كلمة الناشر |
من بحور الشعر.. إلى آفاق النثـر.. |
تَعَوَّد كثير من الناس الوقوف عند محطات العمر الأساسية، والتأمل في مغزاها، والتلفت عبر نافذتها لمعرفة مقدار الشوط الذي قطعوه، والأهداف التي حققوها، أما الشعراء، وهم أكثر الناس إحساساً بأهمية هذه المحطات، فإن وقفاتهم غالباً ما تكون ذات طابع شعري، أي أنهم يتناولون رؤاهم بعين الشاعر والشعر، والأمثلة على ذلك كثيرة منها قصيدة [الأربعون] للمرحوم الأستاذ عبد السلام هاشم حافظ التي قال في مطلعها: |
الأربعون معاناة ومعتصم |
حديثها الأمس بالتذكار ينسجم |
|
ثم سرد لنا من خلالها سيرة حياته في تلك السنوات الأولى من عمره، ومثال آخر قصيدة [خمسون] لمعالي الشاعر الدكتور غازي القصيبي والتي استهلها قائلاً: |
خمسون تدفعك الرؤيا فتندفع |
رفقا بقلبك كاد القلب ينخلع |
|
... وهو يسير على ذات النمط ملتفتاً إلى ما مضى من عمره المديد بإذن الله. |
والمثال الأخير يفرض نفسه من خلال رائعة [السبعون] التي ربما كانت آخر إبداعات المرحوم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي الشعرية، والتي تأوه في مطلعها قائلاً: |
سبعون يا صحبي وجل مصاب |
ولدى الشدائد تعرف الأصحاب |
|
هكذا أمضت هذه القصائد الثلاث سجلاً يحكى.. وسيرة تروي كل واحدة منها قصة حياة صاحبها من وجهة نظره.. وكان من المتوقع عندما تقع في أيدينا سيرة ذاتية كتبها شاعر عظيم كمعالي الأستاذ الكبير السيد محمد حسن فقي أن تكون شعراً أيضاً ، سيما وأنه وقف عند الأربعين ملتفتاً إلى الوراء ليحكي لنا ما اشتملت عليه تلك السنوات من أفراح وأتراح.. لكن ورغم أن معاليه درة في الشعر، وذروة في النثر.. إلا أن إيثاره اللون القصصي في كتابة هذه السيرة.. كان فيه الدلالة على حبه للحرية في التحليق من دوح إلى دوح.. والانتقال من بحر إلى بحر. من بحور الشعر الذي تربع في وجدانه وعَبَّر به عن أدق خلجات نفسه، إلى آفاق النثر، ليرسم بذات الإبداع والكلمات لوحات من الحياة بدون قيود التفعيلة وأسر القافية التي يفرضها السياق الشعري الأصيل.. مكتفياً بالموسيقى الداخلية للكلمات وبكثافة الجملة النثرية وإيحاءاتها.. وبذلك العبير الشعري الذي يفوح من داخلها باعثاً على التأمل والاندهاش.. ولذلك عندما قرأت مسودة كتاب أستاذنا الكبير السيد محمد حسن فقي "السنوات الأولى.. ترجمة حياة"، والذي قدم له أخي الأديب الكبير الدكتور عبد الله مناع بمقدمة رائعة ضافية كانت بمثابة حزمة ضوء |
على هذا الكتاب، لرجل شرف به أدبنا العربي ليكون احد رموزه المعاصرة.. كنت أهتز نشوة وسعادة. |
فكما أثبتت قصائد أستاذنا الكبير أنه أحد أهم الصروح الشعرية العربية المعاصرة فقد جاء كتابه "ترجمة حياة" ليثبت وعلى نحو متفرد بأن أستاذنا الفقي قد أمسك بطرفي المعادلة الصعبة "الشعر والنثر معاً" متربعاً ذروتهما مضيفاً من خلالهما إلى مكتبتنا العربية إنجازاً قل نظيره على صعيدي الكم والنوع، وإذا كانت مجلداته الشعرية الثمانية تقدم لنا الدليل على أنه أكثر الغابات الشعرية المعاصرة اتساعاً وتنوعاً في أشجارها المثقلة بالإبداع فإن كتاباته النثرية تقدم لنا الدليل على أن عناقيد إبداعه تتدلى من غصون سطوره، مثلما عرفناها متدلية من غصون أبيات قصيده. |
ومع أن كتابه "السنوات الأولى.. ترجمة حياة" كان قد وضعه قبل أكثر من أربعين عاماً، إلا أن صياغته الفنية تحمل بريق اليوم وعذوبته – وكأن بأستاذنا قد "عاصر" أساليب الحاضر قبل أربعين عاماً! فهو مبهر في أسلوبه ولغته وفي انتقائه لمفرداته.. وما هذا بجديد على قلم الشاعر الفيلسوف الفقي، والذي ألفنا منه قديماً يتجدد، وجديداً يسبقنا نحو الغد البعيد معبراً في ذلك كله عن خلجات نفسه المرهفة، محدقاً بما لا يراه الكثير من العاملين في حقول الكلمة الإبداعية. |
كان أستاذنا قد انطوى على نفسه دهراً ليبث الورق خلاله شجونه وأحاسيسه وتباريحه –عندما وجد أن تواصله مع الناس جعله يشعر وكأنه يصَعَّد في السماء– فما كانت عزلته انطواء عن الوجود بقدر ما كانت تأملاً في الوجود... ربما لهذا السبب كان صدره يضيق حرجاً بديدان هذه الدنيا الفانية. أن فلسفته التي ركن إليها منذ شبابه الباكر.. جعلته أقرب إلى التحاور مع نفسه ومع القلم والورق بدلاً من الخوض مع الناس في ما لا يتجانس مع عواطفه المشبوبة وأفكاره التي سبقت عصره بكثير – وهذا ما أردت التعبير عنه بقولي أنه كان يرى ما لا يراه الكثير من العاملين في حقول الكلمة. |
لقد ولد هذا الفيلسوف الكبير مارداً عملاقاً في جسم آدمي سوي، وسواء كانت الصفحات التالية تمثل الأربعين سنة الأولى من حياته كما قد يرى البعض –أو حياة "شخص آخر" كما يريد المؤلف آن نفهم– فهي بلا شك تمثل البوابة أو الإرهاصات التي أوجدت لنا أديباً متميزاً وشاعراً فحلاً له مكانته وقدَره وقدْره، وظلاله التي ميزت شجرته الباسقة عن سواه.. |
كان دائماً وأبداً على السُّدة. برز في جريدة "صوت الحجاز" كأصغر رئيس تحرير.. ثم انطلق في عطاء غير منقطع في مختلف مجالات الحياة. تسنم أرفع المراكز القيادية رغم صغر سنه إلا أن الله تعالى قد زاده بسطة في العلم والخلق الرفيع تزينهما موهبة أصيلة متوثبة، فتفجرت هذه القدرة عن ينابيع عطاء إبداعي هائل حجماً ونوعاً. |
ولعله من النادر أن يتوازن العطاء الإبداعي من حيث الكم الكبير والنوع الراقي المتميز.. فقد تعودنا في معظم الأحيان أن تقترن الكثرة بغثاء المعنى، والقلة بتجنيح الفكرة أو الكلمة فوق الأبعاد المتعارف عليها.. وبالتالي أضحى الإبداع محفوفاً بالمخاطر أمام المبدعين مكثرون ومقلون فإذا بنا نقف مع أستاذنا الفقي أمام عقل جبار وعاطفة جياشة وشلال إبداع عطاء لا ينضب. لا تضعفه الكثرة.. ولا تغنيه القلة فسار صاحبه رغم الحزن يمتطي صهوة الأمل المشرق.. مندهشاً.. متأملاً.. متسائلاً وسط عالم يفتح مغاليقه أمام عقل يفكر ويتدبر ويرى في الكون الفسيح ما لا يراه غيره.. ومن تلك الرؤى المحلقة فوق الذرى استطاع أن يرصد، ويصور، ويرسم، وينسج لنا ملحمة إبداعية، ستظل وشماً في ذاكرة التاريخ. |
أنني إذ أقدم لقراء العربية هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في مضمونه، فإنني أقدم الحرف الهادف، والكلمة المؤمنة، لأنني أردت أن أؤكد أن قلم أستاذنا الفقي سواء كتب شعراً أو نثراً فهو الجدير بتطويق عنق الأدب بقلائد يبقى بريقها المتألق عبر الدهور.. قلائد أحسبها تأتلق في وادي عبقر ثم تنثال عبر الأثير حاملة أشذاء أستاذنا الكبير.. تخرج من حناياه لتدخل حنايانا فتشيع فينا المتعة والانبهار وهي تنسكب في الوجدان بصفاء النساك وعذوبة المرتلين، ودفء المحبين وعبير المؤمنين، فنحلق عبرها نحو فضاءات جديدة رسمتها لنا تباريحه.. لواعجه.. شاعريته.. وكلمته، لنتلاقى ونلتقي بفيض إبداعه فتخضر بيادر نفوسنا.. وترتوي حقول قلوبنا المتعطشة لمثل هذا الوابل الصافي، لذا بقيت فراشات ذائقتنا الأدبية.. دائمة البحث عن زهوره: نركض خلفها.. لنقطف من ينعها.. ولنبق معها ونحن نسعد بها وبه.. ونحن نكبر عطاءه هذا الذي سيظل أبد الدهر يُذْكَر فيُشْكَر. |
|
عبد المقصود محمد سعيد خوجه |
|
|