شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الأستاذ سعيد السريحي))
بسم الله الرحمن الرحيم، سلك الطريق الذي سلكه الإمام أبو حنيفة من قبلُ، حتى إذ بلغ فيه غايته أوقفه على باب الحق، مؤكداً بذلك أن ما يراه العقل الصحيح هو ما يراه الدين الصحيح، لا يختلفان إلا إذا انحرف بالعقل غاوٍ أو زيَّف الدين من هو أشد غوايةً. هكذا هو محمد عمارة كما عرفناه، جاء الغيب من باب لم يعد فيه الغيب تغييباً للحضور، وإنما هو حافز على تدبر هذا الحضور بحيث يكون حضوراً مستحقاً لما ينطوي وراءه من غيب، منصرفاً بذلك عمن لا يرى في ما حوله إلا ما حوله، حتى تغدو رؤيته لما يراه كفراً بما يراه، ومنصرفاً بذلك كذلك عمن يستغرقه الغياب فلا يرى ما حوله حتى تفضي به رؤياه إلى الانحراف به عما يؤمن به، فلا تقوم له بعد ذلك دنيا تجاهلها، ولا آخرة توهَّم أنه يسعى إليها.
 
ووصل محمد عمارة في تناوله للدرس الديني جناح العقل بجناح النقل، فلم يكن العقل لديه تكذيباً للنقل، ولم يكن النقل لديه محواً للعقل، وآمن بما يتجاوز العقل حينما يكون تحفيزاً للعقل كي يكون أهلاً لتدبر ما يلقى عليه، وتحريضاً له ليكشف ما استودعه الله إياه من اقتدارٍ جعله الله به ميزة للإنسان على بقية خلقه، وسبيلاً للقيام بما لا يستقيم له القيام إلا به، فإذا ما أبطل العقلَ مبطلٌ أسقط بذلك التكليف الذي لا يقع إلا به، سالكاً بذلك منهج السلف الذين كانوا يقدمون العقل حتى يرون أن فهم النقل لا يتم إلا به.
 
هكذا ولج محمد عمارة إلى الدرس الديني، سالكاً إليه طريق المعرفة بعد أن أدرك أن سبيل العرفان لا يفضي به إليه على نحو يليق برجل وهبه الله عقلاً وأمره بتدبر ما حوله، ومنحه بعد ذلك حريته كاملةً ليؤمن بما يشاء ويكفر بما يشاء، ثقةً بأن العقل الحر لا يمكن أن يفضي بالإنسان إلى غير الحق ولا يفضي به إلى غير الحقيقة. احتقب محمد عمارة العقل في درسه فعاد به إلى الأصول الصافية للدين، مُطَّرِحاً عنها ما علِقَ بها مما ليس منها، مطمئناً إلى أنه ليس كل موروث بأصيل، وليس كل موروث وإن كان أصيلاً بضروري لعصرنا حتى وإن كان نافعاً وضرورياً لعصرٍ سلف، وكان محكه في ذلك مصلحةَ مجموع الأمة التي يرى محمد عمارة أنها تتطلب الحفاظ على تمايزها الحضاري وتحقيق استقلالها السياسي والاقتصادي، وتنمية مصادر ثروتها لتحقيق الرخاء لجمهورها العريض، وتحرير عقلها من التخلف الموروث، ومن الوافد الغربي الذي يسعى لمسخ هويتها القومية ونسخ ذاتيتها الحضارية وتحويلها إلى هامشٍ للحضارة الغربية الغازية.
وكلماته الآنفة الذكر تكشف لنا عمق فهمه للواقع الاجتماعي، أو على نحو أدق تكشف لنا استيعابه للدين باعتباره محركاً ومحراكاً اجتماعياً يحرض الأمة على الانطلاق نحو التحرر والاستقلال، لذلك لم يكن الدين لديه نقيضاً للثورة، لأنه يدرك الدين باعتباره ثورة على الجهل والفقر والعبودية والتخلف والتبعية، ولم يكن الدين لديه نقيضاً للقومية العربية ما دمنا نعني بالعروبة الرابطة الحضارية المنزهة عن العِرق والجنس والعصبية، وندرك بذلك المسؤولية الخاصة للعرب تجاه الإسلام ونشره وتأسيس دولته والحفاظ على تاريخه، ولم يكن الإسلام لديه ضد الوطنية ما دام إيمان الإنسان بوطنه وأرضه وشعبه جزءاً من إيمانه بربه، الذي وهبه وطناً وجعله مسؤولاً عن حمايته، وأرضاً وجعله مسؤولاً عن إعمارها، وشعباً وجعله مسؤولاً عن التواصل والتعاون معه.
 
لم يكن الإسلام لدى محمد عمارة نقيضاً لهموم المثقف المعاصر، ولم يكن تغييباً لها أو قفزاً عليها، بقدر ما كان إذكاءً لها بعد منحها عمقاً روحياً يكون فيه إعمار الإنسان لدنياه إعماراً لآخرته في آن، في الوقت نفسه أدرك محمد عمارة أن الإسلام إنما هو نقيض النزعة الطبقية التي اعتبرها وافداً على البساطة العربية والمساواة الإسلامية، والإسلام نقيض لعصر الحريم الذي يَعدُّ المرأة مِن سَقَطِ المتاع، والإسلام نقيض للتواكل الذي أورث هذه الأمة العجز وصرفها عما حثها عليه الدين الحنيف من تمجيد للعمل ودعوة إلى عمارة الأرض.
 
في هذا الإطار دارت دراسات محمد عمارة، فكانت درساً مرةً ودرساً في الدرس مرة أخرى، انصبَّ اهتمامه على القضايا التي تمس الأمة، كالعروبة، والثورة، والوحدة الوطنية، والعدل الاجتماعي، والوعي التاريخي متلمساً خلال ذلك النماذج المثلى التي ينبغي أن يكون عليها المفكر المسلم، وقام محمد عمارة بذلك بإحياء جهود عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ومحمد جمال الدين الأفغاني وعلي مبارك ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين فكان درسه لهم درساً في الدرس، علينا ونحن نحتفي هذا المساء بمحمد عمارة أن نحتفي بالنهج الذي سلكه والعقل الذي آمن به الوعي الذي جاهد من أجله، والسلام عليكم.
 
الشيخ عبد المقصود خوجه: شكراً لسعادة الأستاذ سعيد السريحي، الآن جاء دورنا ليتحدث ضيفنا الكبير الأستاذ محمد عمارة ونرجو من الأخوة الحضور كالمتبع بعد كلمته أن يقدموا لنا أسئلتهم بشكل موجز، وبسؤال واحد حتى يتسع الوقت لأن نطرح كل الأسئلة على ضيفنا الكريم، وشكراً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :616  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 85
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج