعل السياسي الطارئ على البلد بما أطلق، ولعله كان من أبرز حملة مشاعلها.. |
لقد أغمض عينيه ليفتحها على الشهرة الهابطة فتزايد حماسه ونذر نفسه وقلمه وفكره للوعي الجديد.. ولفتت مقالاته المدوية وبحوثه الجريئة أنظار مدير مدرسته وزملائه الأساتذة الشيوخ والشبان.. وكان المدير الأول قد مات وهو الذي كان يظلله بحمايته عدا ما كان يتميز به من رجاحة العقل وبُعد النظر واتساع الأفق.. وخلفه مدير يمتاز بالطيبة والجمود على القديم والتوجس من كل جديد.. فلم يَرُقْه موقف الفتى وخاف على مدرسته من عواقبه.. وضاعف من خوفه موقف الأساتذة ولا سيما الشيوخ مما كان ينشر بقلم زميل اليوم وتلميذ الأمس القريب.. فاجتمع رأيهم على أن ينصحوا له بترك الكتابة في الصحف لأن هذا – في زعمهم يتنافى مع سمت العلم والعلماء.. |
وثار الفتى على هذا الحجر الظالم ولم ينتصح لأن الأدب كان قد جرى منه مجرى الدم فما إلى هجره من سبيل، ولأنه كان ينكر مصادرة الرأي وتقييد الحريات ولا يرضخ للجنف والاستبداد.. |
وأراد الله به خيراً فقطع دابر الشقاق وفتح له أبواباً جديدة من العمل كان لها أثر كبير في تغيير مجرى حياته.. فقد ارتأت الحكومة لأسباب سياسية اعتقدت يومئذ وجاهتها – نفى عدد من الشباب الحجازي.. إلى الرياض –بالمصمك- وكان من بينهم رئيس تحرير "صوت الحجاز". |
وتدبَّر القائمون على إدارة الصحيفة أمرهم باستعجال خشية أن تقف عن الصدور وهو ما يضرهم مادياً وأدبياً ولا يرضي الحكومة في ذات الوقت، لا سيما ولم يمض على صدور الصحيفة إلا زمن يسير.. |
وكان الشباب المثقف الذي يمكن أن توكل إليه مسئولية كهذه نزراً بعد أن استفرد المنفى بصفوة مختارة منهم.. والذي يستطيع الاضطلاع بها -عدا أولئك- منوط به عمل ضخم يدرُّ عليه أضعاف اجر الصحيفة، فليس من العدل أن يتركه إليها.. |
وكان هناك شاب لا عيب فيه إلا حداثة سنه وعدم تمرسه بتجارب تكفي للاضطلاع بحمل مسئولية رئاسة تحرير الصحيفة.. ولقد تكون هذه الحداثة هي التي صرفت عنه الأنظار فنجا من النفي والتشريد.. وإذن فهو في مأمن أكثر من سواه.. وهو من أقوى الباقين يراعاً.. فليكن رئيس التحرير.. |
وهكذا كان. وأصبح الشاب – فقد تعدى الآن طور الفتوة ولو في نظره على الأقل رئيساً لتحرير الصحيفة الشعبية الوحيدة حينذاك.. ودخلت حياته في طور جديد.. ورأت إدارة المدرسة مجاملته فعرضت عليه القيام بتدريس حصتين في كل يوم فقبل واشترط أن لا يتقاضى أجراً عليها فإنماً هي مدرسته التي أهلته لخوض غمار الحياة وزودته بما هو مدين لها به من معرفة وتثقيف.. |
وسارت الأمور على هذا المنوال.. وانهمك الشاب في عمله الطارئ واستغرقه وأفضى به إلى مواطن ما كان ليغشاها لولا حكم ذلك العمل ومطالبه.. إنه بطبيعته يميل إلى العُزلة ويؤثر الانزواء فإن اضطر إلى مخالفة طبعه فعلى استكراه وتأفف.. |
ورؤساء تحرير الصحف مضطرون إلى مخالطة كافة الطبقات ومجاملتهم. وإلى غشيان الجهات الرسمية لاستطلاع الأخبار واستكناه الحوادث تزويداً للصحيفة بأنماط مختلفة من الدراسات والآراء والأنباء.. فلا معدى له من أن يخالط ليدرس ويستخبر ويجهز من كل ذلك مادة للصحيفة التي لا يشبع نهمها ولا نهم قرائها.. |
وكاد يستقيم به الحال لولا الإرهاق الذي أضناه وأكل من صحته فقد كانت الصحيفة تقوم على أكتافه وحده تحريراً وإدارة وتصحيحاً فذوى جسمه، واستدارت دوائر سود حول عينيه ولكنه واصل العمل وثبت في الميدان وحاول مع صاحب الصحيفة أن يساعده ولو بصحفي واحد بأجر ضئيل فقيل له إن "الموازنة" لا تساعد. فصبر حتى يهيئ الله له مخرجاً. وقد هيأه له الله. |
كان قد مضت عليه ستة شهور في كفاح صحفي ناجح.. وقد أثمر هذا الكفاح – ثمراته الطيبة فوطد مركزه الاجتماعي ووسع من شهرته وخلق له أصدقاء من طراز يعتمد عليه في الحياة.. |
فلما حاول محاولته الأخيرة مع إدارة الصحيفة لتوسيع نطاق إدارة التحرير قليلاًً وفشلت المحاولة لوَّح باستقالته.. وكانت منه خطوة دُهش لها عارفوه لأنها تتنافى مع طبعه الوديع المسالم الذي يؤثر الرضى ويتفادى الملاحاة.. |
وبذلت مساع وتحققت أنصاف حلول فلم يسعه إلا القبول على مضض.. ولمس أصدقاؤه فيه السآمة والملل فعرضوا عليه عروضاً سخيّة كانوا واثقين من تحقيقها متى شاءوا وانصاع لهم.. وكان السأم قد بلغ مداه من نفسه فهو يرى أنه لم يحقق أهدافه التي كان يطمح إليها حينما قبل رئاسة التحرير فإن العقبات التي جابهته كانت أعظم من جهوده في التذليل.. وهو قد كان قليل الحظ من الخبرة والتجاريب فمني بخيبة أمل مريرة في الناس وفي الأوضاع.. |
كان يتوهم أنه بطل سيكتسح بقلمه التقاليد البالية والخرافات الموروثة والأساطير المضللة والأوضاع المقلوبة.. فاستبان له أخيراً أنه كان يرفل في خيال. وأن الواقع الذي صدمه أقوى بكثير من عوامل الإصلاح وجهود المصلحين.. فهو راسخ الجذور وفيه الأشياع واسعو النفوذ، يكتسح من يحاول اكتساحه قبل أن يكتسح.. والإنسان إذا لم يستطع تحقيق أهدافه وتعزيز مثله في الحياة فما جدواه من العمل منه؟ - خير له أن يستريح من الجهد الضائع ويصرفه مصرفاً جديداً لعله ينجح بعد إخفاق.. |
وكأنه كان يتحدث إلى نفسه فقال.. والأزمة السياسية التي كانت مستحكمة قد انفرجت وعاد الشباب المعتقل إلى مأمنه بعد أن تبين للحاكمين أنه بريء مما الصق به من تهم كاذبة.. وبعد أن هزم الخارجون على الدولة هزيمة ماحقة.. ولإدارة الصحيفة أن تختار منهم من شاءت فكلهم يسد فراغه ويغنى غناه.. |
لقد عمل وهو يعتقد أنه مجند في ميدان يفتقر إليه فلا معدى له عن المصابرة والجلد والاستمرار.. أما وقد عاد إلى الميدان رجاله الأكفاء فان انسحابه لا يجر إلى ضرر ولا يفتح عليه ثغرة.. وعلى سواه من الشباب أن يضطلع بنصيبه من المسئولية ويؤدي حق الوطن. |
وهكذا اختمرت الفكرة في رأسه بعد اقتناع وانتهت به إلى قرار حاسم فقدم استقالته من التحرير وأصر عليها وأقنع الإدارة بضرورتها بالنسبة إلى صحته المتهدمة ونفسيته المتأزمة.. |
ودلل لها على حسن نيته بترشيح بعض أصدقائه الذين يعتقدون أهليتهم.. لرئاسة التحرير والحلول محله.. وتعهد بأن يواصل الكتابة بالصحيفة كأديب ويؤازرها كوطني.. |
|