شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفَجيعَة في الأبْ
لم تكن نبوءة المربية الكبرى بالنبوءة الصادقة.. ولم تكن فراستها بالفراسة التي تستشف أعماق النفوس وتتسرب إلى طواياها وتلافيفها فإن نفس الغلام اليافع كانت أعجوبة بين النفوس.. بل كانت مسرحاً تتوالى عليه العواطف والأحاسيس وتتلاحق وتمور بشكل مثير.. فلما ماتت كبرى مربياته أو أنّه كما كان يدعوها. أذهله وأثر في مجرى حياته تأثيراً عميقاً.. فكان يقضي جل أوقاته ساهماً واجماً لا يطيق الجلوس إلى أحد ولا التحدث إليه.. حتى دروسه كان ينصرف عنها لولا حافز قوي كان يحفزه إلى الاجتهاد حتى لا يكون في مؤخرة الصفوف ويبقى سخرية لزملائه – بعد أن كان رائدهم الأول وقدوتهم النّادرة فيما يأخذون وما يدعون..
كان يحتمل كل رزيئة إلا أن يكون خاملاً منبوذاً..
وكان لا يطيق الحسد والانتقام وكل صنوف الإيذاء والبلوى والسخرية والإشفاق فما كان ليطيقها قط.. وما اغتفرها لأحد حاول أن يفوه بها جاداً أو هازلاً على فرط طيبته ووداعته.. لذلك أرغم نفسه إرغاماً على المذاكرة والدَّرس وقسم وقته بين دروسه وأحزانه وزيارة ابنتي مربيته الهالكة -أو أختيه كما كان يدعوهما- ويبرهما بما يستطيع مورده الضئيل..
ومرضت إحدى أختيه وقيل أن مرضها خطير معد. وحاول أهله أن يصرفوه عن زيارتها خيفة عليه أن يصاب فما ارعوى وواصل الزيارة والبر والتوجع..
وماتت المريضة بعد كفاح طويل في سبيل الحياة لم يقدر له الفوز.. وتبعتها أختها الصغرى بعد شهور قلائل فهد الحزن كيانه الصغير ونهشته الوساوس والوهل وتخيل أن القدر ناصبه العداء واتخذه هدفاً لرمياته المسددة..
وأوحى إليه فكره الحدث وخياله المشتط وإحساسه المتقزز أنه منكود محارب ممن لا قبل له بحربه فتشاءم وانعقدت بنفسه عقد كلفته في مستأنف أيامه ثمناً باهظاً من النكد والمرارة والخيبة.
وانقلبت حياته رأساً على عقب.. وحالف القطوب والجهامة وجهه فما يبدو إلا متجهماً كئيباً كأنما تظلله سحابة دكناء..
واستحالت قواه كلها إلى إكباب على الدراسة والتحصيل. وإلى شغف غريب بالأدب والفلسفة والتاريخ فما ترك كتاباً حديثاً ولا قديماً إلا اقتناه والتهمه قراءة من الدَّفة إلى الدَّفة ثم هجره إلى سواه بحسب ما تستطيع له مواده وأوقاته.. فقرأ -وهو لمَّا يعْدُ الخامس عشر ربيعاً من عمره- معظم ما أنتجه أدباء مصر وسوريا ولبنان والعراق والمهجر وحشداً ضخماً من التراجم لكبار أدباء الغرب وفلاسفته ومؤرخيه..
وأعجب بالأدب العربي القديم فدرس مراجعه وأمهاته نثراً ونظماً بنهم عجيب.
ولفت نظر مدرسيه في الأدب العربي فأعجبوا به ومنحوه الجوائز الأدبية تقديرا لمواهبه المتفتحة فلما أخذ الشهادة النهائية التي كانت تعتبر في ذلك العهد أرقى الشهادات العلمية في الحجاز – حدث له الحدث الأكبر الذي ضعضع كيانه وضاعف من تسخطه على الحياة وبرمه بها ونقمته على الناس ونفوره منهم..
كانت المصائب تتوالى تترى عليه وتتحالف فمات عدد عديد من أهله أمامه. وكان كل راحل منهم يخلف في نفسه مضاضة وحسرة وذعرا.
أما مصيبة المصائب فكانت موت أبيه – الذي كان ملاذه في الحياة موتاً يكاد يكون مفاجئاً. ففي مساء يوم استدعاه أبوه إليه ودعا له بخير وأعطاه تعويذه قرآنية كان أسلافه يتوارثونها جيلاً بعد جيل تبركاً بها واستجلاباً للسعادة والأمان.. ثم أوصاه بأخوته خيراً وقال إنه يشعر بتوعك بسيط وارتفاع في الحرارة ولذلك فسينام مبكراً ليرتاح وتهبط حرارته.
وفي الصباح قام الأب كعادته قيام الطير وصلى الصبح والسماء ما تزال مزدانة بمصابيحها، وأضواء الفجر تصارع أسداف الليل.. والعصافير تغرد بترانيمها الرخيمة كأنها أغنيات حلوة مطربة.. ثم أيقظ أهل الدار فصلوا.. وأمر بطعام الإفطار فجهز. فلما أكلوا طلب إلى ابنه أن يذهب إلى المدرسة لمناسبة سنوية فيها الحضور الباكر.. وذهب الفتى وشارك في المناسبة السعيدة.. فلما انتهت وكان الوقت ضحى وقف في الروشن يطل على الشارع العام ويتلهى بمناظر المارة وهو يحس بانقباض – لا يعرف مأتاه وإذا بجار لهم يغذ في المشي وهو مضطرب، فلما وقعت عينه عليه هتف به أن ينزل – وأخذ بيده وسار معجلاً فسأله وهو مشدوه عن السبب وقد تحركت النذر الرهيبة في صدره –فطمأنه– وقال له أن والدك يشكو ألماً بسيطاً وقد ندبني لاستدعائك إليه فلا ترع..
ووصلوا إلى الدار وقابلهم في درجاته رهط من الأطباء بوجوه مغبرة كامدة وهم يهبطون كأنما يفرون من الدار فراراً..
وطارت نفس الفتى شعاعاً وكأنما سبق إلهامٌ إليه بالكارثة فأنَّ أنيناً مذبوحاً وصعد إلى غرفة أبيه بأرجل متثاقلة وكأنه شبح يتحرك..
وكان أبوه قد فارق هذا العالم إلى عالم أنقى وأطهر وأكرم منذ دقائق معدودات وكان جثمانه ما يزال حاراً كأن الروح لم تفارقه بعد.. ولم يسأل الفتى ولم يبك بل وقف أمام الجنازة كما يقف العابد المتبتل في محراب مقدس.. وقف في خشوع مهيب وفجيعة قتَّالة وكأنه التمثال لا يريم – من مكانه.. وكف إخوته وأهلوه عن الولولة والبكاء فقد راعهم هذا الفتى الذي حطمته النكبة وخافوا عليه أن يهلك فتكون مصيبتهم مصيبتين..
إن الرزء الفادح إذا نزل فلا نجاة منه إلا بالدموع.. إنها رحمة عظمى على المنكوبين تخفف كروبهم وتلطف آلامهم وترخي من توتر أعصابهم..
وتحلق الثاكلون حول الثاكل يواسونه وهو لا يعي ما يقولون.. وصرخت شقيقة له وقد هالها سكونه المخيف ووجهه الكالح ومآقيه المتحجرة ونظراته المتبلدة..
وانصرف الناس عن الميت إلى الحي يلغطون ويرثون بهمهمات باكية.. وأدركت الفتى رحمة من الله فراح في غيبوبة واهنة مستسلمة..
وجاء الطبيب ولم يبرد جثمان الميت -.. وكان طبيباً حاذقاً له بعلم النفس إلمام..
قال -بعد الفحص والمناشدة- إن الفتى لا يحتاج إلى عقاقيري وإنما يحتاج إلى عقاقير من صيدليته هو.. إنه يحتاج إلى البكاء الناشج المستخرط.. إن أعصابه كأوتار مشدودة – لا بد لها أن تسترخي وإلا حل بجسمه وعقله بلاء جسيم.. أعينوه على البكاء فإن بكى كانت الدموع له عاصماً مما يستهدف له من خطر إذا هو لم يبك ليس له عندي دواء إلا هذا فأسعفوه وأنبئوني خبره بعد حين..
ومضى الطبيب لطيَّته.. وابتهل في خضوع إلى الله أن ينقذ الفتى واستجابت رحمة الله كرَّة أخرى فانجابت عن الفتى غيبوبته ولانت محاجره ودرت شجونه..
كان يبكي بكاء صامتاً ينفذ إلى أعمق أعماق القلوب فيهزها هزاً عنيفاً.. وتحامل على جسمه الناحل المتداعي فقام وكأنما خرج من قبر.. أصفر صفرة ورق الخريف.. متأرجحاً مبهورا.
كان الغاسل قد انتهى من غسل أبيه وتكفينه وتجهيزه للدفن فدلف إليه وانكب عليه يلثمه ويغسل أطرافه بالدموع.
لك الله أيتها الدموع من غسول طهور..
قال الفتى لصديق له بعد سنوات من الفاجعة – لقد سرت وراء نعش أبي وأنا لا أحس بمن حولي وما كنت أدري متى وصلت..
ونزل بعض أقارب أبي وأصدقائه إلى القبر، وقيل إنهم خافوا عليَّ من المضاعفات فلم ينزلوني معهم لألقي عليه النظرة الأخيرة..
وواروه التراب وانصرفوا عنه إلى العراء ووقفت معهم حتى انتهت مراسمه وعدنا إلى الدار القاتمة المنتحية التي فقدت ربها وأصبحت لا تضم إلا فتى لم يتعد السادسة عشرة وشقيقات له يكبرنه كثيراً في العمر فهن له بمثابة الأمهات. ثم بعضاً من الخدم..
وصرمت الدار ثلاثة أيام نحسات كان المعزون خلالها يفدون إليها زرافات ووحداناً يؤدون طقوساً من العزاء الممثل في كلمات عطوفة مواسية ما تفعل في النفوس الكليلة أكثر من عرفان الجميل.
ومرت بعدها أيام خفَّت فيها اللوعة قليلاً من كل القلوب إلا قلب الفتى الولوع.
وكانت الدار ساكنة سكوناً حزيناً فيما عدا فترات كان يعلو فيها النحيب ثم يختنق.. وكان بعض – المعزين الذين جاء دور عزائهم متأخراً ينكأون الجرح الذي يحاول الاندمال فتنزف منه الدماء وصمَّمت العائلة اليتيمة على إنهاء هذا الدور البغيض فأخذوا يعيدون إلى الدار مظاهرها – القديمة بالتدريج.. واجتمعوا لينظروا أمر توزيع التركة.. وحضر الاجتماع بعض من لا غنى للناس عن حضورهم مثله.. وأصاخ الفتى إلى حديث المائدة الجاف وكبده تنفطر ونفسه المتيمة بالمثل العليا الزاخرة بمعاني الروح تتعزز..
قال أحد أعمامه -وكان يرأس المجلس العائلي- إن شريعة الله لا تعارض. بعد أن يعرف كل ذي حق حقه فلا بأس من المشاركة والامتزاج ريثما ينضج ابن أخي ويجد له عملاً يدرُّ له الرزق ويدرأ عنه عوامل البطالة.. إنني كأبيكم ولن أضن بجهد ولا مال في سبيل رعايتكم وإسعادكم فاتفقوا –أولاً– على رأي جميع لننهي هذه المسالة ثم نتفرغ لسواها مما يمهد لكم طريق العيش الطيب.
والتفت إلى ابن أخيه وكان ساكناً لم ينطق بحرف.. سابحاً في ملكوت غير ملكوتهم.. قال له تكلم يا بني فإنك عميد عائلتك اليوم.. لقد مات أبوك وتركك فتى متعلماً تملأ السمع والبصر.. ونحن حولك نؤازرك ونسندك حتى تملأ فراغ أبيك إن شاء الله.. وهؤلاء أخوتك قد ربُّوك فأحسنوا التربية.. كانوا لك أمهات وأنت أبوهم منذ اليوم.. ونأمل من الله أن لا يقع بينكم خلاف ولا شقاق ما حييتم..
وتكلم الفتى وكأنما ينتزع الكلمات انتزاعاً.. كان صوته يأتي من بعيد.. من وراء حجب الجسم الكثيفة والحواس.
قال يا عماه إنني مشغول بخطبي عما سواه.. ولم يُبق لي موت أبي مطمعاً في مال ونشب.. وهؤلاء أخوتي وذخراً في الحياة بعد الله وأبي الراحل.. أعتقد أنهن يعانين من وقع الرزء ما أعاني وهن إناث وأنا الرجل.. ومن الواجب أن يضحي للأنثى لأنه مسلح مما هي منه عزلاء.. فهي أعجز عن مكافحة الحياة وأضعف من الاضطلاع بالأعباء والاصطبار للشدائد.. وسأضحي. وإن كانت في نظري واجبة تُمكنِّها القربى والرجولة فلا فضل فيها ولا من.. سأتنازل بحصتي في ميراث أبي لإخوتي.. وسأعمل المستحيل لأجد العمل الذي يعولني – ويعولهن – خارجاً عن الميراث فهن قطعة منى وأنا قطعة منهن.. وقد أوصاني أبي بهن خيراً ووصية أبي لن تذهب مع الريح.. إنها ميثاق مقدس أعاهد الله إني لن أحيد عنه قيد أظفور.. وهن بعد ذوات فضل إذا قبلن رعايتي والقيام بشئوني في وقت أنا في مسيس الحاجة فيه إلى الرعاية والعطف.
فطفر الدمع من عيني عمه وسال على لحيته البيضاء الوقور، وهرع إلى ابن أخيه يضمه إليه وهو يربت على ظهره ويبكي.. وبكت الشقيقات فرحاً بهذا الأخ الأب، وعانقنه وهن يعاهدن الله ويشهدن الحاضرين على رعايته والانطواء تحت جناحه حتى يغدو رجلاً مرموقاً..
وتأثر الحاضرون بهذا الموقف النبيل وأكبروه من الفتى فهنأوه به وغبطوه عليه. وانصرفوا وهم يتمنون لهذه العائلة المتحابة المتماسكة الوفاق الدائم والهناء المقيم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :597  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 18
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج