(( كلمة سماحة العلامة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا مولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. |
أبدأ حديثي بالاعتذار عن تغيبي مدة ليست بالقصيرة وذلك لأسباب صحية منعتني أن أستفيد من هذا المجلس الرائق والراقي، والذي كنتُ أُمَتِّعُ نفسي بما أجد فيه من أدب جم وتقدير للكلمة، والقيام بالواجب نحوها، وقد فاتني فيما فاتني حضوره الاجتماع الأخير الذي كان في ذكرى شيخنا وأستاذنا المرحوم حمد الجاسر، والذي هو شخصية من الشخصيات اللامعة لا بالنسبة للمملكة وحدها ولكن بالنسبة للعالم الإسلامي، وحتى غير الإسلامي لما ترك من آثار تشهد بعنايته ورعايته للتراث العربي والإسلامي في كل مكان، وقد كانت لي به صلات متعددة واستفدتُ منه -رحمه الله- بتوجيهه وإيقافي على بعض المخطوطات التي لم أكن أعرفها. |
والذي أريد أن أزج بنفسي فيه الليلة هو الترحيب بالأديب والشاعر الأستاذ نور الدين صمود في هذه الاثنينية التي تنتخب دائماً العناصر الفذة والرجال المتفوقين في مجالس ظهورهم ونشاطهم وجهودهم الكبيرة التي كلما ذُكرت كان الثناء العطر عليها، وكان الحديث مستعاداً بشأنها، وعندما أتقدم للحديث أو للتعريف إذا صح الكلام وليس تعريفاً لأن الرجل عرَّف بنفسه بالأعمال الكثيرة التي نشرها، وبما استمعتم به عند التقديم وأنواع النشاط التي قام بها في بلده وخارج بلده وفي الجامعات المختلفة في العالم وبالأخص العربي والإسلامي، وبما شارك فيه من بحوث ودراسات كلها وقعت الإشارة إليها. |
أريد أن أقول كلمة اعتدنا نحن الشيوخ رجال الفقه عليها، هذه الكلمة هي أننا حين نبدأ بدراسة الفقه نقول الفقه والفهم، وننتقل من هذا الفهم إلى الاصطلاح المعروف بين الناس، وهو أن الفقه عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية، وهذا الذي يٌقال بالنسبة للفقه يُقال بالنسبة للأدب، وبالنسبة للنقد خصوصاً، لأن النقد فن، لا يمكن لإنسان أن يقوم بعملية النقد إلا وقد فهم ما سمع أو ما قرأ وتوصل إلى إدراك الخصائص الموجودة في ذلك الكلام، ومن ثم فإن النقد هو عبارة عن توضيح الأعمال الفنية وتقييمها مع تصحيح عملية التذوق، لأن الفهم وحده ليس كافياً.. لا بد من أن يكون هناك جانب التذوق لذلك الأثر الفني الأدبي الذي يراد بيان جوانبه ذات التأثير البديع في النفوس، وأخونا الدكتور نور الدين صمود الشاعر المبدع له جوانب متعددة كالتي ذكرناها أو استمعنا إليها.. منها الجانب الفني المحض، والجانب الفني هو إنتاجه الشعري والأدبي، ومنها الجانب العلمي المتمثل في الدراسات والبحوث حول اللغة والأدب، ورأينا بعد ذلك شواهد على هذا في كتابه التفسير الشهير "دراسات في النقد والشعر" وفي بحثه عن "الطبري ودراساته أو الجوانب اللغوية في كتابه"، وعندما أنظر إلى مثل هذا الأثر الذي بحمد الله عايشناه ونعتز به أقول بأن هذا الشاعر ليس كعامة الشعراء أو غيره من الشعراء، فإن القاعدة التي انطلق منها من الناحية الشعورية والعاطفية والانفعالية قوية جداً، وهي من الناحية اللغوية والتعبيرية في نفس المستوى من العلو والإبداع. |
ولذلك فإن الحديث عن الشاعر نور الدين صمود ليس إلا حديثاً عن الإبداع الذي لمسناه في شعره، والإبداع كما تعلمون فنون واتجاهات، فهناك المبدعون الروائيون المسرحيون، وهناك المبدعون في القصة القصيرة، والإبداع هو تعبير قبل كل شيء عن الاتجاهات والدوافع والانفعالات، الاتجاهات التي يختارها الرجل الموهوب والدوافع التي تحمله على ذلك الأمر، والانفعالات التي تكون له من المحيط الذي يعيش فيه فتحركه إلى مثل ذلك الإنتاج وتقديمه للناس، وأما الجانب الثاني: فهو التعبير عن العمليات المعرفية هذه العمليات المعرفية تسبق الإنتاج الأدبي، هي في الواقع عبارة عن التكوين، والتكوين هذا لا ينتهي في أجل محدد قد يستمر مع الإنسان، فهذه الثقافة المتضافرة المتوالية التي تؤثر في صاحبها تؤتي أُكلها في إنتاجه الأدبي، ويقع التوقف عند جملة أشياء في إبراز الجانب الإبداعي عند الشخص وذلك عند دراسة النص الأدبي ذاته أو في الإبداع الشعري. |
وهنا أريد أن أُذكِّر بأن القضية مقسمة بين الشاعر أو المتكلم أو الخطيب وبين الذين يستمعون إليه ويريدون الإفادة من قوله، فلا بد من توفر شروط في المتكلم وتوفر شروط في المستمع، فإذا فُقدت بعض هذه الشروط ساء الأمر، وضعف الاستدراك وكان العمل صورياً شكلياً ليس فيه من الإبداع شيء، ولذلك فإن معرفة المتكلم بالمعاني التي يريد تقديمها أو تصويرها للناس ووعيه العميق بالتجارب التي مر بها وفهمه للقضايا التي يمارسها صباح مساء، وعمق تصويره الذي يقدم به تلك المعارف، كل ذلك ينبغي أن يجد من المتلقي إدراكاً للغة، إدراكاً صحيحاً للغة ومعرفة بالجوانب الفنية التي يمتاز بها ذلك الأثر، ثم أن يكون بعد ذلك متعاملاً مع ذلك المتكلم فيما أتى به، والتعامل هنا هو التجاوب بين الطرفين. |
|
وأعتبر أن الإبداع هذا الذي هو خلاصة القول بالنسبة لشاعرنا ليس بالعمل الذي يُعطى أو يُمنح أو يُقدم كهدية لأي إنسان إنما هو جهد شخصي، ومع هذا الجهد الشخصي التميز في ذلك الجهد بما يمكن أن يحققه الإنسان في عمله الفني، فللإبداع في الشعر جذور ممتدة بدرجة كبيرة في حياة الشاعر وماضيه، لأنه يعرضه للانفعالات التي يصورها وبفكره للتجارب التي مضى عليها عهد من عمره وبتصويره للأحاسيس التي يكنها في نفسه يستطيع أن يلتقي بل أن يتجاوز ذاته إلى مخاطبيه بهذه الهدية أو هذا الأثر الكبير الفني الذي يحقق التجانس والتزاوج في مثل هذا العمل، ثم هناك بالنسبة لكل إنسان بالنسبة لكل حي وبخاصة الشعراء خِبرات، هذه الخبرات قد تكون آنية، يعني الخبرات الجديدة، ولكن هناك خبرات ماضية، فإذا أراد أن يتكلم لأول مرة لا يجد هذه الخبرات، وإذا تقدم في السِّن وعمّت التجربة وكَثُرَت.. كَثُرَت معها الخبرات التي يكون عليه أن يمزج بينها ليكون هو الشخص الذي يعبر عن ذلك، وفي الحالات السلبية عندما يقصر عن القيام بهذا الواجب ينبغي أن يحكم نفسه وأن يتغلب على التسارع وعلى التوتر وعلى فقدان الاتزان النفسي، فهذه شروط أساسية لتكون شخصيته مع الإبداع قوية، والعملية الإبداعية لدى الشاعر تكون في تجاوز وعبور التوترات وفي الاستعادة لذلك التوازن الذي كان يخشى أن يفوته، ثم الشاعر هو لا يعبر عن نفسه يصبح لسان قومه، ولذلك قالوا إن الشاعر هو المتحدث بعنوان قومه وجماعته فهو النهم.. الذي يحاول بالأنا الموجودة فيه أن يتوصل إلى تحقيق المعنى الجماعي وإبراز الحقائق الكفيلة بتثبيت ذلك القدر من الإبداع والإعجاب في المخاطبين له. |
|
ونلاحظ أن دور الخصائص الفنية والأدبية يكون ذا أثر كبير إذا كان للشاعر اختيار في الكلمات وفي الصور وفي الموضوعات التي يوشي بها قصائده، وليست هذه الأشياء بالأمر السهل الذي يستطاع تحقيقه بسهولة، والقصائد الإبداعية هي ناتجة عن المحاولات التي تكون للشاعر ليكون نظمه مشتملاً على تلك الخبرات الإبداعية، وصادراً عن الإطار الإبداعي في نفسه، ثم إن الانتقال عند الشاعر ليس هو انتقالاً من بيت إلى بيت، ومن جملة إلى جملة، بل هو انتقال من وثبة إبداعية إلى وثبة إبداعية ثانية، وهذا الذي يجعل القصيدة كله مؤثراً، ويجعل الأثر الفني بكله لا بجزئياته إبداعاً، وليست هذه المقاييس أو المعايير الإبداعية التي أشرنا إليها طريقاً لنقد الشاعر أو الحديث عن أثره، بل هي قبل ذلك طريق لمعرفة الجوانب الهامة والمظاهر النبيلة التي نلمسها في روحه وفي مواهبه، وهي التي كانت أساساً لضبط ذلك العمل الفني الذي يقدمه. |
|
فأهلاً وسهلاً بالدكتور الأستاذ نور الدين صمود.. وبتفضله علينا في هذه الأمسية بالحضور والمشاركة التي يسعد فيها إخوانه بتوجيه الشكر والثناء له، وبالحديث عن الجوانب الفنية القيمة الموجودة في فنه وشعره، وليتنا بدل الاستماع إلى كثير من الملاحظات المبنية على غير أساس لأن الرجل لم يتكلم بعد، تكون مبنية على ما سيقرأه لنا أو يقدمه إلينا من عينات أدبية فنية نحتاج إلى الاستماع إليها لنجعل من هذه الجلسة جلسة ممتعة وذات أثر بليغ في نفوسنا.. وشكراً لكم. |
|
عريف الحفل: شكراً، حقيقةً أرجو ورجاء خاصّاً الالتزام بالوقت حتى تُتاح الفرصة لأكبر عدد من المتحدثين، والكلمة الآن لسعادة الدكتور عبد المحسن بن فراج القحطاني، عضو نادي جدة الأدبي والأكاديمي الناقد المتخصص. |
|