وإنَّ المعاني التي يتناولها الشاعر في مديح الأصل (المليك) والفروع، تمتزج فيها قيم الماضي بالحاضر.. ويستلهم من مشاهدهم وحضورهم ومواكبهم جواً موحياً بالأفكار والمشاعر والصور.. وكأن جلال الموقف- الذي يضفونه على المكان- يبعث في الشاعر حرارة الانفعال الإبداعي، ورؤى الخيال المشع.. فتستجيب له شاعريته بكل دقة وفخامة ورصانة، وهو يعيش ويرى روائع مليكه عن كثب، فتطاوعه المعاني والصور، وتجيء لائقة بالمقام، محكمة، تفيض براعة فيمتلك الشاعر زمام اللحظات الشعرية، حتى وهو إزاء المعاني التقليدية، والأوصاف العربية المعهودة.. فإنها تكتسب طعما جديدا، وهو يصفه بالسخاء والجو والشجاعة والأخلاق الغراء، أو وهو ينعته بحامي الذمار والدين وإمام الهدى ومختار الرحمن، وموحد الجزيرة ونعمة العرب، وكالفاروق مبتسم وهو يستعرض جيشه السعودي..
أما الأمير فيصل- آنذاك- فإنه مفجر لأعمق وأغزر مشاعر الحب والحماسة والمسرات في قلوب الجماهير، يوم قدم في أحد الأيام من الرياض إلى مكة.. ولقد كانت إطلالة موكبه واحتفاء وأهازيج الشعب به، تعيد للأذهان أيام وأمجاد التاريخ العباسي في أزهى عصوره الذهبية، ولنستطرد مع الشاعر عبر استفهامات تتلاشى فيها المبالغات للتأكيد على حقيقة واحدة هي تلاحم الماضي التليد بالحاضر المشرق، والحقائق التاريخية القديمة بالمواقف المعاصرة:
إن الشاعر يؤكد مراراً على الانطباعات الشعبية، وذلك بتصوير أحاسيس ومشاعر الشعب من حب وتعاطف وتقدير.. ومن خلال إبراز مسرات الجمهور وفرحته بقادته، وبشرِه وأعياده وزغاريده.. كما يؤكد على أن مدحه مرتبط بالتاريخ الإسلامي.. الحاضر يمتزج بالماضي- أو صورة الممدوح تمتزج بشخصيات تاريخية عربية فذة.. وكل ذلك يقود الشاعر إلى امتصاص عواطف الجماهير الوطنية، وتمثيلها بحالات من الزهو والافتخار والكبرياء وتظل القادة هي المفجرة لكل مشاعر الفخر والعنفوان، والمليك هو موقد شعلة العظمة الشعبية والقوة الوحدوية:
هو النعمة الكبرى على العرب كيف لا
وفي ابتدا عصر (السعود) المذهب
وفيه خطونا خطوة سجلـت لنـا
على صفحات الدهر بالفخر تصحب
وفيه غضبنا غضبة مضرية
بأمثالها الأمثال في الناس تضرب
وفيـه أرينـا النـاس كيف اتحادنـا
فأعجب بروح المجد إن كنت تعجب
وفيه التقى (نجـد) بقطر (محمد)
فسارا إلى القصد الذي نحن نطلب
وإن انطباع الشاعر لهو ترجمة للانطباعات الشعبية، فتبرز انطباعاته بصورة تجسد أصالة الشعب وقوته وزهوه من خلال موقف الفخر، فتتداخل لديه معاني المديح بالفخر، وتتبلور صورة الحب الوطني الشعبي عبر حب أكبر ليشمل كل العرب وتاريخهم المجيد:
وينطلق الشاعر في فخره من منطلق الزهو بجزيرته الشامخة في سمائها وصحرائها، ومقدساتها وقائدها، فتتعالى منه تلك الصيحات الجريئة المشحونة بالإباء والثقة والقوة.. وذلك لأن متكأ الشاعر متين صلب، يكفيه متانة أن شاعرنا يتنفس ويحس ويتحرك من خلال مليكه الذي هو ملء السمع والبصر والوجدان والفكر.. فنسمع فخراً وطنياً، فيصبح المديح والفخر صنوين يلازمان الشاعر في مواقفه الوطنية.. ويصل الشعر عنده حداً تذوب فيه المسافة بين الفخر والمديح. ويستحيل مليكه أو أميره إلى أمة وشعب ودولة كبرى.. فمن خلال صورة الممدوح يفخر بأمته ودولته وشعبه.
والمديح والفخر كلاهما يتكئ على الحاضر والماضي،.. ويجسد - عبر أعلام الشخصيات والأمكنة- ويعمق جذوراً روحية وعاطفية ووطنية وتاريخية ودينية وقومية في نفس الشاعر، وليلهج بها دائماً، ومن ثم لتنتقل عدواها إلى قلب القارئ.
وإن شعر عبد الله بلخير لينفي الفكرة التي سادت طويلاً لدى كثير من دارسي وباحثي الأدب العربي، وكانت من إيحاء بعض المستشرقين الذين درسوا آدابنا، والتي مفادها "أنه ابتكر في الأدب العربي ما يسمى بأدب الملوك أو الشعر الأرستقراطي، لأنه يحيط الملوك وحدهم بالدعاية والرعاية، وينسى الشعب وعامة الناس من الذكر والعناية، فلا يعيرهم مكاناً من المديح، ولا يلفت النظر إلى أعمالهم، فكأن الدنيا تعيش لهم وبهم. وحين ينفي شعر عبد الله بلخير تلك المقولة ليؤكد -من خلال تمجيده لمواقف العظام- أن الاهتمام بالملوك والنخبة في المجتمع لهو تجسيد لكل الطاقات والإمكانات المادية والروحية والوجدانية والفكرية التي يمثلها الشعب. وإن مديح بلخير لتلك الطبقة أو الصفوة الممتازة هو استقطاب كل مشتت في ضمير الشعب وصهره في بوتقة الفرد الذي هو رمز لكل طاقات الجماعة. لأن الفرد المثال هو خلاصة وروح الأمة في حضارتها وأمجادها وتراثها وفكرها. كما قدمنا، وكما سنرى في العناصر التالية: