شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في مُعتركِ الحيَاة
بعد أيام من هذه الحوادث المثيرة.. كانت العطلة المدرسية قد انتهت.. وكان فتانا قد تخرج من المدرسة فليس له مكان بين طلابها وليس له مكان بين أساتذتها.. إنه في البرزخ الذي سيميل به يمنة أو يسرة حسبما تمليه الأقدار التي تُحدِّد الخطى وترسم المصائر.. ليس يدري أي متَّجه سيتجه.. هل ستستدعيه المدرسة ليكون أستاذاً بها على صغر سنه وقلة زاده وتجاريبه..
هل سيبحث عن وظيفة يعمل بها موظفاً بسيطاً ثم يصعد درجات السلم واحدة واحدة حتى يوفى على القمة أو يقف في منتصف الطريق؟
هل سيفضل الاشتغال بالتجارة فيما خلفه له أبوه وتنازل عنه لشقيقاته ليكون له بعد قريب أو بعيد رأس مال محترم يسعد به هو وشقيقاته؟
هل سيحالفه الجَدُّ أم يطارده النحس؟
أسئلة واقتراحات شتى كانت تتوارد على ذهنه وتلهب خياله فما يجد لها جواباً أو يجد مخرجاً.
ورفع راية التسليم للأقدار تقوده كيف شاءت إما إلى نجاح أو إلى خيبة.. ليس له من أمره ما شاء فلتكن مشيئة الأقدار..
جاءه البشير على لسان هاتف جذل يهتف باسمه ذات ضحى وكان يتأهب للخروج.. كان مراسلاً عجوزاً بالمدرسة يعرفه طلابها كلهم فقد كان قديم الخدمة للمدرسة عاصرها منذ تأسيسها فأصبحت له دالة على مديرها ومدرسيها وطلابها.. وكان هو طيب النفس دمث الأخلاق حلو اللسان يقطر وجهه بشراً وبشاشة دائمين ففرض حبه واحترامه على الجميع..
وكانت الأحداث التي مرت بالفتى، ونفسيته المتميزة بطابعها الخاص لا تخفى على أحد ممن يعرفونه. فكان للفتى، في نفس المراسل الشيخ، منزلة رفيعة يُغشِّى حوّاشيها الحب والإشفاق.. فلما استجاب لندائه وخرج إليه تلقاه الشيخ ببشاشة وزف إليه البشرى..
قال إن المدير يدعوك إليه لأمر لك فيه خير واغتباط فقد استقر الرأي على اختيار بعض المتخرجين ليكونوا أساتذة بالمدرسة وأنت احد المختارين.. فأدعو لك بالتوفيق حتى تبز أقرانك فإنني لأنشد لك من الصلاح والرشد ما انشده لابني.. فترقرقت عين الفتى بالدمع لهذا الإخلاص البريء الساذج.. إنه الإخلاص الذي ينبع من أغوار النفس فلن يجد الريب إليه سبيلاً.. أن النفس الطيبة كنز لا يقوَّم بكنوز الأرض كلها.. وقد تأثر الفتى بطيبة الشيخ وإخلاصه فمشى معه كما يمشى الولد مع أبيه.. لقد تلاشت بينهما الفروق فليسا إلا خدينين حميمين تربطهما روابط متينة من الحب والثقة والولاء.. ومتى صفت النفوس واطمأنت فإنها تسبح في هذا الجو النقي العالي جنباً إلى جنب.. يعطف السابق على المتخلف ولا ينفس المتخلف على السابق ولن يستريحا حتى يتساويا.
وأعدَّ الفتى نفسه في الطريق لمقابلة المدير وانتقى في سريرته الألفاظ والجمل التي سيتحدث بها إليه.. فقد كان المدير مربياً فحْلاً له هيبة وتوقر، فيه حزم وصرامة إلى جانب استقامة وصلاح..
وكان يحبو الفتى بعطف خاص تكريما لعائلته التي تنتمي إلى العلم، وتقديراً لصداقة كانت تربطه بأبيه وبعميد العائلة الأكبر قبل أبيه.. فلما شبَّ الفتى تضاعف العطف – واستحال إلى حنو كريم يوجب الحماية والتوجه والانتساب.
وأقبل الفتى فلاقى من أستاذه ومديره استقبالاً حفياً واستمع إلى نصائح غالية.. وعرف طبيعة العمل الذي سيوكل إليه ومبلغ الراتب الذي سيتقاضاه فما وسعه إلا القبول الشاكر.. وتهيأ من غده لعمله وباشره بصدق وأمانة..
قال الفتى وقد اغرورقت عيناه بالدموع – والتقيت أول يوم لي بالعمل – وكنت حيياً من نمط لم ألفه بعد من أنماط الحياة المستجدة – بشيخ من أشياخي القدامى اشتهر بالنكتة اللاذعة والصراحة المعتادة منه.. فعرك أذني عركاً خفيفاً وقال لي بأسلوبه المتهكم.. لقد أوصلك أبوك إلى "المحطِّ" ثم انتهى..
وكان الجرح ما زال طرياً بدمائه.. قارب الاندمال ولم يندمل فانتكأ وأحسست بحرارة الدم وهو ينزف ويتدفق فلم املك دمعي وبهت الشيخ فما كان بالذي يقصد إلى هذا الإيلام، وما هو بالذي يظن بالفتى هذا الإحساس المتفزز المستجيب للأحزان استجابة الوتر المشدود لأدنى اللمسات.. فواساه مواساة الحكيم الواعظ ونصحه نصحاً خالصاً وإن كان قاسياً لما له عليه من دالة..
قال.. لم يخلق الرجال للبكاء فلا تبك بهذا المنظر المسترخي الكبير.. دع البكاء واحمد الله على أن أباك لم يمت إلا وأنت رجل تستطيع مواجهة الحياة والتغلب على مصاعبها.. واحمد الله على أن قيض لك قلوباً حانية أنقذت شبابك من مناكر التبطل والفراغ فأنت اليوم في مركز يغبطك عليه أقرانك من الشباب فاحشد له كل جهدك ووقتك ففي هذا وفاء لذكرى أبيك العاطرة وهناءة له في جدثه.. وإياك أن تستعبد للحزن فما هو بمجديك فتيلاً أن لم يرجع بك القهقري إلى مؤخرة الصفوف..
واستمع الفتى لنصح شيخه وعاهد الله على أن يدفع أحزانه في غور سحيق من نفسه حتى لا تطفئ عليه حياته فتفسدها وترميه بالفشل.. هل يستطيع؟
وانصرف في نهاية يومه إلى الدار فاستقبله شقيقاته استقبال الفاتحين أو ليس هو رجلهم اليوم وعائلهم وحاميهم من غوائل الدهر وتقلبات الأيام وإن كان أصغرهم سناً وأقلهم تجارب..
وبدا هو في مظهر الرجل المتوقر فقد أعجبه وأرضى غروره أن يقوم بهذا الدور المرموق.. وأحست الدار لأول وهلة أنها استبدلت رجلاً برجل وأن الأمور فيها ستجري على منوال رتيب..
ومضت الأيام رتيبة متشابهة لا جديد فيها إلا ما يعرض من حوادث تافهة ليست بذات بال كما تمضى أيام الناس المعتادة التي لا تحفل بأحداث سارة ولا مسيئة..
وتعوَّد الفتى على أن يذرع طريقه بين الدار والمدرسة فيمضي سحابة النهار في المطالعة والتدريس، ويتغدى مع زملائه، فإذا انصرف الطلاب بعد العصر جلس قليلاً إلى أولئك الزملاء يتحدث إليهم ويتحدثون إليه حديثاً فيه من المفاكهة وفيه من النقاش والجد الصارم وفيه عدا ذلك ما في أحاديث الناس من غث وسمين.. ثم انصرفوا جميعاً قبيل المغرب فمضى الفتى إلى داره ما يحيد عنها.. فإذا تناول العشاء مع أهله نزل إلى فناء الدار ليجلس إلى ثلة من الرفاق لا يتجاوز عددها الثلاثة كان يألفهم قبل موت أبيه ورحل أبوه وهو راض عنهم.. ولم يمتد بهم السمر قط إلى أكثر من الهزيع الأول ومن ثم يصعد الفتى إلى الدار فيجد شقيقاته ساهرات يرقبن عودته ليطمئنهن فقد كانت ألفة أفراد هذه العائلة الصغيرة غريبة كألفة الطير يحيا بحياة أليفه ويموت بموته..
فإذا هجعت الدار ودار الكرى على أهلها بدا الفتى يساهر لوناً جديداً من ألوان حياة الليل، فانكب على دراساته الأدبية يطالع حيناً ويكتب أحياناً حتى يغلبه الكرى على أمره فيسلم جفنه إليه..
في هذه الفترة الجائشة بأحلام الشباب وأمانيه نظم الفتى شعراً كثيراً وكتب عدداً من القصص القصيرة وبحوثاً أدبية جمة كان يغلب عليها طابع التشاؤم والحيرة والشك وهو طابع عجيب في مثل هذه السن التي يغلب عليها التفاؤل واليقين والمغامرة..
وكانت البلدة قد انتقلت من عهد سياسي إلى عهد جديد.. وتمخض الانتقال عن حركة أدبية واجتماعية تبشر بخير فظهرت في عالم التأليف بعض مؤلفات أدبية للشباب الحجازي الطموح وجمع بعضهم شعراً جيداً لينشر في دواوين خاصة أو مجموعات يشترك فيها نفر من الشعراء البارزين.. وفكَّر البعض الآخر في إصدار صحيفة أسبوعية -مبدئياً- تعبر عن أماني الشعب وتترجم اتجاهاته ورغباته وأهدافه، وتخصص صحيفة منها للعلم والأدب والتاريخ والاجتماع ليعرف الناس في مشارق الأرض ومغاربها شيئاً عن النهضة الحديثة لهذه البلاد التي كانت مصدر النور والعرفان ومباءة الأدب والفن الرفيع ومهد البطولة والأمجاد.. وتعاونت المادة المتيحة والرغبة المتحمسة والعزيمة المصممة على إنجاح الفكرة فتجمعت وصدرت صحيفة (صوت الحجاز) وكان ميلادها إيذاناً بتطور عميق شامل للبلد الذي كان منعزلاً خاملاً يتعثر في حاضر مظلم لا يكاد ينتمي إلى ماضيه اللامع الجميل..
إن الماضي هو الأسوة، والمستقبل هو الهدف فإذا لم يأنس الحاضر بماضيه ويسعى لهدفه ركد وضاع وخاب أمله في المستقبل.
والتخلف عن موكب الحضارة الإنسانية سُبةٌ لا يرضى بها جيل يحترم نفسه.. بعد أن تخلفنا كثيراً عن الموكب السائر.. كنا نغط في النوم والأمم من حولنا أيقاظ تجدُّ في المسير. فلما صحونا هالنا بُعد الشقة بيننا وبينهم حتى غدونا نلهث لعلنا ندرك المجلِّين أو حتى نقاربهم على الأقل.
وبرزت أقلام كانت متحجبة، وعقول ومواهب كانت مستترة، واستمع الناس إلى صوت مهبط الوحي يجهر حيناً ويخافت أحياناً.. إنه صوت طال احتباسه فلا مناص من أن يتدرج من الهمس إلى الجلجلة.. كالعين التي بعد عهدها بالنور لا بد لها أن لا تواجه الشمس كرة واحدة وإلا عميت من الوهج..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :473  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 18
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج