دور "خواطر مصرَّحة" و"وحي الصحراء" في عملية التنوير الفكري والأدبي .. |
(وللرعيل الأول من الأدباء فضل لا يجحده إلا من لم يُقدِّر لذوي الجهود جهودهم، ولكن ليس معنى ذلك أن هؤلاء أجادوا في كل ما كتبوه، وكيف تتيسر لهم الجودة قبل أن تتوفر لهم أداوتها الكاملة، فهم لا يجدون طريقًا ممهدًا ولا أرضًا معبدة ليبنوا عليها القصور الشواهق والحدائق الغّناء، وإنما وجدوا طريقاً كله صخر وحفر فكان همهم منصرفًا لتعبيد الطرق، كما قال المازني عن نفسه وعن زملائه من الرعيل الأول للأدباء في مصر). |
هذه العبارة افتتح بها الناقد السيد إبراهيم فيلالي "مرصاده" الأدبي وهي توضح المعاناة التي لقيها رواد الكلمة في بلادنا قبل ما يقرب من ثمانين عامًا أو حولها، ويمكن التأريخ للبداية الحقيقية التي شهد الأدب في بلادنا انطلاقته الأولى والحقيقية بكتاب الرائد والأديب الكبير محمد حسن عواد والمعروف باسم "خواطر مصرَّحة". |
وقد ذكر الأستاذ عمر عرب وهو من الجيل الأول من أدباء بلادنا، حيث إن ولادته كانت سنة 1318هـ بينما كانت ولادة العواد سنة 1324هـ، وحمزة شحاتة سنة 1328هـ، وأحمد قنديل سنة 1330هـ، ذكر عرب أن السنة التي ظهر فيها كتاب "خواطر مصرَّحة" سنة 1345هـ، أبرز سنة في حياته ـ كأديب، محددًا هذا البروز لجهة أنه كان بمثابة إعلان لميلاد "اتجاه جديد في الفكر صقل اتجاهه القديم وقذف إلى نفسه إيمانًا بضرورة هذه الثورة الجهيرة التي زحفت على قيم الأدب القديم". |
ولنستمع إلى كلمات الرجل الذي نشر الأدب في بلادنا فكان بذلك أكثر من صانعيه كما يقول المرحوم الأستاذ محمد حسين زيدان ونعني به الأستاذ محمد سرور الصبان، والذي كتب كلمة موجزة عن هذه الخواطر فقال فيها: "إن نحن إلا أبناء وطن نريد إصلاحه، ونسعى لنقيم العدل فننزع إلى مكارم الأخلاق"، ويصف خواطر الأستاذ عواد بقوله: "وهذه الخواطر إنما هي العنوان البارز لهذه الحقيقة، هي إنجيل الثورة الفكرية في هذه البلاد"، أما الأديب الأستاذ عبدالوهاب آشي فلقد أخذ في كلمته التي قدم فيها لهذه الخواطر على الأستاذ العواد تغنيه بالغرب، ولقد نظر الأستاذ الآشي إلى الغرب من الناحية السياسية الصرفة حيث كانت الدول الأوروبية تسعى لبسط نفوذها على العالم العربي بعد سقوط الدولة العثمانية المسلمة، لذا نجد اعتراضه يتحدد في هذه العبارات "ولكن رويداً ما هو الغرب وعجائبه؟.. أليس هو أوروبا التي لا تزال تهددنا بأهوالها ـ لا عجائبها -؟ وتجد في سحق معنوياتنا وجه السكون؟ وهل ما أنجبت سوى المدمرات والموبقات"؟!. |
كان سفر "العوّاد" هو أول بيان فردي لأديب سعودي بعد توحيد أرجاء هذه البلاد تحت راية واحدة، مع أن العواد ومجايلين له قد أبدعوا قبل هذه الحقبة، ولعله الشعور بالأمان والطمأنينة بعد فترة عصيبة وحرجة من الفرقة والشتات والضياع. |
أما أول بيان جماعي لأدبائنا فلقد مثّله بجدارة كتاب "وحي الصحراء" للأستاذين محمد سعيد عبدالمقصود وعبدالله بلخير، وضم الكتاب إنتاج ما يقرب من اثنين وعشرين أديبًا وشاعرًا ـ معظمهم من مدن مكة المكرمة، والمدينة المنورة وجدة-، ولقد صدر الكتاب بعد مرور عقد كامل من الزمن بعد صدور "خواطر" العواد أي سنة 1355هـ، وهي السنة التي أصدر فيها الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري بالمدينة المنورة أعرق مجلة أدبية في بلادنا، ونعني بها "المنهل" وتبعه في عام 1356هـ رفيقاه علي وعثمان حافظ بإصدار أعرق صحيفة موجودة بين أيدينا وهي صحيفة المدينة المنورة. |
تميز "وحي الصحراء" أيضًا بأن كتب أحد رواد الأدب في العالم العربي، وهو الأديب الدكتور محمد حسين هيكل، مقدمة له وإذا كان أستاذنا الدكتور منصور إبراهيم الحازمي يرى أنه لم تكن حاجة لهذه المقدمة ـ حيث ذكر ذلك ـ في حفل تكريم الرائد محمد سعيد عبدالمقصود، في رحاب جامعة أم القرى بمكة المكرمة، فإنني أميل إلى رأي الأديب الدكتور عبدالله مناع والذي التقطت أذناي كلماته "لقد كان ذلك الجيل يتطلع إلى شيء من الوجاهة، فطلبوا من الأديب هيكل كتابة المقدمة والتي حاول فيها الدكتور هيكل أن يربط بين ظهور هذه المجموعة من كتّاب البلاد السعودية وبين النهضة الحديثة في الأدب الحديث، والتي عزا انبثاقها للبلاد المصرية والشامية حيث قال: "هذه النهضة التي بدأت في مصر وفي سوريا منذ بدأت فيها الأحداث السياسية في طلب الحرية منذ أكثر من نصف قرن". [انظر: مقدمة كتاب وحي الصحراء، الطبعة الثانية برعاية مؤسسة تهامة، سنة 1403هـ، 1983م، ص: 21-22، برعاية المثقف والإعلامي المعروف محمد سعيد طيب]. |
وربط الدكتور هيكل أيضاً بين أدب هذه المجموعة من الأدباء وبين ماضي الأدب العريق في بلادهم، حيث يقول موضحًا هذه الفكرة: "ثم إن الأدب يتأثر دائمًا بالبيئة التي تحيط به في المكان كما تتأثر بأحداث الزمان، وإذا كانت هذه الأحداث قد بعثته في الحجاز حتى جعلت أهله يتطلعون إلى غيرهم من الأمم المجاورة لهم، فإن البيئة العربية الصحيحة التي لم تتغير قد بقي لها أثرها في هذا الأدب شأن كل بيئة في أية أمة من الأمم، ولعل أثر البيئة الطبيعية أكثر وضوحًا في شعر أدباء الحجاز منه في نثرهم". إلا أن الدكتور هيكل الذي أدرك أثر البيئة في أدب هذه النخبة وذكر كذلك أثر النهضة الأدبية في حواضر مصر والشام عليها، لم يلتفت إلى أن الأدب في الحقبة الماضية ـ كان محصورًا في الكتّاب والأدباء الذين نزحوا إلى إقليم الحجاز لباعث معروف وهو الثورة العربية التي قادها الشريف الحسين من مكة ضد الدولة العثمانية، ولكنه خسر الرهان في المعركة حيث إن الدول الغربية كانت ترمي من وراء تحالفها مع العرب ضد العثمانيين إلى بسط نفوذها الاستعماري على البلاد العربية، ولقد خاطب أديب المدينة المنورة وشاعرها المعروف الشيخ محمد العمري المتوفى سنة 1365هـ أولئك القوم الذين وثقوا في عهود الغرب وخصوصًا الإنجليز منهم خاطبهم سنة 1335هـ محذرًا فقال: |
فقل لي متى وفت بعهد لحاكم |
فهل هو إلا العهد من بعده الغصب؟ |
|
وهو يعني بريطانيا التي خذلت العرب في كل المواقف وخصوصًا في القضية الفلسطينية. |
أما التمهيد الذي كتبه الأستاذ محمد سعيد عبدالمقصود بعنوان: "الأدب الحجازي والتاريخ" فيعد من وجهة نظر الناقدين أول دراسة علمية لتاريخ الأدب في بلادنا، بدأها كاتبها من العصر الجاهلي ومرورًا بصدر الإسلام ثم العصر الأموي ثم العصرين العباسي الأول والثاني، ثم العصور المتأخرة والتي عرفت بعصور الانحطاط الفكري والأدبي وهي القرون العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ـ الهجرية ـ وإن لم تخل هذه العصور من ومضات فكرية وأدبية كما هو الحال في ظهور شعراء متميزين من أمثال جعفر البيتي في القرن الثاني عشر وإبراهيم الأسكوبي وعبدالجليل برادة وأنور عشقي ومحمد العمري وعبدالواحد الأشرم في أواخر القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر الهجريين. |
وما دونه الرائد محمد سعيد عبدالمقصود من تأريخ موضوعي وعلمي للأدب في بلادنا كان في الأصل جملة من المقالات المتتابعة التي نشرها في صحيفة صوت الحجاز سنة 1353هـ. [انظر: د. منصور إبراهيم الحازمي، معجم المصادر الأدبية، ج2، صحيفة صوت الحجاز، من سنة 1350هـ إلى سنة 1360هـ، ط1، 1426هـ، ص 299 - 300]. |
لقد أثرى الأديب محمد سعيد عبدالمقصود الأدب في بلادنا، رغم سني عمره القصيرة والتي عاشها في مهبط الوحي، ومتنزل رسالة الحب والتسامح والرحمة وهي الفترة الزمنية المحددة بين 1324هـ -1360هـ، وأن الباحث ليجد في ما جمعه الأستاذ والمربي حسين الغريبي من آثار هذا الرائد الكبير وفي ما دونه الناقد الأستاذ الدكتور محمد سعد بن حسين، وفي الإصدار الخاص الذي أخرجه ابنه البار الأديب عبدالمقصود خوجه، وفي ما كتبه أستاذنا الباحث الدكتور محمود حسن زيني، وفي بحوث وكتابات أخرى، ليجد في هذه الإصدارات ما يسد شيئًا من الفراغ عن هذا الرائد والذي يحمد لجامعة أم القرى برعاية الصديق الدكتور ناصر عبدالله الصالح احتفاؤها به وبالرموز الأخرى المضيئة في حياتنا الفكرية والثقافية والأدبية والتعليمية. |
|