شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المَديح وَالفَخْر
وإن فن المديح موقف شعري- نفسي أو اجتماعي أو سياسي- يقفه الشاعر من فرد أو هيئة أو فئة.. أثاروا فيه عاطفة الإعجاب، وهزوا فيه أوتار الحب والانبهار لما صنعوه من خير وحق وجمال للإنسان والوطن والأمة والبشرية جمعاء.
فيجيء شعر المديح ترجمة للأعمال العظيمة من الرجال العظام، وسجلاً خالداً لمآثر الأفذاذ وآثارهم الباقية عبر الزمن والأجيال والتاريخ. وشاعر المديح برهافة وصفاء مشاعر هو نفاذ حسه في أعماق الإنسان والمجتمع - خير مرآة صادقة للأمة، وخير مترجم وراصد للرائع من الأعمال والمواقف التي يقفها ويتخذها المرء في سبيل المجموع.
ولا تفارق مخيلة الشاعر روح الممدوح الذي يصنع الكثير من أجل الأمة، ويفني ذاته في مصلحة الآخرين. وكلما كان شعر المديح قوياً مؤثراً رائعاً كان حافزاً أو محركاً للرجال، كي يحذوا حذو أولئك العظام من الممدوحين، ويصنعوا صنيعهم، عسى أن يصيبهم بعض الثناء والإعجاب والتخليد الشعري. ألم يخلد شعرنا على مر عصوره- روائع العظام؟! وإن كانت جُلّ المفاخر التي يحققها العظام تنبع من أعماقهم وعزمهم، لا ليلقوا الحمد والثناء.
ويعبر فن الفخر عن موقفين للشاعر: موقف يـرى أمتـه تزحف شامخة متقدمة من نصر إلى نصر، ومن علياء إلى علياء.. فيجيء الفخر فيه تجسيداً لأحاسيس الزهو والعظمة. وموقف آخر يجيء الفخر فيه تعبيراً عن الارتداد النفسي لمشاعر الخذلان والفشل التي تداهم الشاعر وهو يرى أمته تتراجع وتجر أذيال الخيبة، وقد توالت هزائمهم. فيتكئ الشاعر على مفاخر وأمجاد وانتصارات قديمة، صنعها رجال غير رجال اليوم، وإن كانت قد وقعت علـى ذات الأرض. فيتحول الفخر إلى وقدة ملهبة لحماسة ويقظة الجماهير.. كما سنجد هذا الموقف في شعر بلخير الملحمي.
وسيظل فن المديح أبرز الموضوعات في الشعر العربي، ما دام ثمة رجال يصنعون الأمجاد لأمتهم، ويغيرون ويحولون مجتمعاتهم نحو الأفضل والأسمى.
كما أنه سيظل الفخر- صنو المديح- مفجراً لطاقات الأمة، ما دامت هذه الأمة، في صراع بين التخلف والتقدم، والنوم والبعث، والهزيمة والانتصار، والضعف والقوة.
وفن المديح في الشعر السعودي المعاصر، يكاد يوازي كل ما قيل في الأغراض والموضوعات الشعرية الأخرى. ويراه الشاعر السعودي المعاصر رسالة سامية، بدافع من ذلك المنطلق الذي ذكرناه. وبخاصة شاعرنا عبد الله بلخير.
مدح آل سعود:
وأول ما تتجه مدائح الشاعر نحو الملك عبد العزيز، وقد شخصت كل صنائعه الوطنية والقومية والدينية في ذهن ووجدان ومخيلة الشاعر. فيبرز المديح لديه تجسيداً- كذلك- لمعاني الإعجاب والتقدير لممدوحه، الذي يجد فيه كل حوافز ودوافع المديح، لما لخصه واستقطبه من أعماق شعبه. وما يموج فيها من توق وطموح وآمال وأهداف. فكانت أعمال الممدوح الشامخة العظيمة ترجمة لكل قدرات الشعب، لأنه استطاع أن يحقق أكبر معجزة للجزيرة العربية في العصر الحديث.
لذلك فمهما يقله الشاعر في مدح عبد العزيز يبق قاصرا عن تناول كل الحقائق.. ومهما يبالغ في تعبيره الشعري، ويضخم تلك الحقائق، ويرتق بها إلى أعلى مستويات التعبير والصياغة فلن يقوى أحد على نعته بالمبالغة، لأنه ليس من المبالغة تجسيم أو تعظيم أفعال العظماء من القادة أو رجال الفكر، وإنما المبالغة هي تزوير الحقيقة، وإسناد البطولة والعظمة إلى غير مستحقيها، فلنسمع شاعرنا يقول من قصيدته (ثلاثة أعياد) (1) أحدها عيد جلوس جلالة الملك:
إلى الوحدة الكبرى يقود جموعهم
موحـد هـم (عبد العزيز) المحبب
مليك لـه تـاج (بنجد) مرصع
وعرش على أفق (الحجاز) مطنب
تحف به منا القلوب ودونه
يلذ لنـا المـوت الزؤام ويعذب
إمام هدى حتم على الناس حبه
وطاعته فرض وشانيه مذنب
قد اختاره الرحمن للدين حارساً
ليحميـه ممـن بات بالدين يلعب
وإن الشاعر ليحتار أمام مادة مديحه.. فمن أي مورد ينهل؟ إنها موارد غزيرة وغنية، ولا سيما أن أعمال عبد العزيز حية وشاخصة في أفقه، وتستغرقه من كل مكان.
إن الشاعر يحس بالزهو في فترة جديدة تعيشها الجزيرة العربية، ويحس كما لو أنه في حلم، فيهيم به الخيال والذكريات، فيما مضى من الجزيرة وما أصبحت عليه في حاضرها.. ويفرض عليه واقع الحال أن يقارن ويشابه، فأي عصر من عصور الأمة العربية الذهبية قد بعث وعاد في صورة اليوم المشرفة المشرقة:
ذكرنا به عهداً أتى فيه زاهراً
على العرب والإسلام في الغرب يضرب
ذكرنا به عهد النبي وصحبه
ودولة أهل الشام ممن تقلبوا
ودولة (هرون الرشيد) ومن له
(بمصر) أو (الأحقاف) عرش ومنصب
و هـا هـو يأتي والجزيرة كلهـا
تئـن مـن الخصـم العنيد وتندب
يسام بنوها الخسف في كل موطن
وأوطانهم بالغدر والمكر تسلب
تطالعنا أخبارهم كل ساعة
فتغلي لها منا القلوب وتلهب
وقد ضاقت الدنيا بهم في اتساعها
وداهمهم جيش العدو المقرب
(يكادون من ذكر تعز ديارهم
وتنجو الرواسي لو حواهن مشعب) (2)
وإن تلك الحالة التي كانت عليها الجزيرة، من فوضى وغدر ومكر وخوف وذعر وعداء وخسف.. لا بد لها من معجزة تنسفها، وتصفع ذلك الوجه المروع، المزروع في قلوب العباد التي باتت لا تعرف للأمن طعمآ، ولا يهدأ لها بال، أو تقر لها عين، وليس لأي كائن ما كان أن يغير الأحوال، لأن محاولاته ضرب من المستحيل. على أن الأبطال صانعي التاريخ لا يعرفون لغة المحال.. لذلك:
فبينا هـمو فـي ذاك والكل خائف
وقد طاشت الأحلام والظلم أغلب
إذا صوت ملك قد دوى فتحرك الـ
شمـال به وارتج شـرق ومغـرب
يناديهمو والسيف يعلو شماله
وفي كفه اليمنى الكتاب المهذب
فثابـوا فألفـوه على البيت واقفـاً
إمام الهدى عبد العزيز المطيب
فماج بها شرق البـلاد وغربهـا
ولبوه والآماق بالدمع تسكب
ومما يجعل مدائح الشاعر سجلاً خالداً في التاريخ السعودي.. هو طبيعة العلاقة التي تجمعهما. فقد كان الشاعر في بدء حياته العملية قارئ أخبار للملك عبد العزيز، ثم منشده الشعر، فناظم قصائد فيه. فاستحب الملك شاعر يته وحضوره، فاتخذه من سماره وأصفيائه. فأسعد الشاعر بتلك الحظوة. فكانت له فيها ذكريات ظلت محفورة في قلبه لا تمحى، ومورد شعر ينهل منه أرق وأصدق المعاني والتعابير. فلنسمعه يقول من قصيدة نظمها في موسم حج عام 1396هـ (1976م) وعنوانها [الذكريات يفوح بها أريج مكة وعبير الرياض] (3) .
ولقد وصل شعر المديح فيها لدى شاعرنا- من الصدق والتعاطف والود-إلى درجة استحالت فيها تلك المشاعر والأحاسيس إلى نوع من شعر السمر فكان شعرا يفوح بأريج وحرارة المكان، وحيوية الملك وصحبه:
ربيع عمري بنجـد كلـه عبـق
بذكريات تغني والهوى ساري
إذا الربيع أتانا في مطا رفه
وفاحت الأرض من أنفاس أزهار
مشى إليه (طويل العمر) في صخب
وحوله كل رمّاحٍ وبتّار
ما بين (حزوي) وما بين (اللصافة والـ
صمان) و (الحفـر) من روض وآبار
نيرانه عـرس (الدهنـا) إذا اشتعلـت
مـلء الفضاء لأضياف و (خطـار)
وتبلغ شفافية الشاعر الوجدانية والذاتية ذروتها في تتمة الأبيات، من استرجاع الذكريات وفي أماكن أخرى، أو ذات الأماكن. ودائماً مسرحهم هو الصحراء والخيمة.. الصحراء وما تموج به من كثبان الرمل، والخيمة وما تتبعثر فيها من أقلام وأحبار.. وكان ذلك الجو ملهماً، ومما يكمل صورة الإلهام مشهد المليك حين يعرج عليه وصحبه.. ويعيش معهم جواً رومانسياً يعج بالشعر والسمر، وتمتلئ صحراؤهم بالأناشيد والأهازيج، وإن المشاركة العفوية الطبيعية بينهم عبر روضة الخفس والدهناء- ومن خلال بعث وإحياء الذكريات- تثير فيناً- نحن القراء- آفاقاً منسرحة هائمة من المشاركة الوجدانية معهم. وكلنا إعجاب بالشاعر وهو يمثل الشخصية البدوية الصحراوية، المنطلقة على سجيتها (4) :
في روضة (الخفس) و(الدهناء) كم نصبت
بها خيامـي وكم قضيت أوطـاري
أمسي وأصبح فيها والرمال بها
معازف الجن في أنغام زمار
تعثو الرياح بأوراقي تبعثرها
في خيمتي وبأقلامي وأحباري
وطالما سهرت حولي عباقرة
من جن عبقر سماري علـى نـاري
جـن الرمال السوافـي في مراقصهـا
من حـول زوبعة أو حـول إعصـار
لهم على (الجود) من (عبد العزيز) قرىً
وعن (نداه) على ورد وإصدار
مالوا على خيمتي في عارض لجب
كالريح مال بأشجار وأحجار
جاؤوا مـن الربع الخالي تسيـل بهـم
كثبانه في عجيج زاخر واري
بتنا على جنبات الرمل في صخب
وفي أهازيج عشاق وأخبار
يروون لـي شعـر أجـدادي وأنشدهم
شعري، فتمتلئ (الدهنا) بأشعار
تصغي إلينا صبايا الجن معجبة
بشاعر، لبنان الجن، سحار
وطالما اختلت في كثبانهـا مرحـاً
عليَّ شملة صـوف ذات أوبـار (5)
وإذا كان الشاعر يصدح منشداً روائعه في مليكه، فإن المروءة والوفاء والرجولة تحتم عليه أن يظل منشدا كذلك في آل سعود.. في الأبناء والأحفاد. لأن الشاعر يرى أن الفروع تستمد نسغها من ذلك الجذع.. حيث كلهم ينهلون من ذات الأخلاق العربية التي ترعرعوا عليها وهيأها لهم الأب الكبير. وكأني بالشاعر -حينما ينشد في آل سعود- يتمثل قول زهير بن أبي سلمى (الذي قال فيه عمر بن الخطاب بأنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه) وهو يمدح رئيساً عربياً:
فما كان مـن خير أتـوه فإنمـا
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينب الخطي إلا وشيجة
وتغرس إلا في منابتها النخل
فيقول شاعرنا:
قساور أشبهوا في البأس والدهم
ومن يشابه أبـاه هل به عجب
ضياغم حسروا عن رؤوسهم ومشوا
يهللون على أعدائهم يثبوا
قد اشتكت منهم بيض الصفاح فما
رقّوا ولا رحموها وهي تنتحب (6)
لذلك، فحين يذكر عبد العزيز، وأيامه الخالدة المشرقة في الماضي، فهو يذكر أيضا آل سعود، وأيامهم المتألقة في الحاضر، يقول في ذات القصيدة السابقة، وقد وقف على ديار عديدة من الجزيرة:
كنا بها في (حمى عبد العزيز أبي الـ
ـتاريخ، نرفل في حل وأسفار
واليوم في (خالد) العقبى يحف به
(فهد) وإن به للمخلص الضاري
كلاهما في مسار المجـد مؤتلـق
يبنـي صروح حضارات وإسفـار
ويقف أيضا في قصائد أخرى معاصرة، من آل سعود موقفاً يشع بالعرفان لا سيما قصيدته (التحيات للرياض) (7) التي يتفجر فيها قلبه عن مشاعر نبيلة ورقيقة، وتعج "أعماقه بالأحاسيس الحادة، التي تثيرها الذكريات، حالما يعود للرياض بعد غيبة دامت ستة عشر عاماً.. ذكريات قديمة في الرياض لا تنسى.. حافلة بتاريخ رسمي وذاتي طيلة ثلاثين عامأ، وحين يشرف عليها من الطائرة ليلاًً:
فإذا ( بالرياض)، دنيا من الأمـ
ـجاد، تزهو في ما تطور بعـدي
أزهرت، بعدما ربت وتعالت
في علاها من غير قيـد وحـد
وثبت في قياد (فيصل) والإخـ
ـلاص من (خالد) وهمـة (فهـد)
كان لي في (الرياض) أمس تغنيـ
ـت بها فيه، كان غرة سعـدي
ثلث قرن من السنين طواها العمـ
ـر فيها، كانت هي العمر عندي
منزلي فوق مفرق (العارض) النا
يف، فوق (الوشـام) واسـط عقـد
جار رب الندى (محمد) الوا
في، (بن عبد العزيز) في خير ود
وإذا كانت أيامه المعاصرة قد خلت من المشاهد الملكية التي كان يعيش حلاوتها ونعيمها، فإن رصيده الملكي من الحياة الماضية الصاخبة بالأفراح في: حضرة عبد العزيز، كان مزروعاً في مخيلته ووجدانه.. لا سيما (العرضة النجدية) التي كانت، وما زالت في آفاقه، وواقعه وخياله، بحركتها ورشاقتها ودقات طبولها، ولمعان سيوفها.. وقد أكسبها عبد العزيز جمالاً وبهاءً برجولته وشموخه بين قومه:
كلما دقت الطبول على (العر
ضة)، ماجت ما بين جزر ومد
وترامت أصداؤها، يرقص (العـ
ـرب) عليها، فيها الصدى والتصدي
يتهادى (عبد العزيز) ويختال
عليها ما بين شيب ومرد
والمواضـي علـى سواعدهـم تز
هو بهـم والسنـا علـى كـل حـد
وهو كالراية المنيفة فـي علـ
ـياه رفت علـى مشارف نجـد
وعلى رأسه (المقصب) في حمـ
ـرة إشراق صبحه المتبدي
يتهادى بسيفه يالمرآ
ة تلالا في الشمس من غمر غمد
كان (عبد العزيز) قطب رحى (العـ
ـرب) وحادي ركب الحياة المجد
فحين يقول بلخير قصيدته التي يحيي فيها (أم القرى) (8) وجامعتها الجديدة مع إطلالة القرن الخامس عشر الهجري، فلا بد له أن يعرج على آل سعود المعاصرين، الذين يرى فيهم صورة الحضارة المعاصرة. فرعايتهم للعلم، واهتمامهم بإنشاء الجامعات يجسد شكل المستقبل المشرق الذي لا يغرب عن مخيلتهم. ويصبح التاريخ لدى شاعرنا عينا لا تبصر وتسجل الإنجازات والأحداث الكبرى التي يحققها العظام.. والمتمثلة بالجامعات والمصانع، فهي التي تصنع الدولة العصرية، وتبني صرح الحضارة الحديثة:
واليوم، يا آهلا بجامعة الهدى
في (ام القرى)، فما تعسَّر يَسِّرا
مرحىً ل(خالد)، حين خلد نفسه
بالعلم فوق (بطاح مكة) أزهرا
ول(فهد) في إنشائها، وبنائه
(حرما) به (البيت الحرام) تسوَّرا
فالخلد، والمجد المؤثل كله
بـ (الجامعات) و بـ (المصانع)، يشترى
أما سواها، فهو في (التاريخ) ما
بين الشعوب، نوافل، لن تذكرا
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1391  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.