المقَالة السابعَة |
نقل إلينا صاحب كتاب "النجوم الزاهرة" تعريفاً بنسب البهاء زهير فقال: (البهاء أبو الفضل زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن ابن جعفر بن منصور بن عاصم المهلبي العتكي الأزدي الملقب بهاء الدين المعروف بالبهاء زهير والمهلبي نسبة إلى المهلب بن أبي صفرة) فالبهاء زهير ينتسب إلى المهلب الذي كان من أشجع الناس وكان سيداً جليلاً. |
وهذا النسب الشريف الرفيع يدل على حجازيته، كما تؤيد ذلك روايتان لابن خلكان فقد قال في ترجمته للبهاء زهير وهو الذي عرفه واجتمع به: أن مولد البهاء زهير بمكة، أو بوادي نخلة بالقرب من مكة وأن البهاء زهير قضى زمن صباه في الصعيد ونشأ الود بينه وبين ابن مطروح في ذلك العهد، وأنه كان بين الاثنين صحبة قديمة من زمن الصبا وإقامتهما ببلاد الصعيد حتى كانا كالأخوين وليس بينهما فرق في أمور الدنيا، ثم اتصلا بخدمة الملك الصالح وهما على تلك المودة، وابن مطروح من مدينة أسيوط وقوص يومئذٍ هي أكبر مدن الصعيد، ومن روايتي ابن خلكان يتضح لنا حجازية شاعرنا البهاء زهير وأن علاقته بابن مطروح بمدينة (قوص) لم تكن إلا علاقة صداقة لم يجمعهما موطن واحد، فالبهاء زهير مسقط رأسه (مكة) والثاني وهو ابن مطروح مسقط رأسه (أسيوط) وذكر السيوطي في (حسن المحاضرة) أن البهاء زهير أقام بمدينة قوص بالصعيد الأعلى ولم يقل عنه إنه ولد بأي أرض بالقطر المصري. |
ولد البهاء زهير خامس ذي الحجة سنة 581هـ وتوفي في سنة 656هـ بوباء حدث بمصر والقاهرة ذلك العام، ودفن غير بعيد من قبة الإِمام الشافعي رضي الله عنه في جهتها القبلية، وقال مصطفى عبد الرزاق رحمه الله في بحثه عن البهاء زهير عام 1348هـ - 1930م: وربما يسبق إلى الظن أن البهاء زهيراً كان طفلاً حين هاجرت أسرته إلى وادي النيل لكنا نجد في شعره قصيدتين يذكر فيهما عهده بالحجاز. أما أولاهما فهي: |
أحن إلى عهد المحصب من منى |
وعيش به كانت ترف ظلاله |
ويا حبذا أمواهه ونسيمه |
ويا حبذا حصباؤه ورماله |
ويا أسفي إذ شط عني مزاره |
ويا حزني إذ غاب عني غزاله |
وكم لي بين المروتين لبانة |
وبدر تمامٍ قد حوته حجاله |
مقيم بقلبي حيث كنت حديثه |
وباد لعيني حيث سرت خياله |
وأذكر أيام الحجاز وأنثني |
كأني صريع يعتريه خباله |
ويا صاحبي بالخيف كن لي مسعدا |
إذا آن من بين الحجيج ارتحاله |
وخذ جانب الوادي كذا عن يمينه |
بحيث القنا يهتز منه طواله |
هنـاك تـرى بيتـاً لزينب مشرفاً |
إذا جئت لا يخفى عليك جلاله |
فعرض بذكري حيث تسمع زينب |
وقل ليس يخلو ساعة عنك باله |
عساها إذا ما مر ذكري بسمعها |
تقول فلان عندكم كيف حاله |
|
والقصيدة الثانية هي تأكيد لوطنيته وحب عميق لموطنه: |
سقى الله أرضاً لست أنسى عهودها |
ويا طول شوقي نحوها وحنيني |
منازل كانت لي بهن منازل |
وكان الصبا إلفي بها وقريني |
تذكرت عهداً بـالمحصب من منى |
وما دونه من أبطح وحجون |
وأيامنا بين المقام وزمزمٍ |
وإخواننا من وافد وقطين |
زمان عهدت الوقت لي فيه واسعاً |
كما شئت من جِدٍّ بِهِ ومجون |
إذ العيش نضر فيه للعين منظر |
وإذ وجهه غض بغير غضون |
|
ثم يختتم مصطفى عبد الرزاق رحمه الله قوله في تأكيد حجازية البهاء زهير بهذه العبارة (وليست ذكريات طفل هذه الذكريات التي يحن البهاء زهير إلى عهدها بين المقام وزمزم فلا بدّ أن يكون شاعرنا جاء إلى قوص فتى مستكملاً). |
ونعرض هذا كله للتدليل على المصادر التاريخية التي استندنا إليها في بحثنا عن شاعرنا البهاء زهير، ويجدر بنا أن نشير إلى مكانة البهاء زهير وما بلغه من سؤدد ورفعة في منصبه الذي كان يشغله من مناصب الدولة يقول صاحب كتاب النجوم الزاهرة: (إن البهاء زهير أدام في خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى أن توفي الملك الصالح وفي "صبح الأعشى" أن الملك الصالح نجم الدين أيوب حين تولى ملك مصر ولي ديوان الإِنشاء الصاحب بهاء الدين زهير) اهـ. |
وفي حسن المحاضرة: (ثم ولي ديوان الإِنشاء بهاء الدين زهير الشاعر المشهور)، وكان المعروف في ذلك العهد أن كلمة الصاحب تعني الوزير وكان البهاء زهير يشغل هذا المنصب الخطير. |
هذه نبذة من تاريخ البهاء زهير وتحقيق لمولده ونسبه ومكانته التي بلغها نوردها هنا حفظاً لأمانة التاريخ وأداء لحقه معتمدين في ذلك على ما أشرنا إليه من مراجع في بحثنا هذا عن شاعرنا الشهير البهاء زهير. |
أما مكانته في الأدب العربي فنترك تقديرها لمصطفى عبد الرزاق رحمه الله فقد قال: (وإذا وصلنا إلى شعر البهاء زهير فقد وصلنا إلى الجانب المهم من بحثنا، فإن البهاء زهيراً الشاعر هو مدار حديثنا لأن البهاء زهيراً من حيث هو صاحب ديوان الإِنشاء في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولعل صوره وأساليبه وموضوعاته في القرون الأخيرة من العصر العباسي الذي عُرِفَ بتحكم الأعاجم في شؤون الدولة وقلة تشجيعهم للشعراء، وتتوالى الفتن على الممالك الإسلامية ثم انتعش الشعر في وادي النيل مدة الفاطميين (358 - 576هـ) الذين راجت في عهدهم القصير فنون العلم والأدب وازدهرت المدنية، وفي هذا العهد نشأ البهاء زهير ووسع شعره كل ما أنتجت مدنية ذلك العهد من ثمرات، إلى أن قال: |
قال هيار في كتابه الأدب العربي: |
"إن شعر بهاء الدين زهير المهلبي كاتب السر في الدولة المصرية يجعلنا ندرك ما بلغه لسان العرب من المرونة والاستعداد للتعبير عن ألوف من دقائق العواطف التي صقلتها مدنية خلفاء صلاح الدين الزاهية". |
وفي ترجمة ابن خلكان للبهاء زهير ما يدل على أن شعر بهاء الدين زهير كان مجموعاً في حياته متداوَلاً بأيدي الناس، قال ابن خلكان في تلك الترجمة: |
"وشعره كله لطيف، وهو كما يقال السهل الممتنع، وأجازني رواية ديوانه، وهو كثير الوجود بأيدي الناس... الخ". |
وقد بلغ من مكانته الأدبية في الأدب العربي أن ديوانه طبع بكمبردج سنة 1876م وترجم إلى الإِنجليزية والفرنسية فقد قال عن هذا مصطفى عبد الرزاق رحمه الله: |
(وطبع هذا الديوان بكمبردج سنة 1876 في مجلدين الأول منهما فيه الديوان مع تعليقات وهوامش، والثاني ترجمة للديوان بالإِنجليزية منظومة شعراً وعليها شروح طبعه أدور هنري بالمر مدرس اللغة العربية بجامعة كمبردج الذي قتله بعض العرب ببادية طور سيناء سنة 1882م أثناء الحوادث العرابية) إلى أن قال: |
ويقول صاحب (اكتفاء القنوع بما هو مطبوع): إن ديوان البهـاء زهير طبع أيضاً في باريس سنة 1883م مع القراءات المتنوعة للمتن الأصلي العربي وختم قوله: |
(كانت للشعر نهضة كما قلنا، في عهد الفاطميين فالأيوبيين، والبهاء زهير من أئمة النهضة الشعرية في عصر بني أيوب، وعبقرية البهاء زهير في هذه النهضة تتجلى من نواح ثلاث: |
1- ناحية الأسلوب. |
2- ناحية الأوزان. |
3- ناحية الموضوعات التي يتناولها الشعر. |
هذه مكانة شاعرنا البهاء زهير في الأدب العربي نال بها تقدير الباحثين في الشرق والغرب، لقد جاء بمذهب جديد فجعل لغة الحياة الجارية في بساطتها ومرونتها لغة للشعر، بعد تطبيقها على قواعد الإِعراب وتقويم ما فيها من اللحن جهد المستطاع، وجرى على ذلك فيما كانت تجيش به نفسه وتفيض به عواطفه من فنون الشعر. |
ولو أردنا أن نستقصي في شعر البهاء زهير نفحات حجازيته في التعبير، والذوق ودلائل ديموقراطيته في اللغة وإن كان أرستقراطي المنازع والأخلاق لأوردنا من الأدلة والشواهد الشيء الكثير، ولكننا نحاول بقدر الإِمكان إعطاء صورة صادقة لتلك النفحات والأدلة والشواهد في بحثنا، ومما ينم عن النفحات الحجازية في أسلوب البهاء زهير اقتران الحلف في شعره للتدليل على صدق قوله فقد قال: |
ووالله ما فارقتكم من ملالة |
وجهدي لكم أني أقول وأحلف |
|
وسنعرض كما وعدنا لفنون شعره وأغراضه لنكمل بذلك ما بدأنا به بحثنا عن شاعرنا البهاء زهير واتجاهاته لندلل بذلك على فيض الطبع الحجازي في شعره وبعده عن التكلف. |
|