الرائد ناصر المنقور وذكريات طالب في ديار الغرب..! |
حططنا الرّحال في ديار الإنجليز مع نهاية عام 1979م، كانت بريطانيا خارجة لتوّها من شتاء الاستياء أو الغضب (Winter of discontent)، والتي أدت أحداثه إلى سقوط رئيس الوزراء العمالي آنذاك جيمس كالاهان (Callaghan) وصعود نجم مارجريت تاتشر، وبقائها في الحكم لمدة تزيد عن العقد من الزمن، وكان حظي أن أحصل على مقعد لدراسة اللغة الإنجليزية في (ستيفزنزون كوليج) بمؤازرة من الزميل والأخ الكريم معالي الدكتور عدنان محمّد وزان مدير جامعة أم القرى حاليًا. |
كان علينا أن نتردد بين الحين والآخر على الملحقية التعليمية أو الثقافية، التي ترعى الطلاب السعوديين ومقرها لندن، وكان الشيخ عبدالعزيز بن منصور التركي هو الشخصية المحورية في الملحقية آنذاك، وكان اسم معالي الشيخ ناصر المنقور ليس غريباً على أذهاننا، فلقد ارتبط اسمه بجامعة الرياض (الملك سعود حاليًا)، وأظنه قد خلف الدكتور عبدالوهّاب عزّام في إدارة هذه الجامعة العريقة. |
مع بداية الثمانينيات الميلادية تكوّن نادي الطلاب السعوديين في بريطانيا، وكان للزملاء الكرام الدكاترة مرزوق بن تنباك، عبدالرزاق سلطان، عبدالرحمن المطرودي، عدنان وزان، عوض القوزي، عبدالله المعطاني، حسين الذواد، سامي حبيب، محمّد الأحمد وسواهم، دور في نشأة هذا النادي، الذي توسعت قنواته الآن تحت رعاية الأخ الكريم الدكتور عبدالله الناصر. |
كان التعاون وثيقًا بين الملحقية الثقافية والسفارة السعودية في تلك الحقبة، وكان يقام في كل عام حفل يحضره جميع الطلاب السعوديين ويتولى الشيخ المنقور الإجابة فيه على أسئلة الطلاب على مختلف منازعهم ومشاربهم، ولن أنسى كيف كان المرحوم يمسك بالميكرفون في تؤدة وثبات، ويتسع صدره لكل الأسئلة، ويقابل حماس الطلاب الذي يتبدى في ارتفاع أصواتهم، وحدة أسئلتهم، برحابة صدر وتسامح، تغيب حكمتهما عن كثير ممن يفترض فيهم اتّساع هذه المساحة وقدرتها على ترويض العقول والنفوس الجامحة، وعلى الرغم من المناصب العديدة التي تبوّأها الشيخ المنقور -رحمه الله- داخل بلاده، ومنها عضوية مجلس الوزراء وزيرًا للدولة في بداية الثمانينيات الهجرية – الستينيات الميلادية، وغير ذلك من المناصب إلا أن الغرور والزهو بالمنصب لم يأخذه أو يقترب من شخصيته، فالكبار دائمًا تتزين بهم المناصب، لأنها أصغر من حجم نفوسهم الكبيرة والمليئة بحب واحترام الآخرين. |
ولعلّه بعد مضي أكثر من ربع قرن من الزمن على تلك الذكريات، التي ارتبطت بحقبة الدراسة في الغرب، يمكن الحديث عن الخلاف الذي نشأ بين الملحقية الثقافية ورئاسة نادي الطلاب السعوديين في الفترة التي كان يرأس النادي فيها الزميل الدكتور عبدالرحمن المطرودي، وصادف أن أنال ثقة زملائي، وفي مقدمتهم الدكتور عصام بن يحيى فيلالي، بترشيحي رئيسًا لمجلة النادي، والتي ضمت في عضوية تحريرها أيضًا الزملاء والدكاترة الكرام حسن صالح جمال، وجميل مغربي، ومحمّد آل زلفة، وأنس حسن زارع، وسعد الحميدي.. وغيرهم، وسبقني في الإشراف على تحريرها الزميلان الكريمان: الدكتور عوض بن حمد القوزي، وعبدالله بن سالم المعطاني، وكنت في زيارة الشيخ المنقور للسلام عليه، فطلب منّي في أدب الكبار، وتجلّد الحكماء من الرجال، أن أقوم بدور في حلّ ذلك الخلاف العابر، ولقد كان الزميل الدكتور المطرودي سبّاقًا للخير، واليوم، بعيدًا عن كل مجاملة، حيث سنين الكهولة والحصاد، والدعاء بحسن الختام، اليوم، وقد تفرّقت بزملاء الأمس دروب الحياة المختلفة، ونالهم من أحوالها وصروفها المتعددة، والدالة على حكمة الخالق ووحدانيته ومشيئته الأزلية، فإنّ الدور الذي أداه كل من الأخوة: ابن تنباك، والمطرودي، وعبدالرزاق سلطان كان دورًا رياديًا، وقد ارتبط الزميل المطرودي بعلاقات شتّى، مكنته أن يترك وراءه في صندوق النادي من الدعم المالي ما جعله قادرًا على تحدي الصعاب، وساهم النادي في حل كثير من مشاكل الطلبة السعوديين وغيرهم. |
في مساء يوم مطير وعاصف من أيام مدينة (مانشيستر)، حيث كنت أعدّ رسالة الدكتوراه تحت إشراف المستشرق المعروف إدموند بوزورثC.B. Bozorth)،) ومحرر (الموسوعة الإسلامية)، كتاب (تراث الإسلام)، (The Legacy of Islam)، في أجزائه الثلاثة بالاشتراك مع زميله شاخت (Schacht). |
في ذلك المساء سمعت طرقًا خفيفًا على باب الشقة في (وزنقتون) في (هيتون روود)، فتحت الباب متوجسًا، فإذا بالزميل الدكتور المطرودي بصحبة الزميل الوقور الدكتور محمّد الجبر، وبعد أن جلس.. قال لي ما أتذكره: إكرامًا للزمالة والصداقة التي تربطني بك -وكان هذا في حقبة رئاسة الزميل الفيلالي للنادي- فإنني سوف أقوم بزيارة الشيخ المنقور، وتنتهي القضية المعلقة. |
كانت كلمات الزميل المطرودي تخرج من نفس صادقة، طُبعت على الوفاء واحترام الآخرين، وكنت أعرف مدى الغبن الذي حلّ به لفترة من الزمن، ولكنه تجاوز ذلك كله انطلاقًا من مبادئ المصلحة العامة، التي يفترض أن تقدم على كل مصلحة، والدرس الذي حاولت الخروج به من هذه القضية هو أنه كان بإمكان الشيخ المنقور -رحمه الله- حل هذه القضية بوسائل أخرى، ولكنه عالجها، وخلفه ذلك التراث العريق من تجارب الدهر، بالحكمة والتريث، وعدم التعجّل في إصدار الأحكام أو استباق النتائج. |
كثيرة هي المواقف التي تحتفظ بها الذاكرة عن هذا الرجل، ولكنني أختمها أيضًا بما يدخل في باب تقديره لأبنائه الطلاب آنذاك، مدركًا أنهم سوف يكونون رجال المستقبل؛ أو الغد القريب، فعندما استطاع السياسي المخضرم اللورد بيتر كارنغتون (Lord Carrington)، والذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومة مارجريت تاتشر الأولى (1979-1983م)، أن يمدّ جسور التفاهم بين بريطانيا والدول العربية، وأن يكبح جماح تاتشر، المعروفة بالهوى اليهودي القادم من دائرة فنشلي (Finchley)، وقتذاك قام الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله- بزيارة لبريطانيا، وأعد حفل استقبال كبير لجلالته في فندق (الدور شستر)، فأصرّ الشيخ المنقور بتنسيق مع الوالد الشيخ عبدالعزيز التركي، بأن يكون للطلاب السعوديين دور في ذلك الاستقبال، وكنت، والزميل الكريم الأستاذ الدكتور محمّد عمر نصيف، نمثل فرع النادي في مدينة (لانكستر) مع بقية الزملاء، وكان حدثًا كبيرًا في حياتنا كطلاب، وعندما انتقل الملك خالد إلى رحمة الله، توجهت كاميرات التلفزيون إلى دار (كارنغتون) بعد اعتزاله الحياة السياسية، وقبل أن يصبح أمينًا عامًا لحلف الأطلسي، فتحدث بلغة إنجليزية راقية، لا يجيدها إلا القلة من رجال السياسة في بريطانيا، وأشاد بحقبة الملك خالد في رعاية شعبه ونصرة القضايا العربية، وللأسف الشديد أننا لا نحسن ما تحسنه الجمعيات اليهودية والصهيونية من استقطاب أسماء الساسة والمفكرين المتعاطفين مع قضاياهم، وكنت أتساءل: هل نسينا رجالاً رفعوا أصواتهم عالية في مجلسي العموم واللوردات لنصرة قضايانا؟! حيت يأتي كارنغتون والراحل كريستوفر مايهو Christopher Mayhew في مقدمة هذه الأصوات المعتدلة، والتي ضحّت بالكثير من أجل أن يكون هناك صوت عربي مسموع في (ويستمنستر). |
رحم الله الشيخ المنقور، الذي اختار أن يرقد بعيدًا عن أرض الوطن، ولكنه قريب منه بما أعطاه وبذله في مسيرة تزيد عن نصف قرن من الزمن، ولعلّ في جعبة أستاذنا معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر وآخرين ما لا نعرفه عن حياة هذا الرائد، ولا أخالهم إلا فاعلين. |
|